هربن من أرضٍ تهمس للإنسان أن يقتل أخاه ليتسلّم الحكم. شهدن على تمزّق عائلاتهن بين قبر وسجن. عشن صراعاً بين حقيقة من هو القاتل ومن هو المقتول، بين الظالم والمظلوم، بين شريعة الله وشريعة الدولة.
إنها قصة نساء سوريات يؤدّين ملحمة "أنتيجون" على خشبة "مسرح المدينة" في الحمرا- بيروت، من 10 ديسمبر إلى 12 منه. "أنتيجون السورية" مولود ورشة عمل مكثٌفة على امتداد 8 أسابيع شاركت فيها حوالى 30 امرأة سورية اُخترن من مخيمي صبرا وشاتيلا في لبنان، أنتجتها شركة Aperta Productions سعياً إلى إقامة مشروع فني علاجي يساعد نساء آتيات من بيئات محرومة اجتماعياً واقتصادياً على الإيمان بالحياة مجدداً.
المسرحية مستوحاة من التراجيديا الإغريقية "أنتيجون"، التي كتبها سوفوكليس عام 441 ق.م، وموضوعها خلاف بين ابنَيْ الملك أوديب على الحكم، بعد أن لعنهما الملك وتمنى أن يقتل أحدهما الآخر، وغادر المدينة. يتفق الأخ الأكبر إيتيوكليس مع خاله كريون على طرد الأخ الأصغر بولينيس، فيتقاتل الأخان ولا ينجو أيّ منهما من الموت. كريون يصبح الملك ويقرر دفن جثمان حليفه إيتيوكليس في احتفال يليق ببطل عظيم، بينما يأمر بعدم دفن بولينيس وترك جثته مكشوفة عقاباً لخيانته العظمى. أنتيجون، شقيقة الأخوين، تقرر تحدي السلطة ودفن أخيها الأصغر بطريقة محترمة، فيزجّ بها كريون في الحبس، وتقتل نفسها. بعد محاولة إقناع الملك بترك أنتيجون حرة، يذهب ابنه هيمون الذي هو خطيب أنتيجون إلى السجن ليكتشف أن خطيبته ميتة، فيقتل نفسه، وتعود زوجة كريون لتنهي حياتها أيضاً من شدة الحزن، ليبقى كريون متألماً وتائهاً في الحزن والأسى.
المرأة السورية اليوم تعيش صراعاً بين لعب دور أنتيجون وبين الامتثال للسلطة. اللاجئات اللواتي يخضن هذه التجربة يمثلن كل نساء سوريا، وهذا ما يعطي أداءهنّ في المسرحية بعداً واقعياً. فضلاً عن ذلك، تحاول مسرحية أنتيجون سوريا التأكيد أن على المرأة، مهما كان الموقف الذي تتخذه، أن تلعب في المجتمع دوراً أساسياً لا ثانوياً، لأن باستطاعتها أيضاً أن تقلب أمةً رأساً على عقب من دون أن تخوض حرباً.
الجلوس وسط السيدات خلال التدريبات، النظر إلى حركات أجسادهن، سماع أصواتهن الداخلية، رؤية الذكريات في أعينهن، كل ذلك يُسرّع من نبضات القلب. معاناة هؤلاء اللاجئات الشخصية كبيرة ومتشعبة. وما يزيد الأمر صعوبة، هو التمييز الذي يواجهنه في لبنان.
يحدث أن تحضر المشاركات في “أنتيجون سوريا” ورش التدريب مع أطفالهنّ، ويودعهن في روضة قريبة بشارع الجميزة. ذات مرة لدى اصطحابهن الأولاد كالمعتاد إلى الروضة، تجمهرت حول البوسطة التي تنقلهنّ مجموعةٌ من نساء الحيّ ورحن يكلن إليهنّ الشتائم. استمرّت الحال هذه حتى وصول عناصر من مفرزة الشرطة، لمعرفة سبب وجود اللاجئات وأولادهنّ خارج المخيّمات! المضايقات التي تعرضت اللاجئات لها لا تعدّ ولا تحصى، حتى في المخيمات الفلسطينية التي تحتضنهن مع عائلاتهن. اللاجئون الفلسطينيون غير راضين عن أن يشاركهم لاجئون آخرون في "أرضهم"، لعدم أهلية المخيمات لاستقبال المزيد من طالبي الأمن والإقامة، أو ببساطة، لأن التمييز يولّد التمييز.
تتحدّث الممثلات عن آراء أزواجهن في التجربة التي يخضنها في المسرح. يعلو ضحكهنّ في المقر مرفقاً بعبارات ساخرة عن رجالهن للتعبير عن استهزاء بعض هؤلاء بالمهمة التي تأخذ عقول زوجاتهم، وعن رفض بعضهم الآخر خوض نسائهم تجربة التمثيل، وهو ما حثّ غير واحدة منهن على المجيء سرّاً إلى التمرين. من الممثلات من ترفض الكلام والظهور في الصور أو الفيديو، مفضّلة بقاء الأمر في الخفاء. أما عن الدافع الذي أتى بهن إلى خشبة المسرح، فتراوح أجوبتهن بين "لأرتاح من صفعات زوجي"، و"لأطلق صوتي عالياً في وجه العنف"، و لـ"أرتاح من مأساتي، فعندما أقوم بالتمارين مع زميلاتي، أنسى همومي وألمي...".
فدوى (69 عاماً)، فلسطينية– سورية من مخيم اليرموك. عاشت مع 18 فرداً من عائلتها في غرفتين في بدء لجوئها إلى لبنان. القهر في عينيها يتوزع بين فقدان ابنها في لبنان غرقاً في البحر تاركاً 5 أولاد، وبين استشهاد ابنها الثاني قبل شهرين في مخيم اليرموك بعد أن كان محاصراً مع غيره من اللاجئين الفلسطينيين داخل المخيم، ودون أن تتمكن من دفنه ولا ضمّه بين ذراعيها للمرة الأخيرة. ورشة العمل المسرحي ساعدتها على الخروج من بؤسها. التمثيل بالنسبة إليها "هو تلك البسمة التي نرسمها على الوجه لإخفاء الجرح الداخلي".
ظريفة (29 عاماً) من حلب، لم ترغب في مغادرة منزلها في سوريا خلال الأحداث إلى أن ازدادت الضغوط عليها وعلى عائلتها. كانت تملك وزوجها محلاً للأحذية في حلب، وآخر لتحضير المأكولات، لكنها فقدت كل شيء، حتى منزلها. لديها 5 أولاد، 3 منهم في عمر 14 و12 و11 يعملون في "المول" ومحل للخياطة ومحل لبيع العصافير. وبرغم شوقها إلى بلدها، تتمنى ألا تنتهي التجربة المسرحية التي تزودها بجرعة حرية لم تعرف مذاقها من قبل.
منى (27 عاماً) من الشام، تنسى الخوف عندما تكون في المسرح. تشعر أنها وزميلاتها حرّات خلال ورشة العمل، بإمكانهن أن يعبرن عن كل ما في داخلهن، برغم اختلاف وجهات النظر. تألمت منى كثيراً خلال الأحداث السورية، خصوصاً عندما عجزت عن تأمين العلاج لابنها المصاب بالسرطان، فتوفي العام 2012. وفي اليوم التالي توفي ابن خالها عن عمر 17 سنة برصاص قناص.
مؤسّسا شركة Aperta، مخرجة الأفلام السورية عتاب عزام، وممثل الأفلام والمسرح الأمريكي هال سكاردينو Hal Scardino، بالإضافة إلى مدربة التمثيل العراقية البريطانية دينا موسوي، ومخرج المسرح السوري عمر أبو سعدة، والممثلة والمدربة السورية حلا عمران، وكاتب السيناريو السوري محمد العطّار، تبنوا جميعاً تلك التجربة في لبنان كقضية إنسانية سامية، وحرصوا في كل لقاء مع اللاجئات على الدخول إلى عمق المأساة التي يعشنها، لعلهم يعالجون جروحهن الداخلية بالفن المسرحي.
هذه التجربة ليست الأولى للمخرج عمر أبو سعدة مع لاجئات سوريات. ففي العام الماضي عمل مع شركة Aperta على مشروع "نساء طروادة" المسرحي في الأردن. ولكن ما يميز المشروع الحالي بالنسبة إليه، هو تفاعل النساء الواعي مع قصة أنتيجون. أراد عمر اكتشاف عالم اللاجئات، فأُعجب بهن لانفتاحهن على فريق العمل والمسرح. التحدي الأكبر الذي واجهه هو محاولة مساعدتهن على إكمال نشاطهن وإيجاد وظائف أو هوايات لهن بعد انتهاء المشروع، إذ عندما تصبح المرأة منتجة يغدو من الصعب إعادتها إلى حياتها السابقة.
الممثلة حلا عمران تشعر بالخجل حين تنظر إلى اللاجئات وتفتخر بتلك الطاقة العظيمة التي يملكنها للبحث عن الحياة في ثغرات صغيرة. أما عن التمييز الممارس ضد السوريين في لبنان، فلدى حلا رأي مثير للاهتمام. هي ترى أن التمييز أصاب البلاد العربية كلها، لكنّ الفرق أن ثمة أناساً في لبنان يسلطون الضوء على تلك الظاهرة من أجل معالجتها، بينما في دول أخرى مثل الأردن، لا أحد يتحدث عن التمييز، كما لو أنه غير موجود.
أمّا المخرجة عتاب عزام، فتلفت إلى أن دور المرأة مهمٌ جداً في إعادة إحياء مجتمع مزقته الأحداث. وترى أن العمل المسرحي حاول علاج كل امرأة من اللاجئات، ليس بمعاملتها كضحية بل بتعزيز ثقتها بنفسها.
تُعدّ التمارين المسرحيّة، أو العلاج بالدراما، من أكثر التجارب حميمة التي يمكن لمجموعة من الأشخاص أن يخوضوها متّحدين، لأنهم يمكثون في مكان واحد يتشاركون داخله في الأفكار والمشاعر والتجارب، ويعملون معاً لإتمام عملٍ يستطيعون إمراره إلى الآخرين. الخيار وقع على التراجيديا الإغريقية أنتيجون، التي تمت إعادة إحيائها مرات عدة منذ أن كتبها سوفوكليس، لأنها من أكثر الأعمال الفلسفية-السياسية نجاحاً في التاريخ، بتحديدها أسباب الديكتاتورية ونتائجها، وتمرّد الشعب عليها. وسوريا اليوم لا تخلو من الأمثال لإعادة إحياء نصّ أنتيجون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...