شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
فقراء فى بلاد الذهب

فقراء فى بلاد الذهب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأربعاء 31 مايو 201705:53 م
عملت رانيا غنيم لمدة قاربت عشر سنوات في مدينة أسوان في جنوب مصر كمرشدة سياحية، وهي مهنة قد تبدو لمعظم الأشخاص قليلة المشاكل، غير أن لها متاعبها مثل أي مهنة. لم تتصور رانيا أن تصل  بها الحال إلى أن تجد نفسها في صباح يوم دافىء، مهددة على يد من اعتاد حمايتها هناك!

لم تتخيل أن يأتي يوم تجد نفسها فيه في مواجهة “عم حربي”، سائق الحنطور الذي لطالما ركبت معه هي وزبائنها. يحتل عم حربي اليوم مرسى المراكب في أسوان، عصاه الغليظة فى إحدى يديه، بينما تتكىء الأخرى على طاهر، إبنه الأصغر، ووراءه تجمع سائقو الحناطير في موقف متأزم؛ فقد قرروا اليوم حلّ أزمتهم بأنفسهم، وبالقوة إن لزم الأمر.

يستخدم السياح الحنطور للتنزه في إحدى أكبر المدن السياحية في مصر، التي يعتمد معظم قاطنيها على المدخول الذي تدرّه السياحة.  بعد الثورة، والغياب الملحوظ للأمن، تراجع عدد السياح لمعدلات لم تشهدها المدينة من قبل، ما جعل الجميع على شفى الإفلاس. أصبح الكل غاضباً، يشكو سوء الحال. لذا قرر سائقو الحنطور أن يتجمعوا أمام مرسى المراكب السياحية، وسط المدينة، ليمنعوا الأفواج السياحية من ركوب الأوتوبيسات، ويجبروهم على الركوب معهم!

تصف رانيا المشهد بأنه أقرب ما يكون إلى العبث، كيف يتجمع سائقو الحنطور ليفرضوا على السياح ركوب الحناطير بالقوة؟ “كيف تخيلوا أنه يمكننا أن نرضخ لهذا الابتزاز؟”.

تحاول رانيا إقناع سائقي الحنطور بأن الشركات السياحية لن تقبل بذلك، حتى لو رضخ المرشدون. ولكن بعد أن يبدأ السائحون المنتظرون في المركب في التململ لضياع الوقت، تضطر أن ترضخ رانيا وتكمل الجولة باستخدام الحناطير دون أن تبلغ السائحين بما حدث أو ما تشعر به.

ينتهي يوم عم حربي ومعه ما يكفي ليطعم عائلته ولكنه غير راض عما اضطر فعله حتى يحصل على تلك الأموال.
يجلس عم حربي على المقعد الخشبي أمام بيته المتواضع على أطراف السوق القديم. نحاوره ونسأله "جرى لك ايه يا راجل يا طيب ؟" يجيب وفي عينه نظرة خجل وحزن: "لسنا بلطجية يا ولدي، لكننا بشر لدينا أسراً نعيلها. أعلم أن ما فعلناه ليس عين الصواب، لكن الفقر يا ولدي يورث الكفر، ومنذ الثورة ونحن نقول كل يوم: غدا حتماً سيكون أفضل، فلنصبر عسى الله يفرجها علينا... لكن بلغ منا العوز مبلغه، فماذا نفعل؟"

قبل الثورة كان العم حربي يقوم بمعدل ثلاث أو أربع جولات في الليلة الواحدة. سعر الجولة في حدود 100 جنيه. ينفق منها على الحصان وصيانة العربة، والباقي يمكنه من العيش "مرتاح" كما تقول العامة. لكن اليوم، كثيراً ما يمر أسبوع على حاله دون أن يركب معه زبون واحد. عم حربي لا يخجل من إعلانه رفضه وكرهه للثورة التي لم تجلب في نظره إلا “الخراب وانقطاع الأرزاق”.

يوجد في المدينة من يتعاطف مع عم حربي ويتفهم دوافعه مثل الأستاذ بهجت جورجي، المسؤول عن أحد المراسي. رفض بهجت الحديث في البداية ولكن بعد إلحاح انفجر "هؤلاء هم أهلي وناسي،  قطعاً أرفض ما يفعله سائقو الحناطير لكن هم بشر، من لحم ودم، من سيطعم عيالهم!"، ثم أضاف: "المشكلة أكبر من أزمة سائقي الحناطير. الأزمة تطال الكل هنا، العاملون في المحلات، المطاعم، الفنادق، سائقوا التاكسي... الكل شريك فى المعاناة".

يرى الأستاذ خالد فتح الله، مدير أحد المراكب السياحية العائمة في النيل في أسوان أن التحولات المجتمعية مثل تلك التي حدثت لـ حربي، نتيجة متوقعة لتغيّر الحال، فدخل أكثر من 65% من سكان أسوان يعتمد على السياحة، لذا تأثروا بقوة لانهيار هذا القطاع نتيجة الإنفلات الأمني.

يدلل خالد على كلامه "بأن مجرى النيل فيه قرابة 280 مركب سياحي عائم، الآن فقط 55 مركب تعمل والباقي توقف تماماً". حتى تلك المراكب لا تعمل بكامل طاقتها بل نسبة الأشغال فيها في حدود 20% فقط، لكنه يضيف أن تلك النسبة تعد أفضل قليلاً من فنادق المدينة التي وصلت النسبة فيها إلى 15% فقط. الوضع المتأزم أجبر الكل على تخفيض العمالة وبالتالي زاد عدد العاطلين فى طرقات المدينة التى ما عرفت قبل ذلك للبطالة معنى.
تركنا المدينة التي كانت تعرف يوما ما ببلاد الذهب، واليوم باتت طرقاتها تشكو الخواء والفقر. طوال طريق العودة راودنا هذا السؤال: هل لو عادت السياحة للمدينة يوماً ما يمكن أن تعود الثقة بين رانيا وعم حربي؟

في بداية القرن الماضي غنّى السيد درويش من ألحانه وكلمات أمين صدقي أغنية "العربجية" (سائقي العربة أو الحنطور). وفي أحد مقاطع الأغنية يقول : "أكلنا إحنا والبهايم يا أسطى زاد الطاق إثنين / نعيش إزاي ياناس يا إخواننا العدل فين / ياهوه ورانا عيال غلابة ياكلوا منين / لإمتى نفضل ساكتين كده جاتنا البين / بتوع الترمواي هم اللى ياناس جابوا داغنا نعمل إزاي". وكأن الزمن ومصائبه ما زالت تراوح مكانها. يمكنكم الإستماع إلى أغنية "العربجية" هنا بصوت الفنان المصري "حازم شاهين".

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image