لكل شخص فرصة عمل يعدّها حلم حياته. تختلف الأهواء والأحلام والقدرات وتختلف معها الفرص. البعض يحب مهنة والبعض الآخر يمقتها، لكن يصعب أن تجد أحداً يرفض فرصة للعمل في الأمم المتحدة، وتحديداً في المقر الرئيسي في نيويورك. إنه المكان الأمثل لكثيرين يحلمون بمنصب يتيح لهم حظوة اجتماعية، ويلبي تلك الرغبة التي تتملك كثيرين في مقتبل العمر: تغيير العالم. العمل في المقر الرئيسي للأمم المتحدة يحظى بهالة من المثالية والمهنية تميزه من وظائف كثيرة أخرى. نغبط هؤلاء الذين يعملون على الملفات المشتعلة، يتابعون تطبيق الهدنة في سوريا، يديرون مفاوضات السلام في اليمن، يتولون الشأن العراقي… لكن الوضع من الداخل لا يبدو بهذه المثالية.
قليلة هي المعلومات التي تأتي من داخل هذا المقر، فالموظفون، كما المسؤولون، يلتزمون السرية التامة بشأن عملهم. لكن الرسالة الساخرة والمشوقة التي نشرها موظف سابق، مجهول الهوية، في صحيفة الغارديان البريطانية أتت لتكشف الوجه الآخر لهذا المقر.
يروي الموظف السابق القصة من أولها. تستغرق آليات التوظيف في الأمم المتحدة حوالي 284 يوماً. في تلك المرحلة يكون المرشح للوظيفة مشبعاً بالأفكار المثالية، التي تساعده في تخطي لوجستيات التوظيف المربكة. تبدأ بعد ذلك عملية المراوحة وفقدان الأمل، مع مرور الوقت الطويل، ليتلقى في الساعات الأخيرة جواباً مرفقاً بطلب مستعجل لإجراء بعض الطعوم الصحية للحصبة والكوليرا والحساسية وغيرها، قبل أن يتلقى تذكرة الطائرة في الساعات الأخيرة لموعد الرحيل. متسلحاً بها يبدأ موظف الأمم المتحدة رحلته الأعظم في الحياة.
المرحلة الثانية من الرواية/ الرسالة مخصصة للعمل الميداني. هنا تبدأ الرحلة. يرتدي الموظف سترة الأمم المتحدة، يتسلح بالمبادئ التي تشرّبها مسبقاً، وبدفتر لتسجيل الملاحظات، وبمقر مؤقت يقيه حرارة الشمس. يبدأ العمل في نطاق مسؤولية المجموعة، حيث يجري توثيق التحركات المسلحة، والمآسي الإنسانية، ومن وقت لآخر، انتهاكات حقوق الإنسان. يذهب، كموظف أممي، حيث الملائكة تذهب، والأهم أنه يذهب حيث لا يجرؤ الآخرون أن يذهبوا.
في بعض الأحيان، يشعر الموظف بالعجز عن المساعدة، ويبدأ بالتساؤل عما إذا كان يلزمه المزيد من التدريب - بشأن دوره أو الوضع في البلاد حيث يعمل- ويتذكر بأن أيام التدريب الثلاثة التي تلقاها في العاصمة قبل بدء مهمته، وجرى تنبيهه خلالها من الاختلاط الكبير مع السكان المحليين، ومن المشروبات الكحولية المحلية، قد لا تكون كافية. ثم يشرع الشخص في التفكير في آليات التعامل النفسية مع واقع الانتقال من العمل في بلدة هادئة حيث يحتل شجار بين بقرتين الصفحات الأولى، إلى مدينة يعد فيها القتلى ويضطر للتعامل مع سائقه الجريح الذي أصيب على إحدى نقاط التفتيش.
لتزداد الأمور تعقيداً، تبدأ مرحلة الشكوك بشأن جدية بعض الزملاء أو المسؤولين. يرسل الموظف التقارير عما يدور حوله من دون أن يتلقى أجوبة في المقابل. بالطبع تلك التقارير هي التي ينجح بإرسالها، عدا تلك التي يواجه صعوبة في إيصالها للإبلاغ عن خطورة الوضع الذي يحيط به. أما التحذير الذي يتلقاه بشأن الخطر على حياته، فيُترك لمراحل متأخرة، وربما لليوم الذي يتم فيه الإجلاء، لأن المسلحين بدأوا الهجوم على مقارّ حكومية.
في مرحلة لاحقة، بحسب شهادة الموظف السابق، ينتقل الرجل من الميدان للعمل في المكتب المؤقت في العاصمة، وهناك يبدأ بفهم كيف تسير الأمور عملياً. يفهم حينها لماذا كان يتم تجاهل تقاريره. السياسة هناك أهم من "الأضرار الجانبية" التي كان يحاول توثيقها، كما حصل مع الرجال العشرة الذين اختفوا من أحد السجون، ليظهروا لاحقاً جثثاً تغطيها آثار التعذيب.
في المرحلة الثالثة. يحين موعد "اليوم المشرق". يتلقى الموظف اتصالاً يبلغه بأن الفرصة سانحة ليستثمر خبراته المتراكمة وراء مكتب في المقر الرئيسي للأمم المتحدة. حينها يقول الموظف "السعيد" لنفسه "أخيراً... أخيراً يمكن أن أصنع شيئاً فارقاً. إنها الفرصة لتغيير النظام من الداخل. النظام الذي كان يعوق عملي أثناء تأدية مهماتي في الميدان". ويعتقد الموظف بأن الوقت حان ليلقن هؤلاء درساً عن طبيعة العمل الميداني وظروفه، وعما اختبره من خطر الموت والهجمات المتطرفة والمناضلين الإنسانيين، واضطرابات ما بعد الصدمة، والوحدة، والإدمان. ويسرّ لنفسه بأنه لن يرتاح قبل أن يعيد هيكلة منظمة أحلامه وإصلاحها.
لكنه يصطدم بالواقع. لقد أصبح لديه مكتب (ليس خيمة أو مستودع)، وهاتف وحاسوب وشبكة إنترنت فائقة السرعة. يتجول الزملاء حوله ببزّات "أرماني"، يحملون القهوة قرابة العاشرة والربع، يمرون بجانبه وينظرون بشفقة مزدرية لمن انكب جاهداً للعمل قرابة ساعتين متواصلتين. هناك لا مهمات طارئة، إذ كل شيء بالإمكان أن ينتظر، إنها أوراق لا أكثر.
هناك، لا يوجد عائلات مرهقة تنتظر أمام الباب لتسمع خبراً عن أولاد أو أقارب مختفين، لا وجوه تتضور جوعاً وهي تلاحق سيارة الأمم التي تتجول في المخيم، لا أرامل، ولا أمهات أو آباء يتوسلون دقيقة من وقت الموظف. لم يعد يحتاج الآن للعمل في عطلة نهاية الأسبوع، فلا أحد يقوم بذلك. الجميع يتوقعون، بل يطلبون، منك أن تأخذ عطلاتك لا العكس.
في هذا الموقع، يقول الموظف السابق، يمكن لموظف المقر الرئيسي أن يتزوج وينجب الأولاد. فبعد عقود عمل ميداني كانت لا تتخطى الستة أشهر، هنا العقد لمدة سنتين، والراتب الشهري مغر جداً. والضمان الصحي متوفر. والتعليم مجاني للأطفال. عدا معونات الإيجار. والامتيازات، والعلاوة الدورية…
يكتشف الموظف روعة الحياة في هذه الشبكة المريحة. لكن يبقى ذلك الإحساس الداخلي بالهشاشة، إذ يفهم مع مرور الوقت صعوبة، لا بل خطورة التغيير، أو حتى المحاولة. مصير ذلك الموظف، الذي أصر على فضح التحرش الجنسي لجماعة حفظ السلام بالسكان المحليين، خير مثال، لقد لُفّقت له إحدى التهم الداخلية التافهة، فتراجع منصبه، ونقل للعمل في إحدى الغابات البعيدة.
رويداً رويداً، يبدأ الموظف بتعلم معنى الخوف. هل يمكن تنبيه المدير بشأن خطأ داخلي تم ارتكابه؟ هل يمكن التواصل مع طرف خارجي بشأن فساد داخلي في المنظمة؟ هل يمكن الظهور في حفل وداع أحد الموظفين الذي يكرهه مديرك المباشر؟ هل وهل؟ وبالطبع، لا داعي للذكر بأن كل ما يحصل يُعرف، فليس كل الزملاء يريدون الخير بعضهم لبعض، اللهاث وراء النجاح والظهور في المقر الرئيسي مرعبان. في لحظة يشعر الموظف أن مستقبله بين أيدي الزملاء. بإمكان "الزملاء الخيرين" أن يرسلوا الموظف إلى مواقع متأخرة، وأن يعيدوه إلى وطنه، وأن يحرموه فرصة عمره.
في عز خوفه، يبدأ بالتساؤل عما يمكن أن يكون الحال عليه إذا فقد الامتيازات التي يملكها اليوم، إن خسر الفرصة لمعاملة خاصة في المطارات، إن فقد جواز السفر الديبلوماسي أو الامتيازات الجمركية، وماذا سيشعر إن خسر حظوته لدى الديبلوماسيين والمسؤولين المحليين؟ يفكر في ذلك كله، يخاف، فيسكت. حينها يبدأ بالتطبع مع الأخطاء، مع الممارسات اللاأخلاقية، مع الأداء اللامهني. يبتعد عن الأضواء ويبدأ بتناسي كلمة "مشكلات"، إذ "لا مشكلات في الأمم المتحدة"، بل "تحديات" فقط. وهكذا، يبدأ شيء ما بالتصلب في داخله، ومع ارتفاع المنصب يتعلم كيف ينظر إلى الأمام مباشرة ويتفادى أي موقف قد يعرّض موقعه للخطر.
وفي مرحلة متقدمة، تتابع الشهادة، يتعلم عضو الأمم المتحدة كيف يوظف آخرين لا يشكلون خطراً على مركزه، من ذوي الأداء المتوسط الذين يتماهون مع الوضع القائم. وهكذا يجري إبعاد "الثوريين" الذين يريدون التغيير. وفي بعض الأحيان، يتم اختيار أحد المميزين، الذين يسيرون، بشكل مدروس، خارج الخط القائم، ليُقدم نموذجاً عن أداء الأمم المتحدة المتميز.
وعندما ينجح الشخص في أن يصبح "صانع الخوف"، يمكن أن يضع نفسه خارج المساءلة. وفي الحصيلة، يبقى التحدي الأساسي في الحفاظ على الوضع القائم. وعندما يتعلم الشخص هذه القاعدة، يضع نفسه خارج دائرة الخطر. تؤكد ذلك القاعدة الذهبية: لا عمر للتقاعد لدى المسؤولين في الأمم المتحدة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Apple User -
منذ 4 ساعاتHi
Apple User -
منذ 4 ساعاتHi
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا