يعرف معظم الناس نجيب محفوظ كروائي كبير كتب عشرات الروايات الهامة التي تحوّل الكثير منها إلى أفلام سينمائية، ويعرفونه كروائي عربي فاز بجائزة نوبل للآداب. غير أن قلّة تعرف أنه أيضاً سيناريست محترف.
كيف كانت البداية؟
ولكي نعرف حكاية نجيب محفوظ مع السيناريو، تفيدنا معرفة ما قاله للكاتب جمال الغيطاني في أحد حواراته الصحافية المنشورة في عدد قديم من جريدة الأخبار المصرية. قال محفوظ: "السينما دخلت حياتي من الخارج. لم أكن أعرف عنها شيئاً. نعم. كنت أحب أن أشاهد الأفلام. كل ما كنت أعرفه أن هذا الفيلم لرودلف فاللنتينو أو لماري بيكفورد... إلخ. لم أكن أعرف أن هنالك كاتب سيناريو أو غيره. وفي سنة 1947 قال لي صديقي فؤاد نويرة: صلاح أبو سيف المخرج عايز يقابلك. وفي ذاك الصيف، قابلنا صلاح أبو سيف في شركة تلحمي للسينما. هنالك قال لي أبو سيف: في الواقع أنا قرأت عبث الأقدار وتبيّنت فيها أنك من الممكن أن تكون كاتب سيناريو جيّداً. أنا لديّ قصة "عنتر وعبلة". قلت: ليست لديّ فكرة عن الموضوع. فقال: معلهش، ستعرف السيناريو. وفؤاد شجعني على قبول العرض".
وتابع: "ثم بدأ أبو سيف يطلب مني أمراً بعد آخر. مثلاً يقول لي موضوع عنتر وعبلة كذا كذا. فأكتب له عشر صفحات للقصة، وأذهب لتسليمها وأنا أظن أن مهمتي انتهت. فيقرأها على أصحاب الشركة فيوافقون. وإذا به يقول لي: نحن لم نبدأ بعد! إن هذه فكرة الموضوع ونريد تحويلها إلى سيناريو! وقال أيضاً: تخيّل الفيلم، وأي نقطة سنبدأ بها؟ وبدأ يشرح لي الموضوع وأنا أطبّق ذلك عملياً بعد المعالجة. علّمني تقسيم المناظر. وبعد أن قرأ نتيجة عملي أهدى لي كتباً في فن السيناريو واشتريت أنا بعض الكتب الأخرى. وفي النهاية لقد تعلمت السيناريو على يد صلاح أبو سيف".
ماذا قدّم محفوظ السيناريست للسينما؟
تخرّج محفوظ من مدرسة صلاح أبو سيف السينمائية ليقدم لنا عدداً كبيراً من الأفلام السينمائية التي استعرضها الناقد سمير فريد في كتابه "نجيب محفوظ والسينما".
يخبرنا الكتاب عن سلسلة من الأفلام التي كتب محفوظ سيناريوهاتها في نهاية الأربعينيات وفي الخمسينيات وهي: المنتقم (1947)، مغامرات عنتر وعبلة (1948)، لك يوم يا ظالم (1951)، ريا وسكينة (1953)، جعلوني مجرماً (1954)، فتوات الحسينية (1954)، شباب امرأة (1957)، النمرود (1956)، الفتوة (1957) مجرم في أجازة (1958)، جميلة (1958)، الطريق المسدود (1958)، أنا حرة (1959)، واحنا التلامذة (1959).
وقد توقّف تعاون نجيب محفوظ مع صانعي الأفلام منذ عام 1959، بسبب تولّيه وظيفة رئاسة هيئة الرقابة الفنية، ثم عاد في بداية السبعينيات.
وفي كتاب "السيناريو والسيناريست في السينما المصرية" لسمير الجمل، جاء ذكر القصص التي كتبها محفوظ للسينما. ونقرأ: "للسينما خصيصاً كتب نجيب محفوظ قصصاً لم تنشر، ولن يقرأها أحد ولكن الملايين شاهدتها عندما تحولت إلى أفلام، ومنها فتوات الحسينية، درب المهابيل، بين السما والأرض، الناصر صلاح الدين، ثمن الحرية، دلال المصرية، الاختيار، ذات الوجهين، وكالة البلح، الخادمة (1984)، وهو الفيلم الذي انتجته نادية الجندي وبعده قرر محفوظ مقاطعة السينما تماماً، ولكنه لم يغلق الباب أمام تحويل رواياته الأدبية إلى أعمال سينمائية وتلفزيونية".
ومن الأفلام الأخرى التي ارتبط اسم محفوظ بها "امبراطورية ميم" (1972)، المذنبون (1975)، والوحش (1954).
دور محفوظ في السينما
وعن دور محفوظ السينمائي، قال الناقد محمود عبد الشكور لرصيف22: "دور نجيب محفوظ في السينما لا يقل أهمية عن دوره كروائي. فقد كان أحد كتاب السيناريو البارزين، وكان رئيساً لمؤسسة السينما، ومديراً للرقابة على المصنفات الفنية".
وتابع: "من أعماله الهامة في مجال السيناريو أو القصة السينمائية أعماله مع صلاح أبو سيف الذي علمه كتابة السيناريو... ومشاركته في كتابة سيناريو فيلم الناصر صلاح الدين، واشتراكه مع يوسف شاهين في فيلم "الاختيار". كما قدّم سيناريوهات لروايات إحسان عبد القدوس مثل الطريق المسدود، وهو الذي أعدّ للسينما قصة إحسان عبد القدوس ‘إمبراطورية ميم’".
وأضاف: "إنها سيناريوهات جيّدة ومتماسكة، ولعل أفضل ما فيها هو بناء الشخصيات، أو على حد تعبير فريد شوقي: "نجيب كان بيعمل خرسانة الشخصية ويقوم ببناء تفاصيلها". ومن أفلام محفوظ المميزة التي كتب قصتها في الخمسينيات فيلم "فتوات الحسينية" الذي يمثل إرهاصاً مبكراً لعالم الفتوات الذين ظهروا في ما بعد في رواياته".
محفوظ الرقيب
وعن دور محفوظ كرقيب، قال عبد الشكور إنه "كان رقيباً ملتزماً للغاية بالقوانين. وتذكر بعض المصادر أنه رفض روايته "القاهرة الجديدة" جرياً على عادة الرقباء السابقين".
وأضاف: "في كل الأحوال، ومهما كانت صحة هذه الرواية، فإن محفوظ الموظف كان أعلى صوتاً من محفوظ المبدع، وهو عموماً لم يكن يشعر بحريته الكاملة إلا عندما يكتب".
والقصة هي أن نجيب محفوظ تولّى وظيفة رسمية هي رئاسة هيئة الرقابة الفنية عام 1959 وبقي يشغلها حتى نهاية الستينيات، وكان شديد التحفظ في ممارسته هذه الوظيفة التي أتت بعد ثورة الضباط الأحرار وهدفت إلى تنقية الأفلام من الأباحية والسياسة.
وقدّم الباحث والمؤرخ مكرم سلامة، وهو أحد أهم جامعي الوثائق في مصر والعالم العربي، ثلاثة سيناريوهات تحمل ترخيص الرقابة على الأفلام في مصر، وتعود إلى فترة تولي محفوظ لرئاسة الرقابة، وهي: "البنات والصيف"، "صائد الرجال"، و"أبناء وعشاق"... وعلى تراخيص تلك السيناريوهات توجد ملاحظات على بعض المشاهد كتبها محفوظ بخط يده. كما أنه كان يحذف بعض المشاهد، بحجة أنها لا "تراعي الحشمة والآداب العامة".
وفي حوار أجراه معه رجاء النقاش، ونشره في الشروق تحت عنوان "صفحات من مذكرات نجيب محفوظ"، يقول فيه محفوظ: " قبولي لمنصب مدير عام الرقابة، رسم على وجه الكثيرين من أصدقائي وقرّائي علامة استفهام كبيرة، فكيف أكون رجلاً يدعو للحرية وينادي بها ويتخذ من الديمقراطية شعاراً ثابتاً له، ثم يرضى أن يكون رقيباً على الفن، ويحدّ من حرّية الفنانين؟".
وأجاب: "إن الرقابة، كما فهمتها، ليست فنية، ولا تتعرَّض للفن أو قيمته، ووظيفتها، ببساطة، أن تحمي سياسة الدولة العليا وتمنع الدخول في مشاكل دينية قد تؤدّي إلى الفتنة الطائفية، ثم المحافظة على الآداب العامة وقيم المجتمع وتقاليده في حدود المعقول، وفي ما عدا ذلك يحقّ للفنان أن يقول ما يشاء، ويعبِّر عن نفسه بالأسلوب الذي يراه مناسباً".
يمكنك أن تقول بكل اطمئنان أن محفوظ الذي أخذ نوبل للآداب يستحق أيضاً جائزة الأوسكار كأحسن سيناريست
وتابع: "طوال الفترة التي أمضيتها بالرقابة كنت منحازاً للفنّ، رغم أن الأجواء بها تحمل روح العداء للفنّ، ولم أشعر، في لحظة من اللحظات، أنني أخون نفسي كأديب وفنّان، بل كانت أسعد أيام حياتي الوظيفية هي تلك التي أمضيتها في الرقابة، رغم المضايقات الكثيرة التي تعرضت لها من هؤلاء الذين لا يؤمنون بأن الرقابة يمكن أن تكون نصيراً للفن. واتَّخذت قراراً بوقف تعاملاتي مع السينما طوال فترة رئاستي للرقابة. كانت هناك بعض التعاقدات السابقة، وتلك لم أتدخَّل فيها، لكني رفضت أي تعاقدات جديدة إلى أن تركت عملي بالرقابة".
تحليل لأبرز أعماله السينمائية
عرض تحقيق صحافي كتبه الناقد الفني عثمان لطفي، واستعرضه سمير الجمل في كتابه المذكور، بعض المحطات الهامة في تاريخ السينما من خلال بعض أعمال محفوظ. وقال: "كتب نجيب محفوظ مع صلاح أبو سيف سيناريو فيلم "ريا وسكينة" الذي يعتبر من أنجح الأفلام الواقعية، لأنه أول فيلم مصري يصوّر الحياة اليومية في حي فقير بالاسكندرية من خلال قصة العصابة الشهيرة التي هزّت مصر في العشرينيات والتي كانت تخطف النساء وتقتلهن لسرقة مجوهراتهن بزعامة امرأتين هما ريا وسكينة".
وفي هذا الصدد، أوضح المخرج المصري سامي رافع، صاحب فيلم "رامي الاعتصامي"، لرصيف22 أن "نجيب محفوظ تحوّل في فيلم ريا وسكينة من تلميذ يتلقى تعاليم السيناريو إلى محترف حقيقي. فتلك القصة قدّمها من قبل نجيب الريحاني في مسرح الإسكندرية. غير أن محفوظ لم ينظر إلى ما قُدّم من قبل بل استوحى فيلمه من خبر القبض على العصابة في الصحف، واستطاع أن يقتلع شخصية الضابط "وحيد"، والتي قام بدورها "أنور وجدي"، ليجعلها عماداً لقصته المثيرة. وهنا تظهر الاحترافية في أكمل صورها، وهي السمة التي لازمت نجيب السيناريست في كل أعماله في ما بعد".
وأضاف رافع: "لا يمكن أن ننسى البُعد الزماني والمكاني وتأثيرهما على مصير الإنسان. ففي فيلم بين السما والأرض تقع تشكيلة مختلفة من البشر في مأزق حيث يتعطل بهم المصعد الكهربائي فيتعلقون بين السماء والأرض. هنا المكان حيّز ضيّق جداً ومع ذلك استطاع كاتبنا الكبير أن يوظف فيه مجموعة مختلفة من البشر أمثال: النسونجي، المجنون، الخادم، الزوجة الخائنة، الحرامي، الزوج العجوز الذي يوشك على الزواج من فتاة. إلخ، وعرض كيف غيّر هذا الحادث مصائرهم جميعاً".
وتابع: "أما في فيلم "المذنبون" الذي أخرجه سعيد مرزوق عام 1975 والذي تدور أحداثه حول جريمة قتل عاهرة، فتضيق دائرة الشك حول كل مَن له علاقة بالضحية لنكتشف عبر التحقيقات أن الجميع مذنب، وأن كل شخوص العمل كانوا وقت وقوع الجريمة يرتكبون جريمتهم الخاصة! وليبدو لنا واضحاً أننا نعيش في قلب الفساد. وتأتي الصدمة حين نعرف أن قاتل العاهرة هو خطيبها المصاب بالعجز، فالعجز أيضاً أداة فعّالة للقتل".
وأضاف: "لكن الاحترافية تلك وضحت أكثر من خلال تعامله مع يوسف شاهين. فإذا كان صلاح أبو سيف هو رائد مدرسة الواقعية فإن يوسف شاهين رائد للعبثية والتجريب. وهنا تأتي مرونة محفوظ الذي استطاع أن يضع قصة محكمة تعبّر عن الانفصال الذي يعاني منه المجمتع حينذاك. ففيلم "الاختيار" تدور قصته حول شقيقين توأم يحملان نفس الصفات الجسدية ولكن شتان بينهما، فالبحار مغامر وعدمي وعاشق للحياة بينما الكاتب ملتزم ومكبل بالقيود الاجتماعية. وتبدأ العقدة مع مقتل أحد الأخين، فلا نعرف مَن قتل مَن؟ ويلتبس علينا الأمر وهو التباس مقصود بالضرورة حتى نكتشف مع نهاية الفيلم أن الكاتب الذي يمثل المجتمع بتحفظاته هو من قتل الحرية".
وعن فيلم "الفتوة"، قال السيناريست سمير الجمل في كتابه المذكور: "الفتوة الذي اشترك نجيب محفوظ في كتابته مع صلاح أبو سيف والسيد بدير ومحمود صبحي هو أول تحف صلاح أبو سيف، وواحد من أهم الأفلام في تاريخ السينما المصرية والعالمية. ففي هذا الفيلم، وقبل عشرين سنة من ظهور ما عرف في إيطاليا بالسينما السياسية في أوائل السبعينيات، نرى تحليلاً تعليمياً-درامياً لآليات السوق الرأسمالي من خلال قصة تدور أحداثها في سوق الخُضَر والفواكه الكبير في منطقة روض الفرج، ونرى ربطاً بين ما يحدث في السوق وبين الطبقة الحاكمة التي تحرّك السوق لحساب مصالحها. كما يوضح الفيلم أن تغيير الأشخاص لا يغيّر آليات السوق، وأن التغيير الحقيقي لا بد أن يمتد إلى جذور الأشياء".
وفي الكتاب نفسه يعلّق الجمل على تجربة محفوظ السينمائية بقوله: "كلها محطات هامة ومضيئة في تاريخ السينما بخلاف ما قُدّم في التلفزيون. حتى يمكنك أن تقول بكل اطمئنان أن محفوظ الذي أخذ نوبل للآداب يستحق أيضاً جائزة الأوسكار كأحسن سيناريست قدم للسينما خلاصة فكره وأبرز أفكارها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...