إلى طاولة صغيرة في أحد المقاهي الشعبية في حي الميدان في دمشق، نهاية عام 2014، قبل أن يتفاقم عدد المغادرين الشباب من سوريا، يجلس صحفيان سوريان وصديقتهما، وشاب آخر يلهو بفحم النرجيلة.
يسأل الصحفيان الفتاة إذا سمعت عن شاب يلقّب بأبو جورج النصراني. فقد سمعا عنه كثيراً ولا بد أن حديثاً صحفياً مع شاب مسيحي يعرف تفاصيل كثيرة من حكايات الثورة السورية والفصائل المقاتلة، سيكون مثيراً. تجيب الصبية بالنفي، ويكمل أبو جورج النصراني، الجالس معهم إلى الطاولة نفسها من دون علمهم، الانشغال بنرجيلته.
عندما بدأت الحرب السورية عام 2011، كان سليم، وهو اسم مستعار، شاباً عاديّاً، من قرية مسيحية في بيئة مسيحية صرفة في سوريا. مهندس يعمل موظفاً حكومياً في أحد حقول النفط في دير الزور، ومنخرطاً بدرجة كبيرة مع شباب المنطقة والموظفين زملائه في البيئة الديرية البدوية وتقاليدها، ما جعله مقرباً من الناس. خرج معهم مرة أو اثنتين في تظاهراتهم ضد النظام، ثم اشتعلت الحرب وبدأ التسليح. عاش معهم كل ما عاشوه، من حصار وحرب وقصف، محافظاً بإصرار، ولمدة طويلة، على قطع نهر الفرات، الطريق الوحيد إلى حقل النفط الذي كان يعمل به، بعد قطع الطرقات جميعها بالقصف أو الحواجز، ومصراً على توصيل الأدوية من المناطق الباردة إلى داخل دير الزور.
ذات مرة، بعد أن أصبحت دير الزور مع الجيش الحر، كان واقفاً في صف طويل في مطعم حمص وفول. ناداه أحد أصدقائه. أراد أن يناديه باسم غير اسمه لئلا يعرضه للخطر، فقال: "كم رغيف مناخد أبو جورج؟". فدرجت تسميته بعدها بين أهل الدير، ثم بين الكتائب المسلحة: أبو جورج النصراني.
إليكم بعضاً من رحلة أبو جورج النصراني من الجيش الحر في دير الزور إلى الدولة الإسلامية في الرقة.
بين حمص ودمشق
حوصرت مدينة حمص القديمة في الشهر الأول عام 2012، خرج مسيحيو حي الحميدية من بيوتهم، وبقيت كتائب الجيش الحر، مع بعض العائلات التي أبت الخروج، وبدأت سلسلة طويلة من القصف والحصار. كان أبو جورج ينزل إلى حمص لتوصيل ما يعرف بالإنترنت الفضائي، ليساعد المقاتلين على التواصل، في الوقت الذي كانت تنقطع فيه الاتصالات الحكومية عن المناطق التي تتعرض للقصف. وهذا ما عرّفه إلى المجموعات في حمص، مجموعات مرتبطة بها في دير الزور. يقول أبو جورج لرصيف22: " كنت أساعد في توصيل الإنترنت، وفي تدخيل الأدوية في طريقي إلى حمص القديمة، عندما كنت أتمكن من الخروج والدخول". تعرّف حينها إلى المخرج السينمائي والناشط الشهير باسل شحادة، الذي كان يصور فيلماً عن حمص حينذاك. المسيحيان الوحيدان تقريباً، حوصرا في المدينة القديمة عشرين يوماً، ثم خرج أبو جورج عندما سنحت الفرصة، واستشهد باسل بعد أيام في مايو 2012. الأدرينالين المرتفع أصبح هواية الشاب، يغامر بروحه مرات ومرات. يروي لرصيف22 أن ما دفعه إلى كل ذلك حب المغامرة والتعرف إلى ما يحدث عن قرب، والتواجد بقرب الناس وهم في قلب معاناتهم، التي لم يختبرها أهله في القرى المسيحية آنذاك. كان يريد أن يعرف الحقائق الميدانية، بالإضافة إلى أنه ارتبط عاطفياً بالناس، كل هذا كان دافعاً أقوى من الخوف، وأكبر من قلق الاعتقال أو الخطف أو الموت. كان لدمشق نصيبها من الزيارات المثيرة إلى أحياء ساخنة، كالحجر الأسود ومخيم اليرموك. عمل أبو جورج مع بعض الشباب على إيصال الحقن والأدوية إلى داخل تلك الأحياء، ولوحق مرات عدة من دوريات الأمن أو الحواجز العسكرية المحيطة بتلك المناطق، ونجا منها جميعها.الموت المحدق في دير الزور
بقي حقل النفط نفسه مع النظام السوري حتى أواخر عام 2012، إلا أنه كان نقطة في بحر من المناطق التابعة للجيش الحر. مع ذلك كانت هناك هدنة شبه معلنة، إذ كان الطرفان يتقاسمان إنتاج وتكرير النفط والغاز في تلك المناطق بشكل واضح. كان أبو جورج وغيره من الموظفين في المنطقة ما زالوا في عملهم، ما عدا العلويين منهم، إذ خافوا من القتل واعتزلوا وظائفهم في تلك المناطق. أما البقية فيمرون على حواجز كلا الطرفين، بما أن الطرفين في حاجة إليهم، ما سهل دخول وخروج النصراني إلى المنطقة وعبوره الحواجز النظامية أولاً، والمدينة حيث الجيش الحر ثانياً. أخبرهم أحد الضباط، الذي كان مسؤولاً عن الحقل، أن عناصره بدأوا بالانشقاق، ووقعت بعدها المنطقة بيد الجيش الحر. كان يوم سبت، 20 نيسان 2013، حين قصفت المنطقة من قبل جيش النظام مع علمه بوجود الموظفين، ما اضطر أبو جورج وبعضاً من رفاقه إلى الهروب بين القرى في ريف دير الزور. لجأوا إلى بيوت يعرفونها هناك، ثم خرجوا متجهين إلى دمشق بعد هدوء الأحوال. مرة أخرى علق في دير الزور، وأصيب بشظايا قذيفة هاون. اهتم به بعض أهالي المدينة إلى أن تحسن وخرج مرة أخرى من هناك. المرة الأخيرة التي علق بها في دائرة وظيفته، كانت حين بدأت اشتباكات مسلحة بين الجيش الحر وجبهة النصرة، التي كانت قد بدأت تأخذ كثيراً من المناطق في المدينة حينها، وكانت الحرب على القطعة الحكومية التي يعمل النصراني فيها. وقد علق حتى انتهاء الاشتباكات بعد 3 أيام، ثم ودع دير الزور نهائياً، بعد أن أمّن له الجيش الحر معبراً للخروج، لأنه عرف أن الموت سيكون قريباً جداً هذه المرة.الطريق إلى داعش
قبل أواخر أيامه في دير الزور، كانت داعش بدأت بالظهور والانتشار نهاية عام 2013. بدأ الموظفون يمرون على حواجز بأعلام سوداء، إلا أنهم لم يتمكنوا من التمييز أن العلم الأسود ذاك يختلف عن علم جبهة النصرة الأسود. ولم تكشر الدولة الإسلامية عن أنيابها فوراً حينذاك، فقد ظهرت بصورة أخف وطأة مما تعرفنا إليها في الأعوام التي تلت ظهورها. تم توقيف أبو جورج و3 من رفاقه على أحد تلك الحواجز لليلة واحدة، ثم أفرج عنهم بتوصية من أحد قادة الجيش الحر. فلم تكن العلاقة سيئة بين الجيش الحر وداعش آنذاك في دير الزور. منح وقتها ورقة من الدولة الإسلامية مكتوب عليها ما يشبه التوصية إلى الحواجز التابعة لتنظيم داعش الأخرى، كي لا تتم تصفيته في ما بعد. تحمل الورقة عنوان "غير كافر"، وكان منح سابقاً ورقة مشابهة من الجيش الحر، تفيد ببراءته من النظام السوري، وبمساعدته وصداقته للجيش الحر. الحادثة تلك كانت طريقاً إلى معرفة بعض التفاصيل والشخصيات من الفصيلة التي كانت تظهر وقتها بشكل جديد في سوق الحرب السورية، وبالتالي كانت طريقاً إلى داعش. تعرف أبو جورج إلى أحد الإعلاميين من تنسيقيات مدينة الرقة، المعقل الأول للدولة الإسلامية. رجل من الرقة نفسها، إذ كان داعش يشغل كوادر محلية في المجال الإعلامي قبل أن تأتي كوادره الأجنبية الخاصة. أخبره الرجل أن داعش يدفع لهم مقابل خدماتهم الإعلامية بين 200 و400 دولار حسب العمل المنجز، وأنه سيكون في مخيم لهم في مدينة توينان جنوب غرب الرقة بخمسين كيلومتراً تقريباً، ويمكن له بما أنه يحمل ورقة غير كافر، أن يأخذه معه. آخر صيف 2014، في المخيم، كان المسيحي الوحيد بين 50 عضواً في تنظيم داعش يتدربون على القتال، ويقوم الصحافي الرقاوي بتصوير نشاطاتهم وحياتهم. يكثرون من الصلاة، ويعفون أبو جورج منها كونه مسيحياً، يملكون طائرات استطلاع بلا طيار، وأجهزة اتصالات وكاميرات متميزة. يمتعض من وجوده كثيراً منهم، ويرمقونه بنظرات غريبة، إلا أنه كان موجوداً بمواقفة إمام الكتيبة وقائدها، فما كان من الباقين إلا الموافقة. كان داعش يقيم معسكرات تدريب في صحراء الرقة الواسعة، وكان قد بدأ يمتلك من الأرض ما يكفي ليعلن دولته الإسلامية، وكانت الرقة ودير الزور أصبحتا إمارتين بامتياز. في الرقة، مرّ الشباب بالمدينة بعد المخيم، قبل الخروج من ولاية الحكم الإسلامي. كانت الأحوال طبيعية مع بعض التأخير في الزمن، تدفع عائلة مسيحية مصرة على البقاء هناك، وبقي منها حتى اليوم صبية واحدة، الجزية، إلا أنهم يعفونهم من المبالغ الهائلة كونهم عائلة فقيرة. ويصلي الجميع في المساجد الصلوات الخمس. تنطفئ شعلة الحياة في الساعة الرابعة بعد الظهر، والنساء مخمرات أو منقبات في أحسن الأحوال. بعد داعش، اعتزل النصراني المغامرات ومرافقة المقاتلين، يقول: "مللنا كثيراً، تعبنا من الخسارات، يجب أن نسافر". ومع أنه ما زال في سوريا حتى اليوم، يجول بين مكان عمله في حقل جديد، وبين مدن الساحل السوري، ونادراً ما يتردد إلى دمشق، إلا أنه يحتاج الخروج، فقد نجا كثيراً من الموت، إلا أنه خسر كثيراً أيضاً.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع