“أنا فلسطيني، لست عربياً إسرائيلياً، ولدت في القدس لعائلة متدينة وحياة بسيطة، لدرجة أنك منذ الصغر تدرك كيف ستكون الحياة المرسومة أمامك. كنت ولداً خجولاً وحسّاساً، لكنني منذ أول المراهقة كنت أعرف أنني سأخرج من قيود هذه الحياة.”
بهذه الكلمات اجابني سامي عن كلّ ما كان يدور في رأسي من تساؤلات. هو أول رجل فلسطيني مولود في فلسطين أحاوره عن الهوية والجنسية والشعور بالولادة داخل قفص خيزران. فالفلسطيني في أي حوار يمتلك “فرصة مؤاتية” كونه نشأ تحت الاحتلال الذي يجرّده من الكثير من إنسانيته، لكنه يقويه. فيبدو الحوار قاسياً عاكساً قسوة التعايش العربي-العبري ناهيك بالصراع الموجود مهما كان الحديث.
الحاجة أولاً ربما للنضوج المبكر كونه الأصغر من 7 إخوة دفعت سامي إلى تحدّي العادات الاجتماعية المحافظة. في سن السادسة عشرة، ترك البيت والمدرسة ليعمل في فندق إسرائيلي في القدس ويخرج من سور القدس وكلّ ما يعنيه هذا السور. فالمدرسة تُدخِل كل شاب في قلب المعاناة الفلسطينية، ولماذا يدرس؟ ليجلس في البيت بعد ذلك؟ الأفضل هو الخروج من المجتمع للتغلّب عليه. الحياة في القدس هدفها الرئيسي هو الزواج المبكّر وإنجاب الاولاد، وذلك يؤجج الفقر والأزمة السكنية والبطالة والإحباط، من دون حتى المقدرة على الحلم بأي مستقبل، أو التمكّن من التحدث عن مشاعرك وطموحاتك. بذلك الفكر المبكّر، خرج سامي التميمي من بيته، من دون مباركة والديه، ودخل سوق العمل والحياة بخطوات ثابتة.
غسلُ الصحون والعملُ في مطبخ الفندق الإسرائيلي علّماه العبري، ولغته العربية “صدّت” قليلاً، فكلامه يخرج بالعربي، لكنني أسمعه بالعبري. يقول إنه لا يتكلّم العربية منذ استقرّ في لندن، لكنه ما زال على اتصال مستمر بعائلته ويزور بلده رغم أن معنوياته تتأثر كلّما زار القدس. فالحائط خلق شطراً في عائلته. إلى ذلك، حياة الفلسطينيين اليوم لم تعد أكثر من معاناة: الموارد قليلة والفرص أقلّ، وذلك يخلق مشاكل كبيرة من أتفه الأشياء بين الفلسطينيين أنفسهم. السياسة لا تعنيه كثيراً اليوم، سامي يؤمّن لنفسه حياة تعكس شخصه وطموحه، لم يستغن عن هويته، لكنه اختار ان يكون سامي التميمي.
الشيف سامي اليوم من أشهر أسماء عالم المطاعم في العاصمة البريطانية، المركز العالمي لكل من أراد تذوق أفضل المطابخ في مدينة واحدة. مطبخ سامي مستلهم من طعام والدته، فهو يعمل بمكوّنات المطبخ الفلسطيني مهما خرج عن المعتاد. سامي شريك مؤسس ل Ottolenghi و Nopi يقدّم ثلاث وجبات يومياً في خمسة مطاعم منتشرة في أرجاء لندن. فريقه يضمّ 40 شيف\طبّاخ في المطبخ (ما عدا الندل والفريق المساعد الكبير من إدارة وبائعين ومن يشتري المكونات والإدارة…). هذا الفريق يسعى إلى تقديم الجديد شهريا،ً فيبحثون عن نكهات جديدة مثل طبق “يقطين مع لبنة وعسل مع المريمية”، أو "بطاطا حلوة بالفرن مع البابا غنّوج والرمّان والريحان".
[br/]
[br/]
[br/]
هذا الإبداع يتطلّب عملاً جماعياً منفتحاً. تعرّف سامي على شريكه يوتام اوتّولنغي عندما كانا يعملان عند سيدة إسرائيلية في لندن، في مطعم Baker & Spice الشهير. ثمّ خرجا ليؤسسا مشروعهما وحلمهما. نهاره طويل جداً، فمطاعمه تعمل يومياً، وبالإضافة إلى الطهو والإشراف وابتكار الجديد دائماً، يمارس سامي رياضة الركض يومياً للمحافظة على اللياقة. فحياته الطعام الطيب، ومع ذلك، هو رشيق جدّاً وأعوامه الـ48 لا تبدو عليه.
سألته لماذا المطبخ العربي والمطاعم العربية أينما ذهبنا تعيسة مقارنة بما نأكله في البيوت العربية، من المغرب إلى عمان مروراً بالقاهرة والرياض؟ وكأنني كبست الزرّ: المطبخ العربي والمطاعم العربية “مقرفة”، فلا الخضروات موسمية ولا تجد أي موهبة في المطبخ. أنا حياتي الطعام، أنا أبدع كلّ يوم. تدخل المطعم العربي في أوروبا أو البلاد العربية، وعامل الاستقبال والنادل والمدير لا ينظرون حتى في وجهك، وغياب العنصر النسائي ينعكس جلياً على المطبخ والمنتج والتقديم والجو، الأكل يصبح عملية خالية من أي شعور. الدليل على ذلك، لا يعرف أي أحد في دائرته يستطيع أن يذكر مطعماً عربياً واحداً يشتهي أن يأكل فيه. ويضيف: "تتفاقم هذه الظاهرة لأن عالمنا العربي ليس صريحاً، فالروّاد العرب نادراً ما يعطون أي نقد سلبياً كان أو إيجابياً، يعتبرون ذلك غير مقبول اجتماعياً، إلى درجة أننا نفتقر حتّى لناقدي الطعام Food critics. عاداتنا العربية الاجتماعية لا تشجع الابتكار وتمسّكنا بوصفاتنا من دون أي تجديد لا يساهم في خلق حوار حول أفضل المطاعم والطبّاخين، وذلك أمر مدهش كون حسابات الطعام على إنستاغرام لها متابعون بعشرات الملايين يتلصصون على الأطباق الدسمة بشراهة الإنستاغرامر في كرسيه. سامي يعتبر أنيسة حلو من القلائل الفعّالين كـFood critic فهي تجمع الشخصية مع الذوق والخبرة. سألت سامي إن كان غياب المرأة عن المطاعم العربية جعلها تقدّم وجبات سريعة في أفضل المقارنات، فكان جوابه سريعاً: حتماً، حتماً، غيابها يقتل روح الطعام.
سامي يطمح لنشر منجد عن المطبخ الفلسطيني، يتطلب سنين عمل يوثّق من خلاله ويحكي قصّة المطبخ الفلسطيني. سامي تميمي نجح، ويبدو النجاح عليه، فابتسامته عند تقييم مشواره واسعة. نجح ليقول لعائلته ولكلّ المقدسيين إن المثابرة توصلك إلى النجاح. سامي نجح لأنه ركض وراء الفرصة، واستمع لقلبه وليس لعقله. نعم يعمل مع شريك إسرائيلي، لكنه يؤكّد أن فلسطين محتلّة، فالعرب واليهود حيث نشأ تحكمهم علاقة طويلة وتعايشوا طويلاً تماماً مثل العائلة الواحدة، اليوم المشاكل بينهم كبيرة وغداً قد تنجلي.
[br/]
[br/]
أكلته المفضلة البامية بالزيت مع الأرز وصدر له كتابا طبخ: OTTOLENGHI: THE COOKBOOK والقدس. التقيت سامي في الرابعة بعد ظهر أمس في Nopi، كان المطعم شبه مليء بالرواد، لكنني لم أتذوق إلا كوباً من الماء ماركة Hildon.
[br/]
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...