يقول أبو الطب أبقراط إن "الحرب هي المدرسة الحقيقية للأطباء". وتكشف الدراسات أن القرن الأكثر دموية في تاريخ البشرية (1850-1945) شهد أكبر التطورات في المجال الطبي، ودفع إلى الأمام بعجلة الممارسات والابتكارات الطبية. "إيجابيات حرب" ربما تحتاج المنطقة العربية لعقود طويلة جداً كي تعيشها وربما لن تعيشها. لكن الأكيد أن الإفادة من النزيف الحاد في الجسم الطبي السوري وقبله العراقي والليبي واليمني، سيكون لمصلحة من يتلقفه في الخارج ليستفيد من خبراته. أما الأوبئة المستجدة في الحروب، فستجد من يدرسها ويبتكر عقاقير لها، لكن ليس أصحابها، فهؤلاء سيدفعون ثمن هذه العقاقير باهظاً بعد أجيال، وقد يكون أحفادهم حقل تجارب لها.
النزيف السوري في الجسم الطبي وبنيته التحتية حاد، والطبيب السوري، أي الذي لم يقتل أو يخطف، يداوي الناس وهو عليل. لكن ليس في سوريا، إنما في البلدان التي فتحت له المجال للاستفادة من خبراته وعلى رأسها ألمانيا. أما القلة الباقية في سوريا، فهي إما تصارع باللحم الحي بعد تدمير المستشفيات، والنقص المرعب في الأدوية، أو تعد العدة للفرار.
"هل قلتم أضرار جانبية؟"
قبل أيام خرجت منظمة "أطباء بلا حدود" لتحذر من "وضع شاذ يتحول طبيعياً"، يتجاهله العالم العاجز تماماً أمام مأساة لم يشهد العالم لها مثيلاً منذ الحرب العالمية. لم يكن تحذير المنظمة الأول، فالنزاع يزداد وحشية، والحرب المنهجية الشرسة على القطاع تؤكد أن ما يوصف بالخسائر الجانبية في الحروب يتحول إلى أعظمها. النظام الطبي والأطباء والمسعفون مستهدفون، والقطاع برمته ينهار. أما الجديد في كلام المنظمة، فهو التحذير من انهيار النظام الطبي في شمال البلاد، الذي يواجه حصاراً وتدميراَ ممنهجاً لبناه التحتية وكوادره البشرية. ولكن من يهتم فعلاً؟ الجسد برمته يتلاشى، فمن يسأل عن تعطل أحد أطرافه؟ قبل اندلاع الحرب، كان هناك 31 ألف طبيب في سوريا، بحسب تقديرات وزارة الصحة، فر اليوم أكثر من نصفهم خارج البلاد، واعتقل وقتل العشرات منهم. وفي آخر الإحصاءات لناشطين سوريين، لا يمكن تأكيدها تماماً، نحو 60% من المستشفيات خارج الخدمة أو بالكاد تعمل، بينما انخفض الإنتاج المحلي للأدوية بنسبة 70% بعد تدمير 25 معملاً للأدوية. وانخفض عدد العاملين في المجال الصحي إلى 45% منذ عام 2012. علماً أن الهجمات الأولى على الأطباء وعمال الإغاثة بدأت منذ الأشهر الأولى مع اغتيال طبيب في درعا، ثم اعتقال أطباء ومسعفين في حلب، وعمد لاحقاً النظام إلى اعتقال أطباء وممرضين وممرضات وصيادلة، خلال تأديتهم عملهم. وجرى تعذيب المئات منهم واستخدامهم دروعاً بشرية، إضافة إلى استهداف سيارات الإسعاف بالصواريخ ورصاص القناصة، وتدمير منشآت طبية ومصانع للأدوية. حتى أن الحكومة عمدت لاحقاً إلى إصدار قانون يجرّم عمليات تقديم الرعاية الطبية لأيّ شخص يُشتبه في أنه معارض للنظام. الأطباء وقعوا ضحية الجماعات المسلحة بدورهم، فجرى تصفية العديد منهم، وخطفهم واستخدامهم لمعالجة جرحاها، وثمة من الأطباء من التحق طوعاً بهذه الجماعات ليس فقط من سوريا بل من العالم، مثلاً كان "الإنجاز" الأبرز لـ"داعش" في هذا الصدد افتتاح كلية للطب.تعددت الأسباب وهجرة الأطباء واحدة
تباهى السوريون لسنوات طويلة بنظام الرعاية الصحية لديهم. استفادوا من الطبابة المجانية في المستشفيات الحكومية والعيادات الخاصة، بينما استثمرت الدولة السورية طوال النصف الثاني من القرن العشرين في قطاع الصحة العام. وخرجت وزارة الصحة لتعلن ارتفاع متوسط عمر الفرد من 56 عاماً سنة 1970 إلى 73.1 عاماً سنة 2009. بينما انخفضت نسبة وفيات حديثي الولادة من 132 مولوداً لكل ألف، إلى ما لا يتعدى الـ17. وبحلول العام 2010، كان 83% من الأطفال يتلقّون لقاح شلل الأطفال، مقارنة بـ13% قبل ثلاثين عاماً. يتذكر أحد الأطباء السوريين، المقيم حالياً في لبنان، في حديث لرصيف22 كيف كانت تعج عيادات الأطباء السوريين بالمرضى، الوافدين تحديداً من الريف. بعد الحرب تقطعت الأوصال بين المناطق ووجد السوريون صعوبة في التنقل. ارتفاع سعر صرف العملة انعكس ارتفاعاً مرعباً في تعرفة الأطباء والمستفيات، وأسهم بدوره في إفراغ العيادات من مرضاها. اختصاصات كثيرة تضررت بشكل فادح جراء تصنيفها في الحروب في خانة الترف، كطب الأسنان (هاجر 16 ألف طبيب أسنان خلال السنوات الأربع الماضية)، والأمراض الجلدية والتغذية وغيرها فوجد هؤلاء أنفسهم عاطلين عن العمل، هذا إذا لم نذكر النقص الحاد في المواد الأولية لعملهم أو ارتفاع أسعارها. أطباء كثر في سوريا يتبعون السلك العسكري، هؤلاء وجدوا أنفسهم جزءاً لا يتجزأ من الانشقاق الحاد، مذهبياً وعسكرياً. وأطباء كثر أجبروا تحت التعذيب من جهتي النزاع الكشف عن أسماء مرضاهم، وأكثر منهم يئسوا من العمل في مستشفيات لا يستطيعون فيها إنقاذ الناس. كثر قصفت عياداتهم، خطف أبناؤهم أو ذووهم، دمرت منازلهم، شحت مواردهم المالية، ملوا، قرفوا، خلعوا المئزر الأبيض وولوا وجههم شطر دول قدمت لهم عروضاً للعمل أو ملاذاً للأمان.دول حضنت أطباء سوريا: أكثر من لفتة إنسانية!
تتصدر ألمانيا قائمة الدول الأكثر احتضاناً للأطباء السوريين، في وقت ترفض البلدان الأخرى ممارسة الأطباء النازحين لمهنة الطب عندها، وتفرض ممارسة المهنة في دول كالولايات المتحدة وبريطانيا شروطاً صعبة تستغرق شهوراً وسنوات. لكن لماذا هذا الترحيب الألماني بأطباء سوريا؟ معروف أن ألمانيا أظهرت احتضاناً أكثر من غيرها من الدول الأوروبية للاجئين، لكن في ما يتعلق بالأطباء يتعدى الأمر كونه مجرد لفتة إنسانية. فبحسب تقديرات الجمعية الطبية الألمانية، يعمل نحو 1500 طبيب سوري حالياً في ألمانيا، من بينهم 319 تم تسجيلهم عام 2014. ووفق تحقيق أعدته مجلة "فورين بوليسي" تحتاج ألمانيا إلى أطباء، إذ يعتزم 1 من بين كل 7 أطباء اعتزال العمل خلال السنوات الخمس المقبلة، بينما يغادر آلاف الممارسين البلاد سنوياً للعمل في الخارج. يعزز هذا الواقع التقديرات التي أعلنها مستشار شركة البحوث الاستشارية الدولية رونالد بيرجر، أن ألمانيا سوف تحتاج إلى 111 ألف طبيب لخدمة مواطنيها بحلول عام 2030. بحسب "فورين بوليسي" ازداد عدد الأطباء الأجانب في ألمانيا بنسبة 60% بين عامي 2010 و2014، وبات الأطباء السوريين ينافسون أطباء رومانيا على موقع أكبر عدد أطباء أجانب في البلاد. وتنقل المجلة عن طبيب يدعى أبو محمد تجربته في التطوع للعمل في عيادات ميدانية في سوريا، وارتجاله إسعافات أولية، وتهريبه المعدات الطبية في مجاري المدينة، ثم اعتقاله وتعذيبه، ثم فراره إلى تركيا وعمله في منظمات غير حكومية، ثم لجوئه إلى ألمانيا بعد قرار الحكومة التركية عدم الترخيص للأطباء، ثم انتظاره لزوجته الطبيبة كي تلحق به. ويظهر الحماس الألماني لاستقبال الأطباء من خلال التقليل النسبي للعراقيل التي قد تواجههم، من دون أن يقترن ذلك بتساهل مع مهارات الطبيب. فلا مكان للشفقة، بل فرصة للطبيب كي يثبت نفسه. وعلى الرغم من هذه التسهيلات، لا تزال المستشفيات الألمانية تعاني من شواغر عدة في مواقع طبية أساسية وتنتظر من يملأها. في حين يشكو أطباء سوريون هناك من ارتفاع كلفة التدريب التي تتجاوز الألف دولار، علماً أن الجهات الطبية الألمانية تدرس أمر تغطيتها."داعش" تنافس ألمانيا؟
حاجة ألمانيا للأطباء لا تقارن بالتأكيد بحاجة سوريا إليهم، حتى أن تنظيم داعش اعترف بعواقب الفرار الجماعي للأطباء من سوريا. وعام 2015، أطلق التنظيم حملة دعائية مصورة لتشجيع العاملين المهرة على عدم مغادرة سوريا، حتى أنه أعلن مصادرة منازل أي عاملين في مجال الصحة يفرون من الرقة، عاصمة الخلافة، ولا يعودون إليها ثانية خلال 30 يوماً.جرح مفتوح لأمد طويل: العراق نموذجاً
يقولون "عندما يموت طبيب لا يموت وحده.. بل عشرات الأرواح التي كان يمكن أن ينقذها". هكذا هم أطباء سوريا. الواقع القاتم وانتشار الأوبئة والأمراض تكشف عن مستقبل مروّع في قطاع الصحة السوري. وخير دليل الجرح العراقي المفتوح حتى بعد سنوات على الانسحاب الأميركي. نزف القطاع الذي بدأ أيام حصار العراق في التسعينيات، وتفاقم خلال الغزو الأميركي، ويسجل اليوم هرب أكثر من 10 آلاف طبيب منذ عام 2003. الأمراض تتزايد وتتخذ شكلاً غريباً، المستشفيات تعسكرت، الأدوية فقدت أو تباع في السوق السوداء، ونفقات الصحة تتقلص من الموازنة عاماً بعد عام. واليوم "ليلى في العراق مريضة" ولا تجد من يداويها، لأن من هاجر من الأطباء لم يعد.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...