ابن رشد الأندلسي (1126- 1198)، من أهم المفكرين في تاريخ الفلسفة، والأكثر تأثيراً في تاريخ الفلسفة العربية، وفي الثقافة العربية الإسلامية، وفي الفلسفة الأوروبية أيضاً. كان محط اهتمام في تاريخ الفكر العربي، وحاضراً بقوة في أوروبا التي درّست أعماله، ونوقشت أفكاره على نطاق واسع في عصر النهضة، وتبنى فلسفته تيار كبير من مفكري ذلك العصر، كما رفضها الكثيرون.
البدايات الأولى تأخذنا إلى قصة فريدريك الثاني، ملك صقلية ثم الامبراطور، الذي كان مشهوراً بحبه للعلم واهتمامه بالترجمة والتعليم. هو من أسس جامعة نابولي، وجعل من صقلية مركزاً ثقافياً في عهده. وكان من أوائل المهتمين بأعمال ابن رشد. دعا فريدريك الثاني عالماً اسكتلندياً، هو مايكل سكت (1232)، الذي كان يسكن في طليطلة في إسبانيا، لدراسة اللغة العربية، وترجمة أعمال ابن رشد، فدعاه إلى باليرمو في إيطاليا، لينهي ترجمته إلى اللاتينية لأعمال ابن رشد، خصوصاً شروحه لكتب أرسطو وفلسفته، ثم أرسل هذه الترجمة إلى أوروبا. هكذا، بعد عام 1220، بدأت أوروبا تدرس أعمال ابن رشد في باريس، وأكسفورد، وبادوفا.
لوحة من مدينة بادوفا الإيطالية في القرن الرابع عشر
تصور مناظرة فلسفية متخيلة بين ابن رشد، وفي يده كتاب أرسطو في يسار اللوحة، وفرفوريوس، وهو فيلسوف يوناني من مدينة صور. يدور بينهما نقاش يمثله الفنان بكلام مكتوب بينهما. الفكرة هي أن ابن رشد اعتبر أهم من فهم وحلل أعمال أرسطو.
لوحة في مخطوطة من عام 1483
من أولى النسخ لأعمال أرسطو مع شرح ابن رشد (جامعة بادوفا). الفنان جيرولامو دي كريمونا، يصور في هذه اللوحة المرافقة لطباعة أعمال أرسطو، أهم الفلاسفة الذين كانوا يدرسون كجزء أساسي من مناهج جامعات أوروبا. العمود وسط اللوحة يمثل فصلاً بين الحضارة الكلاسيكية وعصر النهضة. وسط اللوحة، يقف أرسطو، وينظر إلى أستاذه أفلاطون في الخلف، ووراءهما فيلسوفان هما أليكسندر أفروديسيوس، وفيميثيوث، وكلاهما كانا معروفين عند الأوروبيين والعرب. على يسار العمود، يقف قبالة أرسطو، من الفلاسفة المعاصرين، ابن رشد في رداء أصفر، ووراءه الفيلسوف والطبيب ابن سينا، يحمل كتابه عن الطب، ويرتدي تاجاً (لخطأ في ترجمة لقبه، اعتقد الأوروبيون بأنه ملك)، وخلفهما توماس الإكويني في زيه الدومينيكي يقلب صفحات كتاب (هل يكون كتاب ابن رشد في شروح أرسطو؟).
مدرسة أثينا لرافائيل
[caption id="attachment_47492" align="alignnone" width="351"] ابن رشد في اللوحة[/caption]مدرسة أثينا لوحة جصيّة (فريسكو) للفنان رافائيل. تم رسمها بين عامي 1509 و1510، على أحد جدران القصر الرسولي (الأبوستوليك) في الفاتيكان، المعروف بالقصر المقدس، أو القصر البابوي. تصور اللوحة علماء الفلسفة يتناقشون في ما يشبه جلسة محاضرة. وهي من أربعة أعمال في القصر نفسه، تصور كل منها فرعاً من المعرفة: الشعر (ومعه الموسيقى)، علم القانون، علم اللاهوت، وفي هذه اللوحة، الفلسفة. في وسط اللوحة، يقف أفلاطون وأرسطو، وحولهما فلاسفة يقرأون ويتناقشون. ما يجعل هذه اللوحة تتميز مما سبقها في الفن هو تصويرها نقاشات تجري في آن واحد بين الفلاسفة، وابن رشد إلى اليسار.
بعد أن كان في صدر اللوحات السابقة، بما كان يتناسب مع شعبيته وتقدير الأوروبيين له، نراه هنا واحداً من بين عشرات الفلاسفة، ناظراً إلى مخطوطة يحملها غيره، وهو يجلس في مكان هامشي في فضاء اللوحة.انتصار القديس توماس الإكويني في لوحتين
لوحة للفنان فرانسيسكو ترايني، رسمها بين عامي 1340 و1345، من كنيسة القديسة كاتارينا في مدينة بيزا الإيطالية. في صدر اللوحة يجلس القديس توماس وأرسطو وأفلاطون إلى جانبيه، وفوقه ملائكة وقديسون يباركونه. وفي أسفل اللوحة، ابن رشد مستلق على ظهره، وعلى عكس كل من في اللوحة، لا ينظر إلى توماس الإكويني، كتابه مقلوب رأساً على عقب في علامة على انهزامه أمام توماس الإكويني. ومعروف أن توما الإكويني هو ممن ناقشوا الرشدية، ليستطيع التغلب على أفكار وأتباع ابن رشد، فهو أيضاً ترجم أعمال أرسطو، وشرحها، وعلق عليها.
وتصوير مماثل لتوماس الإكويني ونجاح سعيه لفهم ومحاججة ابن رشد (إلى حد هزيمته) في لوحة للفنان الإيطالي أندريا دي بوناوتو (1343 و1377) من فلورنسا، في كنيسة سانتا ماريا نوفيلا. في أسفل الصفحة: ابن رشد، في حجمه، ورمزياً، في قدره، صغير مقارنة بـتوماس الإكويني الذي يتربع على عرش تباركه الملائكة.
لوحة من إيطاليا عرفت بـ"الفلاسفة الثلاثة" من عام 1504
في معرض عن الفنون الإسلامية في عصر النهضة الأوروبية في متحف الميتروبوليتان في مدينة نيويورك، مختص في الفن الإسلامي من جامعة برنستون، قدم مايكل باري قراءة جديدة للوحة الفنان الإيطالي جورجيوني (1478- 1510)، المعروفة بالفلاسفة الثلاثة. وجد باري أن الأجيال الثلاثة في اللوحة: شيخ هو الفيلسوف اليوناني أرسطو يحمل بياناً للنجوم، وفي الوسط رجل متوسط العمر هو ابن رشد، أما الشاب الجالس قربهما فهو شاب أوروبي من عصر النهضة، قد يكون قسّاً. ولعل هؤلاء الثلاثة يمثلون مراحل المعرفة الثلاث، كما قيمتها الثقافية الأوروبية في عصر النهضة: الحضارة اليونانية، من الماضي في شخص الشيخ، وبعدها العربية ـ الإيرانية، المتوسطة في العمر وأيضاً في خلق تواصل بين الحضارات الكلاسيكية والحضارة الأوروبية، ثم الحضارة الفتية، يمثلها الشاب الجالس أمامهما وهو يتطلع إلى السماء والنور وإلى المستقبل، وهي الحضارة الأوروبية في عصر النهضة.
لم يكن ابن رشد محط احتفاء في معظم الأوقات، بل كانت أعماله تثير نقاشات وخلافات عميقة، في أوروبا وفي الثقافة العربية. إلا أنه، كما نرى في هذه اللوحات، لم يكن استثناء أو حالة فريدة، كما تذكرنا الباحثة فريال بوحافة، التي تحلل مشروع ابن رشد في الفلسفة والفقه مع عدد من المفكرين من فرنسا، وألمانيا، والولايات المتحدة. ابن رشد كان فيلسوفاً حاور في أعماله من جاء قبله، واستمرت أفكاره في إحياء نقاشات مع من جاء بعده. فكان جزءاً من تاريخ فكر فلسفي طويل، بدأ مع اليونان ولا يزال مستمراً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...