قبل أن تكون فنانة تشكيلية كويتية، منيرة هي كائنٌ حي يعشق الحرية، لا يحده أي نوعٍ من أنواع القيود الاجتماعية. لا الجندر ولا النرجسية ولا الهوية، ولا الحدود الجغرافية، ولا مفاهيم الدولة ومواطنيتها، ولا الدين ولا يوم القيامة. لا شيء يقف أمامه، ولا حتى هي. منيرة هي روحٌ حرة تتنقل من ثقافة وفلسفة لأخرى لتعيشها بعمقٍ، لعلّ ذلك يحمل جواباً لسؤال الــ"من أنا"، أو يغذي خيالها الذي يتسع الكوكب بأكمله، بكل بساطة. أن تكون منيرة القديري، هو أن تنظر للحقيقة مباشرة في عينيها حتى لو أفقدتك بصرك.
بـ7 نقاط تعبيرية، من أنت منيرة القديري؟
الجندر
[caption id="attachment_46567" align="alignnone" width="700"] من مشروع Tragedy of Self[/caption]لطالما عشقت عنفوان وشجاعة الرجل الذي يحارب من أجل الحرية، وكرهت المرأة بضعفها وملازمتها المنزل مهما كان يدور في الخارج. إن النرجسية لا يمكن أن تكتمل إلا مع الرجل، خصوصاً في المجتمعات الشرقية، حيث الرجل هو البطل ورأس المجتمع بأكمله. ولأشعر بتلك البطولة الذكورية المثالية كنت أرتدي خلال مرحلة المراهقة ملابس كالفتيان، وقصصت شعري أيضاً مثلهم، ورسمت فوق شفتي شوارب الرجال. وكنت أتصرف بكل رجولة حتى خارج المنزل، فكانت كبريائي تشعر بالفخر إذا ناداني أحد “sir” أو سيدي. حتى أقامت شقيقتي الفنانة فاطمة القديري مشروعاً تصويرياً عن ضياع الهوية الجنسية الذي عشته، Bored 1997. إلى أن اكتشفت في العشرين من العمر أنني أحب الرجال، وللتقرب منهم وجذبهم نحوي اضطررت أن أتصرف بأنوثة، مثل الفتيات الأخريات. ولدفن تلك النرجسية الذكورية قمت بعدة فيديوهات فنية منها "واويلاه"، الذي نال جوائز عالمية عدة، و"أبو أذية"، وفيه كانت كل قواعد اللعبة الاجتماعية مقلوبة رأساً على عقب، والجندر لا صورة واضحة له، والندب على الماضي يحصل على خلفية أغاني موسيقية تراثية حزينة. أهوى تراث الحزن، الذي يصوّر هويتنا الشرقية، حتى بحث الدكتوراه الذي قمت به في اليابان كان حول موضوع "جماليات الحزن في الفكر الشرقي". فالحزن جزءٌ لا يتجزأ من ثقافتنا وديننا.
الدين
لا أفهم لماذا يتم فصل الدين عن الثقافة والفن، فالدين وطقوسه في حد ذاتها، هما اللذان ينسجان ثقافة وفنون البلاد. إذا أخذنا مقبرة الصليبخات الوحيدة في الكويت، التي يفصلها في الوسط شارعٌ رمزيٌ صغير يفصل بين مقابر الطائفة الشيعية ومقابر الطائفة السنية، تشعرون فيها بالبعد الثقافي الكبير لطقوس كل طائفة.
الجزء الشيعي من المقبرة مفعم بالأعلام والكتب والصور وحتى الحلويات، ودوماً مكتظ بالأشخاص الذين يبكون الميت لساعاتٍ طويلة، بينما القسم السنّي منها خالٍ من أي شيء فيه حياة، لا أسماء ولا صور على المقابر، لا أفراد يبكون موتاهم لأن هذا عار، لا يوجد شيء إلا الموت. وخلال بحثي الفني عن خلفيات ذلك البعد العجيب بين طائفتين من دينٍ واحد، اكتشفت أن الثقافتين البدوية والفارسية وتعبيرهما الفني والوجداني لهما تأثير كبير. وكلٌ على طريقته، فالطائفة الشيعية تتمتع بثقافة تجريدية مثيرة للاهتمام، والطائفة السنية لها ثقافتها الصلبة الأقرب إلى الواقع.
للدين أيضاً لغة تعبيرية دائماً تتجد، ليس عليكم إلا أن تلقوا نظرة إلى مشروع محوّلات الكهرباء الفني في الكويت، الذي قامت به مؤسسات دينية متشددة، ورسمت عليها رموزاً "تكعيبية وهابية"، ترمز في الواقع للغة البصرية الإسلامية الجديدة في أيامنا، قبل أن يتم إزالتها عن المحولات تبعاً لقرارٍ من الحكومة نفسها، التي دعمت المشروع، ربما لأنه أعطى رموزاً ثقافية - دينية أكثر مما يجب.
النفط
النفط هو الأداة التي دمّرت الخليج، من النواحي الثقافية والإنسانية والوجدانية، وكأنه إعلان روّج له أحد لوضع سعرٍ محدد للمنطقة بأسرها. نحن جيل النفط ولكن ما لا ندركه أن قبل النفط كانت الحياة مرسومة بخطوطٍ مختلفة ولكن باللون نفسه، لون اللؤلؤة. كان صيد اللآلئ مصدر التجارة والعمل والحياة في الكويت، وكان جدي من بين آخرين يغنون على بور الصيد أغاني عربية أصيلة احتفاءً بالحياة. هذا هو لون الخليج، لون اللؤلؤة الساحر الذي بطريقة ساخرة يشبه تماوج لون النفط، وهذا هو المشروع الفني الذي أعمل عليه حالياً، Per.
[caption id="attachment_46574" align="alignleft" width="1485"] من مشروع Per[/caption]ربما ذلك اللون الذي اشتققته من درجات ألوان اللآلئ والنفط، يحمل التاريخ والحقيقة لأهل الخليج، وهويتهم الأصلية قبل النكتة النفطية، التي تبدو اليوم من نسيج الخيال.
العروبة
مفهوم العروبة بدأ بالزوال يوم قام العراق بغزو الكويت أوائل التسعينيات، من دون أن تتمكن أي دولة عربية من ردعه. وتسلسلت الأحداث لتتوجه نحو انهيارٍ شامل للمنطقة كما يحدث اليوم، واختفاء مفهوم الدولة والوطنية، فالولاء أصبح للطائفة بشكلٍ قاطع. هكذا اتضحت فكرة أن الدولة العربية هي أكبر كذبة نعيشها. ففي النهاية تعريف الدولة الذي تم اختراعه في العشرينيات لم يعد له رواج أو معنى، وكأنه موجود ليزيد من عراقيل الفيزا ويبني الجدران الفاصلة بين الشعوب، من دون جدوى.
[caption id="attachment_46564" align="alignnone" width="700"] من فيلم Father of Pain[/caption]إن اختفاء الوطنية في منطقتنا ليس ذنب الشعب في الأخير. إن فشل الدولة هو الذي دفع إلى البحث عن انتماءٍ وأملٍ حقيقيين، والدين هو المرشح الأول لإتمام المهمة. من هنا تحول الشحن الطائفي إلى مهمة جد بسيطة، والتجربة كانت ناجحة في حرب الخليج الأولى، فالحقد العراقي العربي - الإيراني حقق مليون قتيل خلال 8 أعوام فقط، فكيف للعالم العربي أن ينسى ذلك؟ قد تبدأ الحرية ربما يوم نعترف أننا قتلة، ونكف عن اعتبار أنفسنا ضحايا لنظامٍ وسياسةٍ خارجية. كيف لنا أن نبتكر الحرية إذا لم نكن مسؤولين عن أعمالنا وصريحين مع أنفسنا؟
الكويت
الكويت هي مشروع نهايته الانهيار، للأسف. 90% من الاقتصاد في الكويت يعتمد على النفط، فيوم يختفي النفط من أرضها تختفي كلها معه. لم يفكر أحد في الكويت أن يبني قاعدة اقتصادية تعتمد على صناعةٍ أو تجارةٍ ما، كما فعلت الإمارات وغيرها في المنطقة، وبكل وضوح نفهم أنها مجرد مشروعٍ مؤقت.
تبدأ الحرية ربما يوم نعترف أننا قتلة، ونكف عن اعتبار أنفسنا ضحايا لنظامٍ وسياسةٍ خارجية
الكويت كما حكى لي عنها والدي، كانت أرضاً للنهضة الفنية والثقافية في الستينيات والسبعينيات، وخصوصاً كانت مشروعاً يعتمد على حرية واحترام الآخر، والصور التذكارية تشهد على انفتاح شعبها وعشقه للحياة والرقص والملذات على أنواعها. هل تعرفون أن أبراج الكويت كانت مشروع ديسكوتيك قبل أن يتم ابتكار التطرف إثر الثورة الإسلامية؟ الحرية الاجتماعية، وحتى الحرية السياسية، بدأت تختفي شيئاً فشيئاً منذ ذلك الحين، لندخل الثمانينيات بقانونٍ يحرّم الكحول، ولتصبح بعدها الموسيقى حراماً اجتماعياً، وإلى ما هنالك من الروابط التي أقنعت حتى أجدادنا أن كويت الماضي ليست إلا كويت الفسق والفجور. الأمل عاد بعض الشيء مع ثورة التواصل الاجتماعي منذ بضعة أعوام، والشباب الكويتي المتحرر وجد وسيلة للتعبير عن النفس وابتكار الفن الحقيقي، والتحدث بالثقافة المجردة من التابوهات من خلال تلك الوسائل، بعيداً عن رقابة الدولة، التي تضع كل ما لديها حالياً لتتمكن من مراقبة تلك المواقع.
اليابان
[caption id="attachment_46565" align="alignnone" width="700"] من مشروع Eternally Out of Space[/caption]اجتاحت اليابان الكويت في الفترة نفسها التي كانت البلاد في حرب، من خلال الرسوم اليابانية أو المانغا التي حملت الكثير للطفل الكويتي والعربي. نينجا كبمارو، غرندايزر، جونكر، طم طم، الأميرة ياقوت، التي قدمت أول مثال عن اختلاط الهوية الجنسية، وغيرهم كانوا الأبطال الذين أتوا من شاشات التلفاز لينقذوا أطفال المنطقة من الكابوس الذي بدأ يتغلغل في جذور أرضنا. وكبرت الأمور في خيالي إلى أن قررت الذهاب لليابان للهرب من واقعي، وأعيش حياة الخيال إلى أقصى حدودها. هكذا أمضيت نحو 10 سنوات في اليابان أدرس وأفهم التعبير الفني، إلى أن وقعت أقنعة تلك الدولة العظمى، لتبدو على حالها مقوقعة داخل عقدة خسارة الحرب العالمية الثانية، وحلم الانتقام من تلك الخسارة باجتياح العالم اقتصادياً، فما حصل هو أن امتزجت الرأسمالية بالعقيدة العسكرية اليابانية، لتتحول الشركات الاقتصادية اليابانية بأسرها إلى معسكرات يخدم فيها مدنيون، تحت شعار "العمل حتى الموت"! نمط عيش يقتل الفن من داخل أي فنان، فهربت إلى بيروت بحثاً عن تعبيرٍ فني مختلف.
الأنا
[caption id="attachment_46568" align="alignnone" width="700"] من مشروع Anachronistic Fantastic[/caption]أنا هي فرانكشتاين الهوية العربية، منحدرة من جذورٍ سعودية وفارسية وعشت آلام الطائفتين، تشربت الثقافة الإنجليزية في صغري، بعد أن أبصرت النور في السنغال، وغذّيت خيالي بالثقافة اليابانية الغريبة وجسدي من الطبخات الروسية، التي تعلمتها أمي في غربتها الجامعية. وهويتي الأصيلة لطخها النفط بسائله اللزج، فلجأت للفن البصري الذي أنقذني من قساوة المشهد العربي، لكنه أبعدني عن فنٍ لغوي عربي فيه الفنون البصرية والسمعية كافة، أغنى اللغات في التاريخ. هويت السياسة إلى أن أصابتني بيروت بصداعٍ سياسي دائم، فقررت الفرار مجدداً، وتلك المرة إلى الحلم الأوروبي الذي تتآكله العنصرية، ربما طعم العنصرية الأجنبية أقل مرارةً من المحلية، ولن أتوقف قبل أن يعود كبمارو يوماً وينقذ الطفولة العربية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...