حدثني طالب بكالوريا سوري في إحدى المدارس السورية في مدينة ميرسين التركية فقال: هل تعلم أننا لا نصدق متى سيأتي الصباح كي نذهب إلى المدرسة يا خال، ليس كما كان عليه الوضع في المدارس داخل سوريا، فقد كان الهروب عبر تسلق الجدار أو رشوة الآذن من أهم هواياتنا، لكن منذ أن نزحنا إلى تركيا لم نجد السعادة سوى في المدرسة، فبين جدرانها فقط نشعر بأننا لسنا غرباء أو نازحين أو لاجئين.
هنا كل شيء سوري، بدءاً من الطلاب، وانتهاء بالأساتذة والموجهين والإدارة، ولا شك بأن مساحة الحرية التي تحظى بها مدرستنا جعلت من محبتنا لها أكبر وأكثر، فهنا لا وجود للطلاب المفسفسين، أو المخبرين كما تسمونهم. لا وجود للبعثيين، لا وجود للمدعومين، ولا ضرب، ولا قمع، بل حتى أننا نتناقش بكل أريحية، نتبادل الآراء مع الأساتذة والطلاب في قاعة الدرس، نتحدث في السياسة دون خوف، ودون رعب، بل حتى أننا نتناقش مع أستاذ الدين. صار إحساسنا بوجودنا داخل قاعة الدرس هو العلامة الفارقة، بعدما كانت العلامة الفارقة هي هروبنا خارج جدران المدرسة في الداخل.
المهم مالك بالطويلة خال، فقد مللنا من الحرية ومن الديمقراطية، صرنا نحنّ ونشتاق للقلقة والنفاق، صرنا نتمنى شي واحد فسفوس يكتب فينا تقرير للإدارة، لكن عبث، لا أحد في مدرستنا يقبل بلعب هذا الدور… وفجأة خطرت في بالنا فكرة، وصادف توقيتها قبل درس اللغة التركية بقليل. أستاذ اللغة التركية سوري أيضاً. اتفقنا على تطبيق الخطة صبياناً وبنات، فشعبتنا مختلطة. هناك شعبة واحدة فقط غير مختلطة وهي تضم الطلاب الذكور المتأخرين بالالتحاق بالدراسة لهذا العام، واسمها شعبة الأحناش، وهي مجاورة لشعبتنا، وقد أعلمناهم بخطتنا كي يطبقوها أيضاً.
دخل الأستاذ، كانت الخطة أن نتملقه بالتصفيق كما يصفق أعضاء مجلس الشعب السوري للرئيس كلما نطق أو تنحنح أو شرب الماء، وما إن أغلق أستاذ اللغة التركية الباب حتى نهضنا وبدأنا بالتصفيق جميعاً، أمرنا بالجلوس وملامح السعادة واضحة على وجهه فصفقنا لأمره ونحن نجلس. رمى علينا تحية الصباح بوجه بشوش سعيد فصفقنا. فتح حقيبته وأخرج كتابه مبتسماً فصفقنا. كتب على اللوح الحرف الأول فصفقنا. وضع قطعة الطباشير والتفت إلينا فصفقنا. مضت ابتسامة السعادة لتصفيقنا له عن وجهه ووقع في حيرة كبرى، لم يعد يفهم ما الذي يجري، تنحنح فصفقنا، فتح زجاجة الماء فصفقنا، شرب الماء وهو يسرق النظرات إلينا فصفقنا.
دخل الموجه مستغرباً فصفقنا له ونحن ننهض. صرخ الموجه أن نتوقف لأن هناك ضيوفاً في الإدارة فصفقنا للموجه. خرج الموجه غاضباً وجاء المدير وصرخ بغضب أن نتوقف فصفقنا بحرارة له. خبط بيده على الباب كي نتوقف فخفنا وتوقفنا. قال لنا أن نهدأ لأنه يتناقش مع ضيوفه وصوت التصفيق يمنعهم من الحديث، هدأنا، ابتسم المدير لنجاحه في إيقافنا، لكن صوت التصفيق المؤازر من شعبة الأحناش جاءنا داعماً إيانا. هرع المدير إلى شعبة الأحناش فابتسم أستاذ اللغة التركية لنا فصفقنا له من جديد. عاد المدير فصفقنا له بشكل أقوى، صرخ الموجه من الممر أن نتوقف فجاء صوت التصفيق من الصفوف الأخرى...
العواشر بدأوا بالتصفيق أيضاً يا خال، بل وطلاب الإعدادي أيضاً. التصفيق صار طاغياً على كل الأصوات، خرج الأساتذة كلهم من الصفوف مندهشين ومستغربين، فصفقنا. صفقنا لصراخ الموجه، صفقنا لغضب معاون المدير، صفقنا لصوت المدير غير المسموع وسط هدير تصفيقنا. دخل المحاسب الذي يطالبنا بالأقساط الشهرية فصفقنا له تصفيقاً شديداً، جاءت الآنسات مندهشات فصفقنا لهن تصفيقاً أكابرياً، عاد المدير وخبط بيده على الطاولة وصرخ بغضب أن نتوقف فتوقفنا.
هرع الأساتذة كلّ إلى صفه ليوقفوا باقي المصفقين بعد أن أمرهم المدير بذلك. هدأت أصوات التصفيق، خرج المدير، وبقينا من جديد مع أستاذ اللغة التركية. قال لنا بما معناه إن وقت المزاح انتهى، وأن الدرس سيبدأ الآن. التفت إلى اللوح من جديد ليكمل ما كان سيكتب، فسمعنا صوت التصفيق من شعبة الأحناش مرة أخرى. كان نوعاً من الإحراج لنا هذه المرة، فنحن أصحاب الفكرة والخطة والبداية والشرارة والانطلاقة، وها نحن ننسحب تاركين الآخرين يصفقون لوحدهم.
يا حيف، لا لن نتراجع، وعدنا إلى التصفيق من جديد. قال الأستاذ لأحد الطلاب: لو كان أبوك هنا هل كان سيصفق معكم؟! رد الطالب: بل كان سيصفر أيضاً أستاذ. وضحكنا، وبالطبع صفقنا. عاد الموجه فصفقنا له ونحن واقفين، جاء المدير فصفقنا. صفق الأحناش، صفق العواشر، صفق طلاب المرحلة الإعدادية، عادت حمى التصفيق، هرع المدير إلى الصفوف الأخرى متوعداً إيانا بالعودة إلينا مع أشد العقوبات فصفقنا. هدأت الأصوات قليلاً من الصفوف الأخرى، وتعبت أيدينا من التصفيق فهدأنا أيضاً.
قال أستاذ اللغة التركية، وهو يطلب من أحدنا أن يتقدم إلى اللوح كي يشارك في الدرس بقراءة وظيفته، وقال له بالتركية: بيورن، أي تفضّلْ، فنظر الطالب إليه دون أن يتحرك ساكناً وقال له: أستاذ، أنت قليل عليك تدرِّس اللغة التركية… أنت لازم تدرِّس كلّ اللغات".
وصفَّقنا، وصفَّق الأحناش، وصفَّق العواشر، وصفَّقَ الإعداديون، وصفَّقت الإدارة، وصفَّق الأساتذة والموجهون، وصفَّق أستاذ اللغة التركية وضحك وضحك وضحك... وظل يضحك حتى ظنناه الرئيس.
تم نشر المقال على الموقع بتاريخ 04.03.2014
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...