أسواق القدس، هي جزء من حكايات المدينة. اكتسبت قبلة المسلمين الأولى عناصر كثيرة من هويتها من أسواقها التي تعود إلى مئات السنين. ولكن الأسواق تتراجع تراجعاً مطرداً يكاد يُفقد عاصمة الفلسطينيين شخصيتها التاريخية.
في القدس البالغة مساحتها 125 ألف دونم والتي تُقسّم نظرياً شقّين، تطالب السلطة الفلسطينية بأن يكون الشرقي منها عاصمة لدولة فلسطين المرجوّة، عشرات المعالم لكل منها حكاية. وهي اليوم تعيش حالة حصار غير مسبوق يهدّد استمرار أسواقها الشهيرة وينعكس على الحياة اليومية في حاراتها. كذلك تفقد المدينة توازنها الديمغرافي رويداً رويداً وصارت نسبة اليهود فيها حوالى 82%.حصار الأسواق
أسواق القدس، هي جزء من حكايات المدينة. يعود تاريخ بعضها إلى عهد الأمويين، وكلها تقع داخل البلدة القديمة وأغلبها ملاصق لسور المسجد الأقصى، وشكّلت جزءاً أصيلاً من هويتها. تم تجديد هذه الأسواق في العهد العباسي، وأضفى المماليك حين حلّوا فيها طابعهم عليها. كما وضع الصليبيون لمساتهم على عمارتها. أما آخر اللمسات المعمارية الإسلامية فكانت عثمانية.
يؤكد خبير الاستيطان والخرائط، خليل تفكجي، لرصيف22، أن معظم أسواق القدس ما زالت عربية وأغلب أصحابها عرب، لكنها مع الزمن تضرّرت لأنها في الدرجة الأولى مستهدفة اقتصادياً، وهذه الأسواق اليوم في حالة خطر". لذلك هناك حاجة ماسة إلى ترميمها والعناية بتجارها لكي يصمدوا أمام الحملات الإسرائيليىة المتوالية.
في القدس عشرون سوقاً اكتسبت أسماءها إما من البضائع التي تباع فيها أو من نسبتها إلى أشخاص أو أماكن أو معالم. هذه الأسواق هي: سوق العطارين، سوق اللحامين، سوق باب القطانين، سوق الحصر، سوق البازار، سوق باب السلسلة المحاذي لباب السلسلة المؤدّي للمسجد الاقصى، السوق الكبيرة، سوق الباشورة التي تعني القلعة بالتركية، سوق علون نسبة إلى عائلة علون المقدسية، سوق باب خان الزيت، سوق حارة النصارى، سوق الخواجات، سوق افتيموس نسبة للبطريرك اليوناني افتيموس الذي بناه عام 1902، سوق باب العمود الذي تشتهر دكاكينه ببيع الحلويات والخضر والفواكه، سوق النحاسين، سوق باب حطة، السوق الجديدة، سوق الباب الجديد، سوق التجار، وسوق اليهود.
يروي حنّا عيسى، دكتور في القانون الدولي ومسؤول الهيئة الفلسطينية المسيحية للدفاع عن القدس، بحسرة حال المدينة التي تتحول يوماً بعد يوم إلى مستوطنة كبيرة. يقول لرصيف22: "الهوية التي اكتسبتها القدس كمدينة مقدسة إسلامية مسيحية، ومركز تجاري وروحي، تتلاشى مع الزمن، وتفقد شخصيتها. إسرائيل تعمدت محو هذه الشخصية. وما تفعله في أسواقها، يعكس هذه الحقيقة المرة".
عام 1967، احتلت إسرائيل القدس الشرقية، واقتحمت الحرم القدسي، وأول ما فعلته حينذاك هو إجراء تغييرات جوهرية على أسواقها، "فبنت الحيّ اليهودي وبدأت تنسج حكايات مصطنعة في محاولة لتغيير الطابع الديني للبلدة"، بحسب عيسى.
القدس تشيخ
الشعر الأبيض الذي يغزو شاربي وشعر نائب رئيس الغرفة التجارية في مدينة القدس، حجازي الرشق يشبه كثيراً ذلك الشيب الذي أصاب القدس فجأة "وجعلها تشيخ قبل أوانها"، كما يقول لرصيف22.
يؤكد الرشق أن الإسرائيليين أغلقوا بعد احتلال المدينة عدداً من أسواقها وحوّلوها إلى أسواق يهودية. ويضيف: "سوق البازار الذي اشتهر ببيع الفواكه والخضر وامتاز بأرضه المرصوفة بشكل رائع، من الأسواق الأولى التي تعرضت للتهويد مباشرة. فبعد أن كان سوقاً عربياً تحوّل إلى دكاكين لليهود يبيعون فيها تحفاً يهودية للسائحين".
ويلفت الرشق إلى أن محاولات اسرائيل لتهويد باقي أسواق القدس تواصلت: "فسوق الدباغة الذي كان يعتبر المركز التجاري الأول في فلسطين والسوق الأنشط من بين أسواق القدس بات الآن، بعد التغيّرات التي طرأت على المدينة، شبه خالٍ، دكاكينه مغلقة في معظم الأحيان بعد أن كانت الخيار الأول لتجهيز العرائس على وجه الخصوص، لما تحويه من محال لبيع الجلود والأحذية وغيرها".
بحسب تفكجي، تهدف السياسات الإسرائيلية إلى تحويل المدينة "مدينةً يهودية بامتياز". ويقول "إن الاحتلال اتبع خمس طرق رئيسية من أجل هذه الغاية، وهي التهجير، والسيطرة على الأراضي، وهدم المنازل، وسحب الهويات، وبناء الجدار، والحصار الاقتصادي والضرائب الباهظة".
إذا كنت غير مقدسي، فستجد صعوبة في الدخول إلى مدينة القدس. فهي محاطة بجدار بنته إسرائيل من 3 جهات، ووضعت فيه بوابات يخضع من يمرّ عبرها لتفتيش دقيق ومذلّ. أشهر هذه البوابات هي القائمة بجانب مخيم قلنديا شمال القدس، وهي بوابة أقيم عليها حاجز عسكري، يخنق المدينة، ويخنق الحركة منها وإليها.
ويشير تفكجي إلى أن اسرائيل كثفت من عمليات الاستيطان، ومن بناء الكنس اليهودية لتغيّر الطابع الأصلي للمدينة، "ثم قامت بعزل الأحياء العربية للقدس، وكل ما هو إسلامي أو مسيحي أو عربي، وبنت بينها أحياء يهودية، واتبعت سياسات هدم المنازل وسحب هويات المقدسيين وفرض الضرائب الباهظة. وهذا ما تسبب بكوارث اقتصادية طالت أسواق القدس".
معاناة الأسواق
في الحقبة الصليبية، بُنيت ثلاثة أسواق حققت نهضة تجارية للقدس، وهي أسواق العطارين، اللحامين، والخواجات. يلفت الرئيس السابق للغرفة التجارية في القدس، الكاتب عزام أبو السعود، إلى أن هذه الأسواق كانت حتى الانتفاضة الفلسطينية الثانية مكاناً جاذباً للسائحين. لكن بعدها بني الجدار و"تحولت هذه الأسواق بالتحديد أماكن شبه مهجورة، في النهار، ومهجورة في الليل". ويؤكد أبو السعود وجود "أطماع إسرائيلية في هذه الأسواق الثلاثة حيث تريد بناء حي استيطاني فوقها لقربها من الحي اليهودي".
بالإضافة إلى خنق المدينة بالجدران، تتعرّض أسواق القدس لحصار اقتصادي يتجلى في فرض ضرائب باهظة على أصحاب المحال التجارية في الأسواق الثلاثة، وهذا ما دفعهم "إلى فتح أبوابها ثلاثة أيام أسبوعياً، الجمعة والسبت والاحد، ثم إغلاقها بقية أيام الأسبوع والعمل بالأجرة في داخل إسرائيل للحصول على لقمة العيش".
ويضرب أبو السعود مثل محل في سوق اللحامين، مساحته 20 متراً مربعاً، يدفع ضريبة سنوية تقدر بحوالى خمسة آلاف دولار وهي "نسبة باهظة مقارنة بمقدار الدخل في ظل الوضع الراهن". في رأيه، يهدف الحصار الاقتصادي إلى خلق "حالة ملل تدفع أصحاب المحال التجارية إلى بيعها". وعند سؤاله عن ميل أصحاب المحال إلى بيعها، أجاب أن "هنالك بعض أصحاب النفوس الضعيفة، لكنهم قلة".
خنق السياحة
بحسب أبو السعود، إن 40% من اقتصاد المدينة العربي، مبني على السياحة. ولكن بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية "خنقت المدينة وحوصرت، وهذا ما تسبب في إغلاق 400 متجر". هذا الإغلاق توازيه "حملة حكومية إسرائيلية تشجع على توجّه السائحين إلى المناطق اليهودية وفنادقها ومحالها التجارية حيث التنزيلات المذهلة في الأسعار، تدفع السائحين إلى هجر الأسواق العربية".
وعلى سبيل الدعم السياسي للأسواق اليهودية، نشرت وزارة السياحة الإسرائيلية عشرة آلاف دليل سياحي يهودي، مقابل وجود 300 دليل عربي. على هذا يعلّق أبو السعود: "لكم أن تقارنوا كيف يعمل الأدلاء اليهود على الترويج للقدس من منظورهم. وبالتأكيد، لن يأتوا بالسائحين إلى الأسواق العربية. نحن في المحصلة تجار مدعومون من أنفسنا، مقابل أسواق إسرائيلية تدعمها دولة".
ويقول الرشق: "في الفترة الأخيرة تم تشديد الحصار على البلدة القديمة، حيث وضع الاحتلال حواجز على مداخل الأسواق، وفي داخلها، وكل ذلك لعرقلة حركة المواطنين فيها وفي أسواقها، والضغط على السكان لهجرة المحال، أو بيعها".
بدوره، يؤكد فضل طهبوب، ابن القدس وأحد القادة السياسين فيها، أن شكل أسواق القدس صار "يميل أكثر نحو اليهودية"، ومرددوها الاقتصادي "معدوماً"، والنتيجة "إن هوية القدس باتت مهددة، وباتت الأحياء المقدسية معزولة بعضها عن بعض، والأسواق كذلك ما أفقدها أهميتها التجارية التي كانت تتمتع بها سابقاً".
انفصام القدس
يقول الرشق "إن أسواق القدس وبلدتها القديمة ومعالم هذا المكان، التي تشكلت عبر آلاف السنين، تتلاشى شيئاً فشيئاً لدرجة أننا ننسى أحياناً أننا نعيش في القدس. فالعمارة الإسلامية التي شيدت بها هذه الأسواق، تختفي تدريجياً، وإجراءات وسياسات الاحتلال في تهويد المدينة وسياسة عزل المدينة عن محيطها من السكان الفلسطينيين ومنعهم من الدخول بشكل كامل تقريباً، كل هذا أثر بشكل كبير على هوية القدس وعلى كونها العاصمة ومركز النشاط التجاري والسياحي".
ويؤكد أن "قلة عدد زائري القدس وعدم السماح للفسطينين والعرب والمسلمين بشكل عام بالوصول إليها ينعكسان سلباً على حركة أسواقها التجارية".
الصور لـ"إلويز بولاك"
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع