بريشته رسم وجوهاً حزينة ومحكومة بالعزلة. هو الفنان التشكيلي العالمي، السوري الكردي عمر حمدي المعروف بـ"مالفا". "خمسون سنة وأنا أحمل في داخلي قصة شعب... لم أملك سوى المنفى في لوحتي، لغةً أو وطناً يرسم مكان موتي"، كتب قبل سنوات قليلة.
من منزل طيني إلى العالمية
يوم السبت في 17 أكتوبر، رحل مالفا في عاصمة النمسا فيينا حيث أمضى 37 عاماً من حياته. وُلد الفنان السوري عام 1952، في ليلة شتوية داخل منزلٍ طيني سقفه من خشب، في قرية تل نايف التابعة لمحافظة الحسكة شمال شرق سوريا. وتربى على يد والدته وجده بسبب غياب والده الدائم خلال خدمته في الجيش. ثم انتقل مع عائلته إلى مدينة الحسكة بحثاً عن استقرار لم يصل إليه.
ليتحوّل إلى رسام، صارع مالفا الواقع والفقر الشديد وتصدّى لمجتمعه الذي لم يكن يفهم قيمة الموهبة. أول اكتشاف لموهبته كان عندما جلب والده لوحاً خشبياً وطباشير ليتعلم بها الكتابة. قال: "مع أول حرف كتب على اللوح أدركت موهبتي في الرسم". ثم كانت صدمته الأولى في الحياة، مع أول معرضٍ له في المركز الثقافي العربي في دمشق. من لوحاته الخمس والثلاثين المعروضة، لم يبع سوى لوحتين لوزارة الثقافة، وذلك بعد عرضها لمدة أسبوع بلا زائرين. حينذاك، حرق لوحاته في حي زقاق الجن.
"أنزلت الصندوق، أخرجت اللوحات، وأشعلت فيها النار، أحرقت الكومة الملونة، راحت النيران تمر برويّة على الوجوه المرسومة بالأحمر، ثم نبضت الكومة بلهيب كبير، تشوهت الوجوه والأيدي مع النار، أحسست أنها أصبحت أجمل من قبل، شعرت بالبرد وأنا في عز الصيف، وجلست متأملاً طوال الوقت جنون النيران والدخان والألوان، حتى تحولت جميعها إلى كومة داكنة صغيرة تأملتها، وغبت عن الوعي"، قال عن الحادثة.
عمل عمر حمدي في الصحافة والنقد الفني. بدأت رحلته من سوريا باتجاه بيروت، ومنها غادر إلى فيينا برفقة زوجته وطفله أوليفر وهنالك أمضى سبعة وثلاثين عاماً، وأصبح عضواً في اتحاد الفنانين النمساويين، والاتحاد العالمي للفنانين في اليونيسكو، وعضواً في الكونستيلر هاوس Künstlerhaus في فيينا. كما ترأس لجنة التحكيم في غاليري آرت فوروم للفن الدولي المعاصر في فيينا. وعرضت لوحاته في معارض ومتاحف حول العالم.
يصف حمدي اللون بأنه كل شيء يدخل إلى العين ثم يترجم إلى شكل ما عن طريق الضوء، فبلا ضوء لا توجد الألوان. قال: "اللون هو الدم الذي أرسم به وهو محترفي منذ الطفولة وبه اتصل مع هذا العالم".
سجال سياسي حول فنّان
فور وفاته، تذكّر السوريون مالفا. بعضهم رثى فناناً رسم الإنسان السوري والإنسان بشكل عام، وبعضهم الآخر اتهمه بأنه كان مقرباً من بلاط السلاطين، بعضهم تحدّث عن ظروف حياته القاسية التي عاش معظمها في المنفى، وبعضهم الآخر انتقد عدم اهتمامه بما يحصل لشعبه.
ومن قراءة بعض السجالات على فيسبوك حول مالفا بدا واضحاً أن معظم منتقديه ينتقدونه حباً بالانتقاد، فقد ظهر أن معلوماتهم عن مسيرته الفنية وعن علاقاته عامة جداً ولا تصلح لتكوين حكم حوله. فأحدهم اتهمه بأنه يمتلك شبكة علاقات مع المخابرات السورية ولكن تبيّن أنه رمى هذه التهمة بلا دليل، وآخر جرّده من إنسانيته بسبب دعمه للنظام السوري ولكنه لم يستطع دعم قوله ببيّنة، وثالث حطّ من قيمته لأنه تخلّى عن كرديته وكأنّ الإنسان مضطر أن يبقى سجين الهويات الموروثة.
في المقابل، اعتبر بعض المثقفين السوريين أن هذه الانتقادات في يوم وفاة مالفا استفزازية، وأكّدوا أن عمر حمدي عمل للإنسان وابتعد عن السياسة. حتى أن البعض تحدث عن رسمه معاناة الشعب السوري ورسمه لوحة باسم "الحريّة".
الإنسانية في لوحات مالفا
وقال التشكيلي عادل داود، وهو خريج كلية الفنون وأحد أصدقاء مالفا، لرصيف22 أن الأخير لم يدخل المجال السياسي بشكل مباشر، وكان يقول "نحن كبصريين ليس من الضروري أن ندخل السياسية، نكتفي بالإنسانية في أعمالنا".
وأكّد أن مالفا كان يفضّل البقاء بعيداً عن الأضواء، حتى أنه كان بعيداً عن التكنولوجيا، ولا يقترب كثيراً من الحاسوب ولا يحمل هاتفاً محمولاً، ويرى نفسه إنساناً تقليدياً، وأضاف: "ما لا يعلمه كثيرون عنه أنه ساهم بأمور إنسانية كثيرة دون الحديث عنها. كان يعمل بصمت، ولم يكن يوماً مع النظام، وكان ضد المتطرفين، وساهم في إعداد بوسترات كثيرة للثورة السورية"، وتساءل مستغرباً التهجمات عليه: "هل هناك فنان يرسم لوحة ويكتب عليها حرية أو لا تقتل ويكون موقفه مع النظام؟".
ما يقال عن ارتباط عمر حمدي بالنظام يستند إلى رغبته في العودة إلى سوريا عام 1994 إذ كان يشتاق إلى رؤية والدته. وبالفعل حصل على عفو عام، وقد اهتم النظام به بحكم أنه كان فناناً عالمياً.
من جانب آخر، قال داود أن مالفا كان يحترم قوميته، بل احتضن غالبية الفنانين الكرد، "ولا يعلم أحد من التشكيليين الكرد أن مالفا كان يعمل على تأسيس متحف في النمسا مؤلف من عدة طوابق، على أن يكون الطابق العلوي للرسامين الكرد الذين لا يملكون مكان إقامة، وطابق آخر كمرسم لجميع الفنانين الكرد من جميع أجزاء كردستان، والطابق السفلي متحفاً".
وقد أوصى عمر حمدي، بحسب داوود الذي عايشه في النمسا، بأن تُحرق جثته بعد موته، ويجمع رمادها ويرسل إلى قريته أو يوضع في أحد متاحف النمسا.
مالفا كامتداد للألوان
الصحافي السوري شيار خليل التقى بمالفا عام 2010 في دمشق. قال إن حمدي كان امتداداً لألوانه، وكان يجسد الإنسانية في حركة الفرشاة على القماش. وروى أنه "عندما سألته يوماً في دمشق لماذا قمت بحرق لوحاتك؟ أجابني: الفقر والانحطاط اللوني لدينا كانا سببين كافيين لأن أحوّل تلك الألوان إلى رماد".
وعن السياسة في لوحاته قال شيار أن مالفا كان يحمل طابعاً سياسياً واقتصادياً في لوحاته التي تعبر عن المناخات المحيطة بواقع الرسام، "لكن الفن بالنسبة لمالفا كان فعل سلام ومحبة، والتزام بالحق والدفاع عن النفس وعن الإنسان في كل مكان، أي أنه النقيض للحروب والكراهية والقتل".
ونفى خليل ارتباط مالفا بالنظام السوري، وأكّد أن لوحات معرض عمر حمدي الأخير في كردستان العراق عام 2013، "جسدت حالة الثورة السورية، وعكست التعذيب الممنهج الذي يقوم به النظام السوري بحق المدنيين".
ووصف الأديب والشاعر السوري حسان عزت مالفا بأنه "رسام سوريا الساحر، المتميز بإبداعه المبكر، والذي لفت كبار الفنانين ونقاد الفن في سوريا، حاملاً معه إلى أوروبا تجربته الشاقة وحبه لبلاده وطبيعتها ضمن لوحات انتشرت في أهم المتاحف وصالات الفن العالمية، عمر حمدي الكردي السوري سيبقى معلماً وفناناً ورائداً من رواد الحركة الفنية السورية والعربية والعالمية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...