تصدّرت أربيل، عاصمة كردستان العراق، عناوين الصحف منذ يونيو الماضي، لا لكونها اُختيرت عاصمة السياحة العربية للعام 2014، بل لأنها انخرطت في الصراع الشرق أوسطي، من خلال حربها على تنطيم الدولة الإسلامية ولجوء عشرات الآلاف إليها.
أربيل التي تريد أن تكون سويسرا الشرق الأوسط، وواحة آمنة في قلب العراق الذي دمرته الحروب، تبقى مدينة مجهولة للكثيرين. إليكم بورتريه عنها.
"مدينةٌ صغيرة يسكنها ما يقارب الـ100,000 نسمة، مشيدة على هضبة تحيطها الأسوار وتقع وسط سهلٍ أخضر". كلمات تبدو وكأنها من زمنٍ آخر لروبير بولانجي Robert Boulanger كاتب "الدليل الأزرق للشرق الأوسط" 1965 Guides Bleus Moyen-Orient 1965.
بعد سبعين سنة، تغيّرت هذه القرية الصغيرة العراقية الشمالية التي تقع على بُعد 70 كيلومتراً من مدينة الموصل، لا سيما في العقد المنصرم، مستفيدةً من الحكم الذاتي الذي نالته كردستان العراق عام 2005.
اليوم يسكن في أربيل ما يقارب المليون نسمة من دون احتساب عدد اللاجئين الذين تدفقوا إليها هرباً من طغيان الدولة الإسلامية منذ 9 يونيو الماضي.
في تناقضات وتعقيدات هذه المدينة ما يربك. تقع أربيل حول قلعة عمرها آلاف السنين، وتتخذ شكلاً دائرياً في وسطه شوارع قديمة مهجورة في طور الترميم، وعلى أطرافه مراكز تجارية ضخمة وأبراجٌ قيد الإنشاء وقرى آمنة تضمّ آلاف البيوت الصغيرة المتشابهة.
أربيل مدينةً خرجت من تحت رمال الصحراء قبل عشرين عاماً، وترتسم معالمها يوماً بعد يوم.
شوارعها التي تعج بالمتاجر تجعل من الصعب، للوهلة الأولى، استيعاب المدينة. لإيجاد الحد الأدنى من التناسق، لا بدّ من التوجه إلى وسط المدينة، بقلعتها وأسواقها القديمة. أسواق ليست قديمة بكل ما للكلمة من معنى، فقد تمّت إعادة بنائها منذ عقد من الزمن بطريقةٍ تحترم تصميم المدينة وألوانها الأصلية. في الأروقة الصغيرة نجد الصرافين المتجوّلين، باعة الألبسة وباعة الحلوى والفاكهة والخضر، مطاعم الشاورما والكباب، ورجالاً مسنّين يتربعون على الأرض ويصلحون المسابح، متاجر لبيع الإلكترونيات والألعاب ومقاهي شعبية مخصّصة للرجال.
واجهة متجر “علي” المزينة بالألوان تلفت أنظار المارّة، بما تعرضه من فواكه مجففة ومشمش وحلويات مطعمة بنكهة النعناع والورد والشوكولاته. يقول علي: "أتيت للعيش في أربيل منذ سنتين هرباً من نظام رئيس الوزراء السابق نوري المالكي واضطهاده للسُنّة. أسست متجري هنا والأمور على ما يرام، ففي الفترة الأخيرة ارتفعت أعداد العراقيين الذين يقصدون أربيل للترفيه عن أنفسهم". لكنه يضيف: "دائماً كانت بذور الحقد مزروعة في قلوب الأكراد تجاه العرب السُنّة". بعد أيامٍ معدودة، ها هي تظاهرةٌ تنظم أمام متجر علي للتعبير عن رفض الأكراد للعرب. "هلّا وقعتم على عريضة لطرد العرب من كردستان؟ هل أنتم من لبنان؟" يسأل أحد المتظاهرين وهو يرحب بنا ويؤكد لنا أنهم عندما يقولون "عرب" فهم يقصدون فقط سُنّة العراق.
على مسافةٍ قصيرة من متجر علي، يفتتح أبو محمد مطعمه المتنقل، ككل يومٍ في المساء. عندما نسأله عن أصله يشير الرجل الخمسني بإصبعه إلى القلعة التي تطل على السوق ويقول: "أنا من هنا، من العراق". جوهرة أربيل السياحية، تمثل هذه القلعة مفخرة الشعب الكردي والحكومة المركزية. معظم أجزائها اليوم قد تحولت إلى أطلال، إلّا أنها تخضع للترميم.
في بداية القرن العشرين سكن المدينة القديمة ما يقارب الـ4 آلاف نسمة، لكن أوضاعها انهارت خلال الثمانينيات والتسعينيات. وذلك حتى العام 2007، عندما تم إجلاء آخر دفعة من سكانها، الذين كانوا يعيشون في أوضاع مزرية، تمهيداً لإطلاق ورشة تطوير ستمتد خمس عشرة سنة بدءاً من العام 2010.
تهدف هذه الورشة إلى تطوير المنازل القديمة التي يعود بعضها للقرن السادس. لقد حرصت السلطات التابعة لحكومة أربيل المركزية على ترك عائلتين في المدينة، للحفاظ على كون أربيل مدينةَ مأهولة منذ أكثر من 6000 سنة. تمثل ورشة التطوير هذه فرصة مثالية للتنقيب عن الآثار وتأريخ الطبقات المختلفة التي تركتها الحضارات التي سكنت أربيل.تقول نرمين علي آمن، أستاذة في جامعة أربيل: "لم يسمح النظام البعثي بالقيام بأي حفريات في المدينة، ففي ظل حكم صدام، كان قول الحقيقة أقرب إلى المستحيل، وقد تمّ مراراً إلغاء تقارير لعلماء آثار، أو تغيير مضمونها". تضيف نرمين “أي ربط بين أربيل والفرس، أو اليونانين أو الأشكانيين كان مستحيلاً، فالتعليمات كانت تفرض علينا أن نتوجه نحو الحضارات العربية والإسلامية”. كانت أربيل ممراً لأمبراطوريات قديمة كالسومرية والعثمانية والأكادية والكلدانية والآشورية والفارسية واليونانية، ويأمل علماء الآثار الأكراد أن يجدوا فيها “معبد عشتار”، الإلهة الآشورية.
اليوم، إن كان الدخول إلى القلعة متاحاً لتأدية صلاة الجمعة في مسجد الملا أفندي الكبير، فوحده الشارع الرئيسي والحمام الذي يعود إلى العام 1700 ومتحف القماش الكردي، تبقى متاحة للعموم. كنوز القلعة التي أدرجت على قائمة التراث العالمي لليونسكو في 21 يونيو من العام الماضي تقبع في مكانٍ آخر لا يمكن الوصول إليه.
على بُعد خطى من متحف القماش الكردي، تخضع عشرات القصور التي تعود ملكيتها لوجهاء المدينة للترميم: أحواض سباحة في وسط ساحاتٍ خاصة، عوارض خشبية ولوحات مرسومة على الجدران... أما ما تبقى من الموقع، فيتألف من مساكن متواضعة تعود ملكيتها سابقاً لحرفيين.
يقول دارا اليعقوبي، مدير اللجنة العليا لإعادة إحياء القلعة: "نأمل في المدى المنظور أن تكون القلعة مركزاً لأربيل الجديدة، إذ يمكن في المستقبل أن نقيم فيها الفنادق والمتاحف. كما يمكن أن تكون مكاناً يحتضن الفعاليات الثقافية".
تحت القلعة، في مواجهة الأسواق، شارعٌ مهجورٌ، تكاد أبنيته تتهالك. عند المنعطف يظهر "قابيل" و"ماسيمو". يأتي الصديقان بين وقت وآخر إلى هذا الحي الذي هجراه في العام 2011 لاستحضار ذكرياتهما. "لم يكن لدينا خيار البقاء” يقول ماسيمو “لقد أعطتنا الحكومة منازل للسكن على أطراف أربيل كبادرةٍ منها للتعويض علينا, إلا إنني أفضل العيش هنا مع أصدقائي وأقاربي، نحن اليوم مشتتون!". بحسب ماسيمو، سكن الحي ما يقارب الـ150 عائلة منذ ثلاث سنوات. يبحث الشابان في متاهات حطام الشارع ليصلا إلى كوخ قديم تعود ملكيته لعائلة قابيل، ابن الـ29 عاماً. في أنقاض الكوخ يعثر قابيل على شفرةٍ للحلاقة فيلتقطها ويقبّلها ويقول: "في أحد الأيام، سقط السقف على رأسي، لذلك أنا سعيدٌ برحيلي... لقد كانت ظروف الحياة هنا قاسية جداً".لا تقتصر عملية الترميم في المدينة على هذا الشارع وحده، فشارع اليهود المجاور سيخضع قريباً للترميم والتحديث اللذين سيشملان أيضاً الوسط التجاري والمقبرة القديمة. مع ابتعادنا عن القلعة، نرى شوارع بمنازل صغيرة بطابقين تسكنها الطبقة المتوسطة. يضم القسم الثاني من المدينة ثلاث حدائق مجانية. إليها تتجه العائلات، بالإضافة إلى الشباب، لقضاء بعض الوقت. فالمدينة محرومة من الحياة الثقافية، وهي تضم صالة سينما أو اثنتين وصالة عرض واحدة في حديقة شانيدار. يقف “آسو” ذو الـ24 عاماً على مدخل الحديقة للتحقق من حقائب الزوار. لقد نال لتوّه شهادته الجامعية، وها هو يعمل لكسب بعض النقود منتظراً فرصة عملٍ أفضل. "ليس هنالك فرص عمل كثيرة. والأسعار ارتفعت جداً في المدّة الأخيرة”.
تحتوي حديقة شابيدار على تلفريك بألوانٍ زاهية يؤدي إلى حديقة مجاورة تدعى ميناريت. أخذت هذه الحديقة اسمها من مئذنة "ميناري كولي" العائدة إلى القرن الثالث عشر، إحدى معالم المدينة السياحية القليلة. فعلى الرغم من اختيارها عاصمة السياحة العربية للعام 2014، فإن أربيل لا تضم الكثير من المعالم السياحية، وإيجاد بطاقة بريدية واحدة فيها أقرب إلى المستحيل. يجلس “روبن” ابن الـ24 عاماً على التراس في الحديقة ويشرب الصودا أمام منطادٍ كبير عليه علامة شركة اتصالات. يقول: "مع أن أربيل هي عاصمة السياحة العربية، لم أرَ ما يجعلها كذلك".
تُعدّ حديقة سامي عبد الرحمن الحديقة المفضلة لدى الأكراد. أُطلق عيها هذا الاسم تيمناً باسم نائب رئيس وزراء الحكومة الإقليمية لكردستان، الذي أخذ على عاتقه تأسيسها منذ العام 2000، قبل أن يغتال في العام 2004 بهجومٍ انتحاري. تقع الحديقة في الموقع السابق للقاعدة العسكرية التابعة للفرقة الخامسة من جيش صدام حسين، وهي أكبر حديقة في العاصمة، تضمّ مسارات للجري وأحواض سباحة للعامة ومكتبة وبحيرة وأماكن لعب للأطفال.
كانار (25 عاماً) وشابول (26 عاماً) تجوبان أرجاء الحديقة وتتحدثان عن آخر تطورات المنطقة. بعد قضائهما سنة في بلاد الغربة لإكمال تحصيلهما العلمي، تعزم الصديقتان اللتان تعملان في شركة نفط على البقاء في كردستان لتأسيس مستقبلهما في كنف عائلتهما وعاداتهما. "لقد تغيرت طرائق التفكير كثيراً لدى الناس، ونحن مثال حي على ذلك، فمن عشر سنين، لم يكن مسموحاً لنا الذهاب بمفردنا إلى إنكلترا للدراسة، ولا حتى المجيء إلى هنا للتنزه". ومع أن العلاقات العاطفية لا تزال تخضع للرقابة الصارمة، فإن الفتاتين لا تشعران بالغضب جرّاء ذلك. ماذا عن المستقبل؟ بالنسبة لهما، سيكون زاهياً عندما تنال كردستان استقلالها الكامل، لكنهما لا تتوقعان حدوث ذلك في المدى القريب.
تقول كانار: "لماذا علينا الإنتظار؟ ولماذا علينا تأجيل لحظة نيلنا الاستقلال؟ يجب انتزاعه مباشرةً وإلا فلن تأتي اللحظة المناسبة مرّةً أخرى، يحق لنا أن ننال استقلالنا". أما بالنسبة لشابول، فإن موضوع الاستقلال يجب أن يأخذ وقته ليتحقق: "علينا أن لا نندفع وأن نضمن مسبقاً حصول اتفاق بين إيران وتركيا، فليس من مصلحتنا أن نصبح محاطين بأعداء أقوياء".
على مسافة خطواتً، يقدّم الطابق الـ21 من فندق ديفان إطلالة مدهشة على أربيل، فمن جهةٍ تظهر حديقة عبد الرحمن الكبيرة ومن ثم القلعة، ومن جهةٍ أخرى تظهر الصحراء التي تتآكل بفعل تشييد الأبراج والقرى التي يحرسها رجالٌ مسلحون. "الأمبير وورلد” Empire World، القرية الإيطالية، القرية الإنكليزية... مشاريعٌ عملاقة لا تنفك تمتد لتؤلف الجزء الثالث من المدينة. بحسب رئيس تحرير مجلة انفستمنت Investment Magazine، محمد علي البزّاز، يعتمد اقتصاد أربيل بنسبة 54% على قطاع العقارات، فمعظم الأبراج والشقق السكنية قيد الإنشاء قد بيعت سلفاً.
مع هبوط الظلام تتقلص خيارات النزهة في المدينة. الحانات القليلة التي تبيع المشروبات الروحية توجد في مدينة أنكاوا الصغيرة، وهي قرية ذات أغلبية مسيحية تقع على تخوم العاصمة. لمن لا يريد الذهاب إلى الحانات، يمكنه التوجه إلى المراكز التجارية في أربيل وأشهرها الفاميلي مول Family Mall. غالباً ما يقصد سكان أربيل هذا المركز التجاري للتنزه أكثر منه للتسوّق. يضمّ المركز حديقة جذابة تسمى فاميلي فان Family Fun، يلتقي فيها الأكراد من جميع الطبقات الاجتماعية. البعض يجوبون أرجاء المكان حاملين غزل البنات أو المثلجات، آخرون يتناولون العشاء في مطاعم الوجبات السريعة الموزعة هناك، بينما يستلقي الكثيرون على العشب.
مع بزوغ الفجر سيعود البعض إلى القتال، على الجبهات الأمامية التي تفصل كردستان عن مقاتلي الدولة الإسلامية. مقاتلو بشمركة مستعدون للموت دفاعاً عن أمن مدينة، هي عاصمتهم، ورمز منطقة بأكملها.
نشر هذا الموضوع على الموقع في تاريخ 09.01.2015
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...