شكلت الطبيعة أحد أهم موضوعات الفن التشكيلي، بل إن البعض اعتبر الفنان مجرد وسيط بين الطبيعة والبشر، يعيد إنتاجها ونقلها من خلال نظرته الجمالية. كذلك الشأن بالنسبة إلى قضية توظيف الفن التشكيلي في الدفاع عن الطبيعة في حقل النضال البيئي، من خلال الملصق Poster "النضالي"، والمنحوتات التي تجسد الأخطار المُحدقة بالطبيعة في العالم، كالاحتباس الحراري والجفاف وانحسار الغابات وغيرها من القضايا البيئية الراهنة.
في أقصى الجنوب التونسي، حيث الطبيعة لا تزال إلى حد ما بعيدة عن عبث الإنسان، اختار فنانون تشكيليون أن يحافظوا عليها بطريقتهم الخاصة، من دون أن يتخذوا منها موضوعاً، أو أن يمارسوا النضال البيئي بشكل مباشر. اختاروا أن يستمدوا المواد الخام لرسوم أو منحوتاتهم من الطبيعة نفسها، بعيداً عن المواد المُصنعة، الألوان من النباتات والحصى، والأخشاب من باطن الأرض وبين شعابها الوعرة. أما الزيوت فتستخرج من قشور جذوع الأشجار، ومن بتلات الزهور البرية. هكذا يثمنون موادَّ كان يلفها الإهمال، ليصنعوا منها تحفاً فنية.
زيد وأخشاب الزيتون
"كلما حاولت الابتعاد عنها، جذبتني إليها أكثر، أجدني دائماً أنبش في قشها وأغصانها وخشبها القديم كي أعثر على الجمال". هكذا يُلخص الفنان التشكيلي زيد عسل علاقته مع الطبيعة، فمنها يبدأ وإليها ينتهي عمله الفني.
يعتمد زيد على أغصان الشجر وخشب الزيتون المتروك والمُهمل في الطبيعة، كمادة أولية، يخرج منها أعمالاً فنية. ويعتبر أنه "يحاول تثمين هذه الطبيعة، من خلال تحنيط أخشابها في منحوتاته، وهو يكابد هذا العناء منذ وقت طويل بشغف ومتعة كبيرين".
مقالات أخرى
عودة الفن التشكيلي إلى الصومال
تعرفوا على أهم الأنماط الموسيقية في الجزائر
بدأت القصة في مرحلة الطفولة، جنوب البلاد. كان زيد متأثراً بوالده الذي يجيد صنع الكراسي والطاولات، معتمداً على خشب النخيل في أوقات الفراغ. فأصبح الصبي يحاكي الوالد ليجد نفسه منجذباً إلى الطبيعة وشغوفاً بها، ويكبر معه هذا الشغف. فإلى دراسته الحقوق، توجه إلى دراسة الفنون التشكيلية في الجامعة التونسية، ولاحقاً تلقى دروساً في البستنة (Gardening)، ليجمع بين الهواية والاحتراف، ولتكتمل عنده الدائرة التي تجمع بين الفن والطبيعة جمالياً وتقنياً.
منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، شرع زيد في بناء تجربة فنية متفردة بعيداً عن السائد، ليوازي بين حقلين بعيدين بعض الشيء للوهلة الأولى، الفن والحفاظ على البيئة والطبيعة، لكنهما يتعايشان بقوة في أعماله الفنية.
معتمداً على خشب الزيتون، وبعض الزيوت الطبيعية لتلميع القطع، استطاع زيد أن يُثمن العشرات من جذوع الزيتون المهملة، والتي يمكن أن تتحول إلى فحم للتدفئة في غالبية الأحيان، وحولها إلى أعمال فنية وتُحف، يدفع هواة الفن الكثير لاقتنائها.
يقول زيد عسل لــرصيف22: "مهمة الفنان تتمحور أساساً حول إيجاد مواطن الجمال المخفية، ورحلة البحث عن هذا الجمال يجب أن لا تأخذنا بعيداً عن ذواتنا. يجب أن نبحث داخلاً أولاً، وهذا الغوص الداخلي يفضي بنا حتماً إلى الطبيعة، فهي أصلنا، نرتبط معها بعلاقة أمومة مجازية وفيها نعثر، أقله بالنسبة إلي شخصياً، على الجمال. لست ضد بقية التجارب، التي تعتمد موادَّ صناعية في صياغة المادة الجمالية، ولكنني أعتقد أن الجمال سابق الوجود ودورنا هو الكشف عنه لا اختراعه أو صنعه بمواد نصنعها نحن، لا أؤمن بفن يساهم في تخريب الطبيعة، الصناعة وحدها من يفعل ذلك".
ويضيف: "لا أفكر في تغيير هذا المسار الذي مشيته منذ البداية، بل أراني مُصراً أكثر من ذي قبل على السير فيه حتى النهاية. الطبيعة عالم لامحدود، ثري وما زال غير مكتشف بالنسبة إلينا. ولو عملت طوال حياتي على خشب الزيتون، أنحت منه أعمالي، فلن أصل إلا إلى جزء صغير من الإمكانات الجمالية لهذا النوع من الخشب المقدس، وهو جزء ضئيل من الطبيعة الممتدة. فكثيراً ما أنقذت جذوع الزيتون الهرمة، التي كانت في طريقها لتتحول إلى فحم، ونحتّها حتى صارت أعمالاً فنية أعتز بها، إن كانت علاقتنا مع الطبيعة شبيهة بالأمومة، فعلاقتي بما أنحته من الطبيعة أشبه بالأبوة".
سعد يصنع ألوانه من النبات والحصى
غير بعيد عن مشغل زيد عسل الصغير، وفي أطراف قرية أمازيغية شيدها أهلها في صخور الجبال، يُقيم الفنان التشكيلي سعد المهزرس في بلدة شنني.
لم يذهب سعد إلى معاهد الفنون الجميلة، ولم يدرس نظريات الفن في مقاعد الجامعة. هو رسام سلك طريقاً فنياً فريداً منذ ثمانينيات القرن الماضي. إذ قرر منذ البداية أن يصنع ألوانه التي يستخدمها من الأعشاب الجبلية، التي تنمو في قريته. وصنع فرشاة الرسم من بقايا سعف النخيل، الذي يرتفع قرب بلدته، وابتكر نمطاً جديداً في الرسم، مستعملاً الرمال الملونة التي يجمعها من الأودية والشعاب والهضاب المجاورة.
"لم أسعَ لذلك اقتصاداً في تكاليف الرسم، أو قطيعة مع الألوان الصناعية، التي أجيد التعامل معها، بل اكتشفت منذ البداية ميلاً في داخلي لهذه الطبيعة المحلية".
ولدت وترعرعت هنا في هذه البلدة الأمازيغية الرائعة، ومنها أستطيع أن أحقق نوعاً من الاكتفاء، ألواناً وموضوعاً، كي أصوغ عملاً جمالياً أو لوحة". هكذا يلخّص سعد حكايته مع بيئته المحلية الطبيعية، وتأثيرها على أعماله الفنية.
بدأت رحلة سعد مع الرسم منذ المراهقة، حينذاك شرع في البحث عن الأعشاب، التي تنمو في قريته وحاول استكشاف قدرتها على منح الألوان من خلال خلطات كثيرة، حتى نجح في تشكيل خليط متنوع من النباتات، قادرة على منحه ألواناً، تشبه المُصنعة.
ومن خلال التجارب المتعددة، وجد أن الألوان الطبيعية أكثر قدرة على مقاومة عوامل الزمن وتتمتع بوهج أكبر وروح طاغية في العمل الفني. كما سار في طريق الاستفادة من الإمكانات التي توفرها الطبيعة في قريته النائية، حتى وصل إلى صنع الأدوات التي يستعملها في رسم اللوحات بنفسها، معتمداً على سعف النخيل و"الليف" الذي يغطي جذع النخلة، ليكتشف أن هذه "الفرشاة الطبيعية" لها بصمة متفردة عن نظيرتها الصناعية.
لا ينحصر ارتباط العمل الفني لدى سعد بالطبيعة في مستوى الألوان والأدوات التقنية، بل يتعداه إلى المضمون، فالطبيعة تشكل الموضوع الأبرز في لوحاته التي يطغى عليها الحضور الباذخ لجبال قرية شنني العالية، والصخور الصلبة، التي نحت فيها السكان المحليون قصوراً وقلاعاً منذ قرون، والنخيل المنتشر على أطراف البلدة يحرسها بجذوعه الطويلة. فسعد يرى أنه يستمتع كثيراً حين ترسم الطبيعة نفسها في لوحاته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين