يصعب على من لا يعرف إلا القليل عن حياة أسمهان أن يصدّق أنها لم تعش إلا سبعة وعشرين عاماً. حتى في الصور تبدو كأنّها جاوزت هذا العمر بأشواط، على رغم العناية الزائدة التي بذلها المصوّرون لتلك اللقطات القليلة. ربما يرجع ذلك إلى أن نساء ذلك الزمن كنّ يصلن إلى عمر النضج مسرعات. ولنزد على ذلك، في ما خصّ أسمهان، ذلك التاريخ الشخصي والفنّي الحافل الذي لم تتّضح ألغازه بعد، على رغم عودة الاهتمام بسيرتها في السنوات الأخيرة.
ففي ما يتعلّق بالكثير من جوانب حياتها نجد أنفسنا إزاء مجرّد افتراضات واحتمالات علينا دائماً أن نختار من بينها. مثالٌ على ذلك ما يتعلّق بموتها. فهناك احتمال أن يكون سقوط سيارتها في الترعة، وغرقها فيها مع صديقتها ومديرة أعمالها ماري قلادة، راجع إلى عمليّة مدبرّة. أما المتّهمون، بحسب ما زال يدور على الألسن حتى الآن: 1- المخابرات البريطانية التي كشفت علاقتها بالمخابرات الألمانية بعد فترة من مغازلتها الفرنسيين ولعبها دور العميلة المزدوجة بين الفرنسيين والإنكليز، 2- زوجها الأخير أحمد سالم الذي سبق له أن تزوّج أربع نساء هنّ خيرية البكري وأمينة البارودي وتحية كاريوكا ومديحة يسري، والذي تراوحت علاقته بأسمهان بين المنفعة والغرام الذي بلغ تأزّمه بينهما حدّ إطلاق الرصاص ثمّ التهديد بالانتحار من جانبه، 3- أم كلثوم، بسبب المنافسة بينهما وخوف هذه الأخيرة من صعود نجم أسمهان.
وهناك من يقول إنّه سبق لأسمهان أن تنبّأت بموتها، في ذلك المكان نفسه حيث كانت الترعة تُدار بآلة ضخّ بخاريّة. "كلما سمعت هذا الصوت أحسست بموتي الوشيك"، كانت تقول. وهناك أيضاً، بين رواة سيرتها، مَن عشق التقريب بين المصادفات فجمع بين مولدها على الباخرة العائدة بالعائلة، هاربةً، من تركيا إلى مرفأ بيروت، وبين وفاتها في الترعة، فقال إنها كانت تعلم، هي المولودة في الماء، بأنها ستموت في الماء. وهذا إن دلّ على شيء فإنّما على أنّ حياة أسمهان كانت مجالاً خصباً لنسج الخرافات على أنواعها.
كأنّها عاشت حيوات كثيرة في حياتها القصيرة الواحدة. من الغناء إلى السينما إلى التقّلب بين أجهزة المخابرات المختلفة والمتحاربة، إلى الحياة الشخصيّة التي لم تقتصر على أزواجها الثلاثة (وثمة من قال إنّها تزوّجت أيضاً من فايد محمد فايد مدة عشرة أيام فقط من أجل الحصول على تأشيرة تتيح لها العودة إلى مصر). وهي تزوّجت من قريبها الأمير حسن الأطرش مرتين، بما يخالف العادات الجارية هناك في جبل الدروز بحسب ما نقلت شريفة زهور في كتابها "أسرار أسمهان" الصادر أصلاً بالإنكليزية والمترجم إلى العربية.
ولنضف إلى ذلك أنّها، في حياتها القصيرة، لطالما تقلّبت بين الثراء والفقر. من كتبوا سيرة حياتها، وهم عديدون، أرجعوا تورّطها مع أجهزة المخابرات المختلفة إلى حاجتها الدائمة للمال، ذاك الذي تنفقه بتهوّر أدهش جميع عارفيها. "كانت تقترب من هؤلاء تارة ومن أولئك تارة أخرى. فإن لم يدفع البريطانيون فقد يدفع الفرنسيون". المفوّض السامي البريطاني في لبنان إدوارد سبيرس، الذي كان معجباً بها، قال: "طلبتْ مني ومن كاترو (الجنرال جورج كاترو، المفوض السامي الفرنسي في لبنان وسوريا) مزيداً من المال، وقد رفضنا طلبها بعد التشاور". وهذا مما ذكرته شريفة زهور التي تعلّق أن أسمهان كانت تنفق المال بغية التأثير في من هم حولها.
أخوها غير الشقيق منير الأطرش روى عن سخائها في أيام رمضان وكيف كانت تغدق المال على الفقراء والفنانين والموسيقيين. وهو تذكّر أنها، لمناسبة ذكرى سقوط الباستيل، ربما في عام 1943 أو 1944، دُعيت إلى الحفل الذي أقامه كاترو للمناسبة: "كانت ترتدي حجاباً على الطريقة المصرية. في ذلك اليوم أعطت كلّ جندي حيّاها مئة ليرة. كانت لليرة قيمة ذهبية آنذاك. ومما ميّز حضورها أيضاً في ذلك الحفل أنّها، فيما كانت تسحب منديلها من حقيبتها لتجفّف عرقها، لمح كاترو مسدّس براوننغ في الحقيبة. قال لها: ويحك، يا أميرتي! أتيت إلى مقرّي حاملة مسدّساً؟ أنا لا أخاف إلا من أمثالك".
وقد بلغ من إسرافها في إنفاق المال أن عرّضت زوجها الأمير حسن الأطرش، والذي تسلّم وزارة الحربية فيما بعد، إلى شفير الإفلاس. لم تكن تطيق طول الإقامة في المكان الواحد فطلبت منه أن يبني لها قصراً آخر غير ذاك الذي بناه لها في السويداء ولم تقم فيه إلا أشهراً. وفي إحدى إقاماتها في القدس رفضت إخلاء الجناح الذي كانت مقيمة فيه بفندق الملك داوود لتحلّ محلّها الأميرة نازلي والدة الملك فاروق، على الرغم من أنّها في ذلك الوقت كانت في حاجة شديدة إلى المال، الأمر الذي كان له أن يضعف من اعتدادها بنفسها.
وهناك من يرى أنّ طرفاً من الخلاف كان قائماً بينها وبين نازلي مرجعه إعجاب حسنين باشا بها، وقد شاعت بين هذا الأخير ونازلي علاقة أحرجت القصر الملكي المصري.
كما كانت لا تطيق البقاء على حال واحدة. من دون أن تتّصل بأحد من معارفها، وخصوصاً بالصحافي محمد التابعي صديقها الأقرب، غادرت بيتها في القاهرة لتتوجّه إلى سوريا، حاملة رسالة من البريطانيين إلى أهلها في جبل الدروز. كانت تلك المهمة الأولى لها، في ما اعتبر أنّه بداية تورّطها في أعمال الجاسوسيّة، بحسب البعض، بينما ترى هي وبعض أهلها أن ما قامت به مهمّة وطنيّة. هناك من يؤكّد أنّها تقاضت مبلغ أربعة آلاف جنيه مكافأة على قيامها بالمهمّة، لكن، من ناحية أخرى، كان هذا المبلغ أقلّ بكثير من عوائد الغناء والتمثيل السينمائي، التي كانت ستجنيها لو بقيت في مصر. مثال على ذلك أنّها، حين رجعت إلى مصر، اشترطت أن تقبض 13 ألف جنيه سلفاً عن الفيلم الذي تعاقدت على لعب دور البطولة فيه.
ما كان يدفع بها إلى القيام بخطواتها غير المحسوبة وغير المقرّرة سلفاً هو عدم قدرتها على البقاء في ما هي فيه وعدم الاكتفاء بما بلغته من مجد وشهرة. لم يكن أحد غيرها بين النجمات العربيات، قبلها وبعدها، من ترى أنّ النجوميّة في الميدان السينمائي أو الغنائي هو محطّة للوصول إلى ما هو أكثر أهمية. كأنّها لم يكفها أن توضع، كمغنيّة، في مصاف أم كلثوم، وهذا ما تحقّق لها وهي في تلك السنّ المبكّرة آنذاك. وفي السينما تلقّت الأجر الأكبر حتى حينه وهو 20 ألف جنيه.
في كلّ من جوانب حياتها كان القلق والرغبة في التغيير يلازمانها. لا تلبث أن ترغب بالعودة إلى مصر حين تكون في سوريا، أو في لبنان، أو ترغب بالذهاب إلى القدس حين تملّ الأمكنة الثلاثة الأولى. كذلك كانت حالها مع الرجال عموماً، ومع أزواجها الذين كانت لا تطيق البقاء الطويل مع أيّ منهم. أما حسن الأطرش، الذي عادت إلى الزواج منه ثانية، فكان أكثرهم تعرّضاً لمزاجها الخطر المتقلّب. في إحدى روايات الجنرال سبيرس عن صلته بأسمهان يقول: "ذات ليلة كنت أتناول العشاء في أواخر مهمّتي في بيروت عندما أبلغني كبير الخدم العربي بأن الأمير الأطرش يرغب في مقابلتي حالاً، ويسأل إن كان في وسعه أن يأتي الآن. كنت مجهداً. وعلمت أن قطع المسافة عبر شوارع العاصمة اللبنانية الضيّقة سوف يستغرق نصف ساعة. وبعد نصف ساعة وصل (الأمير) من غير مترجم، وهذا جعل زيارته بلا جدوى لأنه لا يتكلّم الفرنسية ولا الإنكليزيّة، وأنا لا أفهم العربية. لذلك طلبت من كبير الخدم أن يسأل الأمير عن سبب هذه الزيارة العاجلة التي شرّفني بها. ثم إنّه أوضح أنّ زوجته قد أخبرته أنني اتصلت بالهاتف طالباً حضوره العاجل إلى السفارة. ها هو ذا السبب إذن. كانت محتاجة إلى غياب زوجها ساعة لأسباب معروفة عندها تماماً، والحصيلة هي أنّها خدعتنا نحن الاثنين، ووفّرنا لها وقتاً استفادت منه بلا شكّ".
الجنرال سبيرس كان معجباً بها على الأغلب، بل ربّما جمعته بها صلة تتعدّى الاتّصال السياسي واللقاء في المناسبات الديبلوماسية. إذ من أين له أن يعرف كلّ ما يعرفه عن حياة أسمهان الخاصة؟ في كتاب مذكّراته وصفها بالقطّة الشرسة. أما وصفه الأكثر تفصيلاّ لها فكان أقرب إلى نصّ أدبي: "كنت رأيت الأميرة للمرّة الأولى في الحفل الكبير الذي زُفّت فيه إلى زوجها للمرّة الثانية. كانت رائعة في تلك الأمسية التي لبست فيها ثياباً أوروبية. ومع ذلك فقد علمت أنّها أجمل بكثير في الثياب العربية التي تخفي ساقيها القصيرتين بعض الشيء. ولكن مهما كانت ثيابها، فإنّها كانت، وستبقى دائماً، إحدى أجمل النساء اللواتي رأيتهنّ في حياتي. كانت عيناها هائلتين، خضراوين بلون البحر الذي عليك أن تمخره وأنت في طريقك إلى الفردوس. كانتا معطوفتين إلى الأعلى عند الطرفين مثل جناح نورس. وعلمت في ما بعد أنّ لها صوتاً رائعاً عندما تغنّي أغنيات عربية... وبالطبع، فإنّها كانت دائمة الحاجة إلى المال، ولكنّها كانت تنفقه كما تذرو الماء غيمة ماطرة".
استخفّت باللعب مع الكبار، في الفنّ وفي السياسة. وهي لم تكترث للمكر الذي يتميّز به من كانوا في تلك المواقع. يظهر من سيرة حياتها القصيرة أنّ من أخلص لها متحمّلاً نزقها وتقلّبها والشائعات، كما الحقائق، التي كانت تثار حولها، هو وحده زوجها وقريبها الأمير حسن الأطرش. كان يتصرّف دائماً كما ينبغي لـ"إبن العائلة" بحسب التعبير المعروف في سوريا ولبنان. وهذا على الرغم من تغيّر الزمن الذي كان يمكن للأمور أن تبقى فيه ضمن أطر العائلات وقيَمها. كان هناك الإنكليز والفرنسيون وكذلك الألمان، ثم الأتراك وغيرهم، وذلك في الحرب العالمية الثانية، حيث أكثر سنوات القرن العشرين تأزّماً. أما هي، أسمهان، فقد ركبت تلك الأمواج العاتية من دون معرفتها بأنّ حسابات كثيرة ينبغي أن تؤخذ قبل الإقدام على أيّ خطوة من تلك الخطوات التي ألقت نفسها فيها.
ربما ينبغي أن نتذكّر سيرة أسمهان ونحن نستمع إلى أغنياتها الآن، فذلك قد يُضفي حسّاً بما كانته وما انتهت إليه حياتها. لا أعرف إن كان مشاهدو المسلسل التلفزيوني الذي أعاد تمثيل جوانب من حياتها قد أضافوا، وهم يعيدون سماع تلك الأغنيات، التراجيدية التي لازمت حياة مغنّيتها. كما لا أعرف إن كانوا أدركوا بأن تلك الحياة، على قصرها، كانت أوسع بكثير مما يمكن أن تعيشه امرأة عربية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يوممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 4 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي