أتذكر سماعي إحدى قريباتي المسنّات تُدمدم في المرحاض وحيدةً. كان ذلك في صباح أحد الأيام قبل أكثر من عقد ونصف العقد. كُنت لا أفقه ما كانت تقصده من ذلك. لذا ضحكت بصوت عالٍ واتهمتها بالخرف. ناديت والدتي لأخبرها بما يحدث فوبختني بهدوء وأبعدتني عن المرأة العجوز التي خرجت بعد دقائق قليلة والإصفرار واضح على وجهها.
لدى العراقيين طريقة ورثوها من أسلافهم. إذا ما حلِموا حلماً سيئاً يذهبون إلى المراحيض ويسردونه هُناك. يعتقدون أن قيامهم بذلك سيُبطله. قالت لي قريبتنا بلهجتها الجنوبية: "وليدي العياذ بالله، أيّ حلم مو زين روح احجي بالمرافق حتى ترتاح منه" (اسرد الحلم السيئ في المرحاض لتتخلص منه). كُنت اعتقد أن قريبتنا كانت تخفي عنّي شيئاً ما، وأرادت إسكاتي بهذه الجملة.
رجال الدين يُفضّلون قراءة بعض سور القرآن لإبطال الأحلام السيئة. وآخرون يعتبرون أنه يجب عدم التحدث بها لا في السر ولا في العلن. وفي الوقت نفسه، هناك مَن يرى ضرورة إبطالها بسردها في الحمام.
وقال الباحث الاجتماعي واثق صادق إن "المسألة برمتها تتعلق بالمعتقدات الشعبية لكل مجتمع. فهي ليست وليدة اللحظة بالتأكيد ويتم توارثها من جيل إلى آخر. وعلى الرغم من أن انتشار هذه العادة في الوقت الحالي لا يشير إلى وجودها كظاهرة اجتماعية، فلا يمكن نفي وجودها".
مواضيع أخرى:
الزار في مصر: من طقس لطرد الجنّ إلى مجرد رقصات احتفالية
شارع السحرة في موريتانيا: بيع الوهم
وأضاف: "اعتقاد المرء بشيء ما يمكن أن يؤثر فيه بشكل أو بآخر نتيجة الإيحاء الذي يبعث في النفس شعوراً بالارتياح وقدرةً على التحكم والسيطرة على الأمور". ففي رأيه، "المسألة لا تتعلق بالخرافات والأساطير بقدر تعلقها بالسلوك الشعبي وآليات المواجهة التي يسلكها الناس في حياتهم، ومنها التخلص من الأحلام السيئة".
يحاول الإنسان التشبث بشيء يُساعده على إبطال حلمه دون سرده لغيره من الناس. وهذا الاعتقاد أصبح رائجاً عند العراقيين، وخاصة عند النساء اللواتي يولين أهمية كبيرة لأمور الأحلام وقراءة الكف وسواها من السلوكيات المجتمعية التي أصبحت لازمة في حياتهن.
إن أغلب الذين يسردون أحلامهم في الحمّام ينتمون إلى الديانة الإسلامية، مع أن لا أساس ديني لهذه العادة، وهم لا يلجأون إلى الطرق الإسلامية في إبطال الأحلام السيئة. فالإسلام لا يشرع هذه الطريقة، بل جاء في السنّة النبوية أنه يجب الاستعاذة بالله من الشيطان والبصق ثلاث مرات ناحية اليسار.
وأبدى رجل الدين، محمد السامرائي، انزعاجه من طريقة التخلص من الأحلام المكروهة بسردها في المرحاض، واعتبر أنها "طريقة اعتمدت على الخُرافة، فالتخلص من الأمور السلبية يتم عبر قراءة القرآن".
وأضاف: "في العقود الماضية عندما كان الناس في القُرى والأرياف معزولين عن التواصل مع المدنية، ولم يكن يوجد وعي كبير لديهم، وكانت الثقافة الدينية الصحيحة غائبة، زرع البعض بينهم خرافة سرد الأحلام في المرحاض، وهذا مُضحك ويجب عدم الاعتقاد به".
سُرى (اسم مستعار) طالبة جامعية، لم نعتقد أنها تعرف شيئاً عن سرد الأحلام المزعجة في المرحاض. لكن فوجئنا بممارستها لهذه العادة. وأكّدت أنها "فعّالة، ويُمكنها إبطال الأحلام المزعجة".
كثيرون يمارسون هذه العادة لكن بعيداً عن الأعين. تقول سُرى إنها تحلم بأمور تفصيلية لها علاقة بحياتها الخاصة، وتضيف: "بعض التفاصيل التي أحلم بها تتحقق في الواقع. لذا أشعر بالقلق دائماً عند الاستيقاظ من النوم. ولا سبيل أمامي سوى هذه الطريقة التي علمتني إيّاها جدتي".
أكثر من مرة استخدمت بنت الأربعة والعشرين ربيعاً، طريقة جدتها للتخلص من الأحلام المزعجة. وبحسب ما تروي، لم تقم في إحدى المرات بهذا الطقس، فكان أن تحقق ما شاهدته في النوم. ومنذ تلك الحادثة، أيقنت أن الطريقة التي يعتبرها البعض "خُرافة"، هي طريقة فعّالة.
ليست هذه الطريقة الوحيدة ولا الأولى ولا الأخيرة التي لا أساس لها من الأصول العلمية في حياة العرب. فهناك مئات الخرافات والطقوس الغريبة التي تبنتها المجتمعات منذ مئات السنين، حتى أصبحت جزءاً من حياتها، ومحط اهتمام أغلبية الناس.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...