أمام حاسوبي، اقترحت نيتفليكس، كعادتها، تبعاً لذوقي الذي تبنيه على أساس ما شاهدته سابقاً والخوارزميات المبرمجة فيه، فيلم Velvet buzzsaw، المُنتج هذا العام، بتوقيع المخرج الأمريكي دان غيلروي.
أتى هذا الاقتراح ضمن مصادفة غريبة، فما إن بدأت بالمشاهدة حتى اتصل بي صديقي ثمين الخيطان السائح في فلورنسا، وقال لي إنه يخشى من جمال تلك المدينة، ويخاف من الإصابة بمتلازمة ستاندال، التي تسبّب للمرء اضطراباً عقلياً وجسدياً بسبب جمال المدينة وكثرة الأعمال الفنيّة فيها، كحالة ستاندال نفسه حين زار فلورانسا عام 1817 حيث" جفّت الحياة منه، وكان يمشي خائفاً من السقوط".
تدور أحداث الفيلم في ميامي/الولايات المتحدة، إحدى المدن التي تنشط فيها الحركة الفنيّة المعاصرة، ونشاهد فيه قصة اكتشاف جوزيفينا، التي تعمل في واحدة من صالات العرض هناك، مجموعة لوحات لفنان مغمور (فيتريل ديز)، تسكُنها قوى خارقة، يمكن لها أن تنتقم من كل من يسوّل له جشعه استغلالها أو بيعها، إذ أوصى ديز بحرق لوحاته، إلا أنّ جوزيفينا تجاهلت وصيته وسرقت اللوحات سرّاً من شقته من أجل عرضها ومحاولة بيعها في الصالة.
نكتشف مع جوزيفينا لوحات لشخصيات معذّبة، تعرّضت لعنف جسدي ونفسي، يسكنها الخوف والألم وهاجس القتل، تعابير الشخصيات في اللوحات قاتمة ومكفهرّة، دماء تسيل وصراخٌ، في حين أن القائمين على الأعمال الفنية، يبدون بأحسن حال، أصرّ مُخرج الفيلم على ذلك، فهناك نوع من التضاد بين ما يحدث داخل اللوحات خاصة في الليل، وبين ما يحدث خارجها، حيث الألوان هادئة، والزوايا حادة، وكل شيء مرسوم بقلم دقيق، بينما تتمازج الألوان على اللوحات بخط عريض وريشة متسخة الملامح، العواطف جيّاشة داخل اللوحات.
والانطباعات ليست عادية، تحكي أحداثاً هامة في حياة الفنان ووالده القاسي العنيف، في حين أن الحياة خارجها، داخل فقاعة سوق الفن، تبدو بلاستيكيّة وتافهة، خالية من الأحداث المؤثرة على الرغم من خطورتها في الحقيقة، ما يحيلنا إلى رسالة الفيلم التي ترى أن الفنانين ليسوا علامات تجاريّة مسجّلة، وما يقومون به ليس إلا تعبير خالص عن مشاعر الفنان وتجاربه المعاشة.
خارج اللوحات، تتحرّك الشخصيات دون اهتمام بالآخرين، يقودهم الجشع وحب الشهرة، خاصة القائمين على صالات العرض، الذين يتكالبون على بعض الفنانين، ويقومون بقتل رمزي للبقية، نحن أمام شخصيات تعمل في الوسط الفني لكنها لا تقدّر معاناة الفنانين، وترى أعمالهم كسلعة فقط، تزيّن قصور الأغنياء. ألحّ المخرج وكاتب الفيلم على إظهار الابتذال والاصطناع الذي تعيش ضمنه الشخصيات، وهذا ما يظهر بداية في أسمائها الطنّانة: رودورا، واندرفالت، جوزيفينا، ليس هناك من ضحية بينها، حاول الجميع سجن الفن وتأطيره ضمن سلطة المال والحياة الباذخة الفارغة التي يعيشها أصحاب المال/الزبائن.
ينتقد الفيلم مراراً العلاقة المتوترة بين التجارة والفن، والارتباط المربك بينهما والذي قرّر المخرج الانتقام منه، إذ نجد في إحدى الصالات في الفيلم أعمالاً لجيف كونز، الفنان الجدلي الشهير الذي يبيع أعماله بمبالغ خيالية حتى وإن كانت مكنسة كهربائية، ويجسّد الشكل الجديد للفنان بوصفه مشرفاً أو وكيل أعمال فنيّة أكثر من كونه صانعاً فنياً.
الأهم، أن الفنانين في الفيلم لا يتساوون مع القيمين على المعارض وتجار الفن، فأحدهم ترك المدينة والآخر عاد إلى سكره وإطلاق العنان لنفسه، لنجده في نهاية الفيلم يرسم دوائر على الشاطئ لنفسه فقط، تلك الدوائر التي يمحيها الموج، هو يمتلك حرية العرض أيضاً فالأعمال موجّهة له وللسماء فقط.
ينتقد الفيلم مراراً العلاقة المتوترة بين التجارة والفن، والارتباط المربك بينهما والذي قرّر المخرج الانتقام منه، إذ نجد في إحدى الصالات في الفيلم أعمالاً لجيف كونز، الفنان الجدلي الشهير الذي يبيع أعماله بمبالغ خيالية حتى وإن كانت مكنسة كهربائية.
يسخر الفيلم من شخصياته ويتهكّم عليها، هي شخصيات لا يمكنها التعاطف مع أحد، جشعة، لا تحترم الفن أو الفنانين، بل هي من تسلّعه/هم، هم ليسوا ضحايا، لذلك، عندما يبدأ الانتقام منها، يشعر المشاهد بالتطهير وبالرضى لانتصار إرادة "الفنان" على إرادة "البائع".
عندما تمكّن الفن من الانتقام، أصبحت اللوحات في الشارع، يبيعها رجل فقير وجد فيها بديلاً من التسوّل وطلب المال من المارّة، عندها، توقف الفن عن القتل وأصبح أكثر بهجة كما نرى في ألوان اللوحات التي عرضها الرجل الفقير، وكأنّها في مكانها الحقيقي.على الرغم من الأجواء الفنيّة المخمليّة والحالة الفنيّة العاليّة الموجودة في أجواء الفيلم والميزانيّة الكبيرة المرصودة له، إلا أنه لا يختلف كثيراً عن أفلام الرعب التقليديّة: هناك مجموعة من الأشخاص الذين تربطهم أماكن معينة ومصالح معينة، يعيشون صراعاً مع شرٍّ قاتل، يؤدي إلى موتهم جميعاً، ضمن تشويق فيه نوع من الريبة، كفيلم الجمعة 13، والصرخة، وهالوين ومذبحة تكساس بالمنشار وغيرها من الأفلام التي تندرج تحت هذا النوع. فكما يلاحق ذو الوجه الجلدي ضحيته بمنشار كهربائي، يتقمّص الشرّ في اللوحة عملاً فنيّاً بشكل رجل آلي، ليطارد واندرفالت ويقتله، وهنا تتضح أمامنا عناصر التشويق، فالأعمال الفنيّة داخل صالات العرض هي احتمالات لقتلة مستقبليين، لا نعرف كيف ستقتل ولا متى، هذه التساؤلات التي نطرحها حين نشاهد أي فيلم رعب. يسخر الفيلم من شخصياته ويتهكّم عليها، هي شخصيات لا يمكنها التعاطف مع أحد، جشعة، لا تحترم الفن أو الفنانين، بل هي من تسلّعه/هم، هم ليسوا ضحايا، لذلك، عندما يبدأ الانتقام منها، يشعر المشاهد بالتطهير وبالرضى لانتصار إرادة "الفنان" على إرادة "البائع". عمليات القتل في الفيلم كانت شديدة الرمزية، وكأنها مصمّمة للانتقام من كل من الشخصيات على حدة، الناقد مورف واندرفالت قُتل على يد العمل الفني أو الروبوت الذي كان قد "دمّره" في مقال كتبه عنه، والذي كان يهذي ويطلب بصوته الآلي من الناقد أن يراه ويؤكّد أنه يُحسّ به، بعد أن كسر سلاحه الأول، نظارته. أما الفتاة التي عملت كمساعدة في واحدة من الصالات، والتي لم تعجبها هذه الحياة، لم تُقتل، لكنها كانت أوّل من رأى السماسرة المقتولين، وكأن جثثهم تحذّرها كي تبتعد، أما شخصية غريتشن فتشبه هيلين مولسويرث، واحدة من أهم القائمين على المعارض في لوس أنجليس، يقتلها عملها المفضّل ويقدّم دمها للصالة كقربان. في حين أن جوزيفين التي تبدو كإحدى مراهقات ماركيز دو ساد، فهي أنانية، غير مكترثة، متحمسة، وتموت إثر تسلل الألوان إلى جسدها لتصبح جزءاً من غرافيتي على حائط قالت عنه أنه رخيص، وكأنها قُتلت بعد أن قالت إن الفن فن لأننا نراه. أما رودورا صاحبة الصالة التي لم تعد تؤمن بالفن بعد أن كانت في فرقة ثائرة لموسيقى روك بانك، فقتلتها الذكرى الوحيدة المتبقية على جسدها من فنها ومن معتقداتها. عندما تمكّن الفن من الانتقام، أصبحت اللوحات في الشارع، يبيعها رجل فقير وجد فيها بديلاً من التسوّل وطلب المال من المارّة، عندها، توقف الفن عن القتل وأصبح أكثر بهجة كما نرى في ألوان اللوحات التي عرضها الرجل الفقير، وكأنّها في مكانها الحقيقي، في الشارع على تماس مع الناس بشكل مباشر، كالفن الذي يجب أن يستمتعوا به ويشتروه لأنهم أحسّوا به لا لأنه نال التقدير من قبل النقاد أو صالات العرض. يذكرنا الفيلم بأفلام أخرى ربطت الفن بالخطر، وكأن الفن خارج الإطار تهديد ولا يمكنه تفهم المجتمع الجشع، كالفيلم السويدي "المربع-the square"، حيث تبقى الأفكار الإنسانيّة محبوسة داخل الإطار، وعندما خرجت بدأت بضرب القائمين على الفن، أولئك الجالسين في الصالة الفارهة بكل برود بعيداً عن المعاناة والألم. https://youtu.be/EUzRjRv0Ib0 أو فيلم متلازمة ستاندال للمخرج الإيطالي داريو أرجينتو (1996) La sindrome di Stendhal، حيث تسبّب اللوحات للمحققة التي تبحث في جرائم قتل في فلورانسا، نوعاً من المرض الغريب الذي يعرّضها لخطر القتل. فهل سينتقم الفن من القيمين على المعارض وصالات العرض أم سيستمرّ في الخضوع لهم وهل هناك علاقة مثالية بينهما؟ وما هو دور الفنان من هذا الموضوع؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...