عام 1899، رفع ثلاثة مبشرين بروتستانت كانوا يعملون في مصر تقريراً إلى الكنيسة المشيخية الموحدة في الولايات المتحدة، طالبوا فيه بإنشاء كلية أمريكية، واستندوا في ذلك إلى مبررات، منها تزايد استخدام اللغة الإنكليزية في مصر بعد الاحتلال الإنكليزي، بسبب الاعتماد عليها في كافة الدواوين الرسمية.
استلهم المبشرون الثلاثة، أندرو واتسون ووليام هارفي وجون جيفين، تجربة كلية روبرت في إسطنبول والجامعة الأمريكية في بيروت (الكلية السورية الإنجيلية حينذاك) اللتين تأسستا في عامي 1863 و1866، وذكروا في تقريرهم سببين آخرين لإنشاء الجامعة: الأول هو تدريب المبشرين الجدد في معهد خاص بهم داخل هذه المؤسسة وتعريفهم بالبيئة التي سيواجهونها في عملهم؛ والثاني تعليمهم اللغة العربية باعتبارها أساساً لمَن يريد التبشير في هذه المنطقة.
ويذكر الدكتور عماد حسين في كتابه "الجامعة الأمريكية في القاهرة. 1919-1967"، أن التقرير شرح أن المؤسسة المنشودة ستُدار عن طريق مجلس أوصياء مكوّن من رجال دين بجانب رجال أعمال، لضمان تدبير استمرار التمويل، وأنه سيتم التركيز على تعليم مواد مثل التاريخ، والعلوم والفلسفة، والآداب، إضافة إلى الإيمانيات والقيم المسيحية، على أن يتم ذلك في ظل قواعد ونظم دينية، وفي نفس الوقت تُتبع قواعد التعليم الحر الأمريكي، بما يضمن المساواة بين كافة التلاميذ.
لكن مدير أرشيف الجامعة الأمريكية ستيفن أورغولا ذكر لرصيف22 أن الهدف الديني لم يكن أساس الفكرة، وإنما كان جزءاً من خدمات تقدّمها الجامعة لرعاية المسيحيين المصريين باعتبارهم أقلية، حتى أن تعليم العلوم الأخلاقية كان يتم خلال محاضرات لتنمية المعاملات بين الناس ولم يكن يستند إلى خلفية دينية.
من جانب آخر، يذكر أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر الدكتور أحمد الملا لرصيف22 أنه رغم أن فكرة إنشاء الجامعة كانت قائمة على أساس تبشيري، لكن هذه الصبغة ضعفت مع مرور الوقت، فاتخذت الجامعة منحى علمياً بالأساس، وارتبطت بالسياسة الأمريكية في المنطقة أكثر من ارتباطها بمذهب ديني.
نقطة البداية وأزمات عدّة
على كلٍ، قررت الكنيسة المشيخية الموحدة في أمريكا عام 1903 دراسة الاقتراح بجدية، وشكلت لجنة لدراسة الوضع التعليمي في مصر على مدار ما يقرب من عشر سنوات، وانتهت إلى أهمية إنشاء مؤسسة جامعية في القاهرة، وأوكلت تنفيذ المشروع إلى تشارلز، ابن المبشّر أندرو واتسون. [caption id="attachment_186563" align="alignnone" width="700"] تشارلز واتسون[/caption] وبحسب أورغولا، فإن تشارلز واتسون هو أمريكي الأصل وُلد في مصر وتربى فيها وأهله كانوا يعملون في أسيوط جنوب مصر، ثم سافر للدراسة في أمريكا، لذا كان متحفزاً لإنشاء جامعة على النمط الأمريكي لنشر الفكر الحر الليبرالي في مصر. وقبل الحرب العالمية الأولى، نجح واتسون في توفير الدعم المالي من خلال متبرعين في أمريكا. وعندما بدأت الفكرة تتبلور على أرض الواقع، راح المؤسسون يبحثون عن حرم جامعي تكون مساحته كبيرة ويكون بعيداً عن زحام المدينة، فوقع اختيارهم على "قصر خيري باشا"، وهو قصر شيّده الخديوي إسماعيل عام 1870 كمنزل لكاتم أسراره ووزير التعليم في عهده أحمد خيري باشا. بعد وفاة خيري باشا، بيع القصر لرجل الأعمال اليوناني نستور جناكليس، فحوّله لفترة وجيزة إلى مكان لإنتاج وتعبئة منتجات تبغ هلمار Helmar. ولاحقاً، وبالتحديد عام 1908، استأجرت الجامعة المصرية (تغيّر اسمها بعد فترة إلى جامعة الملك فؤاد) المكان، واستخدمته حتى اشتراه تشارلز واتسون عام 1919، مستفيداً من هبوط أسعار العقارات إثر القبض على الزعيم الوطني سعد زغلول واندلاع الثورة، وخوف الأجانب من نجاح الثورة المصرية وتبنيها نهج التأميم على غرار الثورة البلشفية. وبينما دعمت الحكومة المصرية حينذاك إنشاء الجامعة بهدف نشر العلم والثقافة وتربية أجيال جديدة على التنوير، عارضت سلطات الاحتلال البريطاني ذلك خشية تزايد النفوذ الأمريكي في مصر على حسابها، يذكر أورغولا. من جانب آخر، تعرّض المشروع لهجوم من بعض الصحف المصرية مثل "الجهاد" و"البلاغ"، والتي نظرت إليه على أنه ناقل لفكر غربي يحمل قيماً وأفكاراً تتعارض مع قيم المجتمع المصري، و"لكن ما إن بدأت الدراسة عام 1919 حتى تغيّرت هذه النظرة السلبية وعرف المصريون أهداف الجامعة"، بحسب أورغولا.الحرب العالمية الثانية
على مدار تاريخها، تعرّضت الجامعة الأمريكية لعدة هزات ارتبطت بالمتغيرات السياسية، كان أبرزها خلال الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) التي أثرت مجرياتها سلباً على الوضع الاقتصادي في مصر وعلى تمويل الجامعة. أبرز المشاكل التي واجهت الجامعة حينذاك تمثلت في مغادرة كثيرين من الأساتذة الأجانب خوفاً من اجتياح القوات الألمانية للقاهرة. سافر بعضهم إلى السودان، وآخرون إلى اليونان، وبعضهم إلى الولايات المتحدة، كل بحسب ظروفه، يروي أورغولا. ومع وصول قوات المحور إلى منطقة العلمين، وإلحاقهم هزائم متتالية بالقوات البريطانية، ناقش مجلس الأمناء في أمريكا مسألة إنهاء وجود الجامعة، وجرى اقتراح أماكن بديلة عن القاهرة. وفي ديسمبر 1941، دخلت الولايات المتحدة الحرب. بحسب حسين، وصلت قيادة القوات الأمريكية إلى القاهرة في بدايات عام 1942، وتواصلت مع الجامعة لتكون مبانيها ومكاتبها مقر قيادتها، وجرى توقيع اتفاق رسمي بهذا الشأن عام 1943، كما تم إنشاء معهد داخل الجامعة لهذه القوات كغطاء للوضع المذكور. غير أن أورغولا ينفي أن تكون الجامعة قد استُغلّت كمقر للقوات الأمريكية، وذكر أن كل قامت به الجامعة حينذاك تمثل في توفير مكان لتقديم محاضرات للجنود الأمريكيين في مصر حول مواضيع مختلفة تتعلق بالبيئة التي يعملون فيها.الجامعة والقضية الفلسطينية
انتهت الحرب العالمية الثانية عام 1945، وبدا بعدها بوضوح أن أمريكا تتحرك بشكل كبير لاكتساب مكانة سياسية في المنطقة العربية، لذا ربط الجمهور بين اسم الجامعة واسم الدولة التي تنتمي إليها. وعندما وضح انحياز الموقف الأمريكي لبريطانيا في ما خص خروجها من مصر، أثناء عرض القضية على الأمم المتحدة عام 1946، ثم انحيازها ضد الفلسطينيين، انطلقت تظاهرات في الشوارع تهتف ضد أمريكا، وعندما وصلت إلى أبواب الجامعة، هتف المتظاهرون: "فلتسقط أمريكا... فلتسقط الجامعة الأمريكية". في تلك المرحلة، وافقت الجامعة لأول مرة في تاريخها على مشاركة طلابها في التظاهرات، في محاولة لتغيير صورتها لدى الجمهور. وعام 1948، وجّه رئيس الجامعة جون بادو خطاباً إلى الرئيس الأمريكي هاري ترومان أعلن فيه رفضه للموقف الأمريكي بخصوص الاعتراف بدولة إسرائيل، وتُرجم هذا الخطاب إلى العربية، ونُشر في الصحف والمجلات المصرية والعربية.دعمت الحكومة المصرية إنشاء الجامعة الأمريكية في القاهرة بهدف نشر العلم والثقافة وتربية أجيال جديدة على التنوير، ولكن سلطات الاحتلال البريطاني عارضت المشروع خشية تزايد النفوذ الأمريكي في مصر على حسابها
عام 1948، وجّه رئيس الجامعة الأمريكية في القاهرة جون بادو خطاباً إلى الرئيس الأمريكي أعلن فيه رفضه لموقف واشنطن بخصوص الاعتراف بدولة إسرائيل، وتُرجم هذا الخطاب إلى العربية، ونُشر في الصحف والمجلات المصرية والعربيةوبحسب حسين، لا يمكن الوقوف على ما إذا كان هذا الموقف نابعاً من إيمان الجامعة بالحق العربي والفلسطيني، أو لحماية وضعها داخل المجتمع.
تغيّرات بعد ثورة يوليو
يشير أورغولا إلى أن العلاقات كانت طيّبة بين المشرفين على إدارة الجامعة وبين الضباط الأحرار الذين قاموا بثورة 23 يوليو 1952، إلى درجة أن الجامعة دعت كلاً من جمال عبد الناصر ومحمد نجيب ورفاقهما لحضور احتفال يوم اللغة العربية الذي أقامته في مايو 1954. لكن الملا يرى أن الحقبة الناصرية شهدت تحجيماً للجامعة الأمريكية في ظل تغيّر نظام التعليم إلى المجانية، وكذلك تنامي الروح القومية بين المصريين الذين أقبلوا على الجامعات المصرية مثل "القاهرة" و"عين شمس" و"الإسكندرية"، لذا لم يعد الالتحاق بـ"الأمريكية" محل فخر كما كان. تزامنت هذه المتغيّرات مع معاناة الجامعة من مشكلة مالية ومن عجز في استقطاب القوى البشرية، ما دفع رئيسها رايموند ماكلين إلى إحداث تغييرات جوهرية داخلية لإنقاذها عام 1955، تضمنت إعادة صياغة المناهج لتتوافق مع حاجات المجتمع، وتغيير سياسة التوظيف والترقي داخل المؤسسة. وفي هذا السياق، تولى مصريون مراكز قيادية عدة في الجامعة مثل حنا رزق الذي تولى منصب نائب رئيس الجامعة، وليلى شكري الحمامصي التي تولت منصب رئيسة مركز الدراسات الاجتماعية، كما ألغيت كل المقررات الدينية والارتباطات مع المؤسسات الكنسية، بحسب حسين. بيد أن الجامعة تعرّضت عام 1958 لأزمة عندما صدر القانون 160 الذي أوجب عليها أن تتحول إلى مؤسسة مملوكة للمصريين خلال خمس سنوات، ولكنها استطاعت من خلال اتصالاتها الدبلوماسية وغير الدبلوماسية أن تستمر أمريكية.حرب يونيو وفرض الحراسة
كانت الجامعة ترتّب لحفل تخريج طلاب في يونيو 1967، وكان وجود منى جمال عبد الناصر بين خريجيها في ذلك العام دافعاً إلى تصوّر إمكانية حضور والدها الحفل، وهو ما كان يعني للجامعة الكثير. لكن الأحداث جاءت بما لا تشتهيه الجامعة، فاندلعت حرب يونيو 1967، وأعلنت أمريكا مساندتها الكاملة لإسرائيل في الأمم المتحدة. وأمام هذا الموقف طلبت الحكومة المصرية من كافة الأجانب وبصورة خاصة الأمريكيين مغادرة البلاد، وفي الثامن من يونيو نُقل أعضاء هيئة التدريس الأمريكية في الجامعة إلى الإسكندرية بواسطة سيارات عسكرية، يروي حسين. وبحسب أورغولا، فرضت الحكومة المصرية الحراسة على الجامعة بعد الحرب كإجراء روتيني كان يجب أن يُتّخذ في تلك الفترة، نتيجة توتر العلاقات بين مصر وأمريكا، وأوكلت الحكومة مهمة الإشراف عليها للدكتور حسين سعيد الذي كان يتمتع بعلاقة طيبة مع أساتذة الجامعة والقائمين عليها من الأمريكيين. وفي منتصف 1970، حُلت المشكلة وتم تغيير مسمى الحارس القضائي على الجامعة إلى ممثل الحكومة في الجامعة، ورجعت إدارة الجامعة إلى المسؤولين الأمريكيين مرة أخرى، ذكر أورغولا.الاعتراف بشهادة الجامعة
حتى منتصف عام 1975، كانت الجامعة الأمريكية تواجه مشكلة عدم اعتراف الدولة المصرية بشهاداتها، إذ كان يستلزم معادلتها بشهادة من جامعة مصرية أخرى. ومنذ أوائل السبعينيات، قام أحمد عبد الغفار، نائب رئيس الجامعة، وكان عميداً سابقاً في جامعة عين شمس، بجهود للحصول على اعتراف الدولة بشهادتها، وهو ما تم عام 1975 في بروتوكول جرى توقيعه مع الحكومة المصرية، ذكر أورغولا.أحداث سياسية مختلفة
يذكر أورغولا أنه على مدار تاريخها، لم يبتعد طلاب الجامعة الأمريكية عن مختلف الأحداث، فشاركوا في التظاهرات ضد البريطانيين في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي بهدف تحقيق الاستقلال، وفي التظاهرات التي خرجت على خلفية بعض الأحداث المحلية والإقليمية منذ الستينيات، فضلاً عن ثورة 2011. كما شارك طلاب الجامعة في مبادرات تتعلق بالتنمية الوطنية، سواء على المستوى الاقتصادي أو الثقافي. ففي الثلاثينيات شاركوا في مشاريع تنمية القرى والصحة ودعم النظافة الشخصية لحماية الناس من الأمراض والأوبئة، وفي الستينيات ظهرت مبادرات لإحياء بعض جوانب التراث المصري مثل الرقص الشعبي. كما فتحت الجامعة أبوابها أمام مختلف الحركات الفكرية، مثل الحركة النسائية التي تزعمتها هدى شعراوي التي لم تكن طالبة في الجامعة ولكنها كانت تأتي لتتحدث وتعرض أفكارها في ندوات نُظمت في قاعة إيوارت. بحسب الدكتور أحمد الملا كانت الجامعة الأمريكية طوال تاريخها مرآة لسياسة واشنطن إلى حد كبير، مدللاً على ذلك بأن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو ألقى أثناء زيارته لمصر في يناير الماضي خطابه من قاعة إيوارت. لكن أورغولا يرى أن الجامعة طوال تاريخها ابتعدت عن السياسة الرسمية، فلم تتخذ أية مواقف تأثراً بمواقف أمريكا، بل بالعكس كثيراً ما قام رؤساء الجامعة بتوجيه انتقادات لرؤساء بلادهم مثلما حدث في الأربعينيات عندما انتقد كل من واتسون وبادو وكذلك أعضاء هيئة التدريس سياسة الولايات المتحدة بخصوص إسرائيل والفلسطينيين.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...