كل هذا جعلني متشوّقاً لمعرفة وجهة نظر "الإسرائيلي"، لذلك توقفت عند الفيلمين الإسرائيلييْن الوحيدين اللذين يتحدثان بشكل مباشر ومتعمق عنا كمصريين، وهما: "زيارة الفرقة" إنتاج عام 2007 و"الملاك"، إنتاج عام 2018.
هناك اختلاف كبير بين الفيلميْن. "الملاك" أكشن وتشويقي تجاري على عكس "زيارة الفرقة" الذي كان يحتوي على كثير من العناصر الفنية الجيدة. الأول لم يعكس نظرة الإسرائيلي للمصري بسبب اهتمامه بالتفاصيل التاريخية والسياسية، أما الثاني فيعكس بوضوح مشاعر الإسرائيلي "المرتبكة" تجاه المصري.
الانبطاح الإسرائيلي لكسب الود المصري يقابله رفض شعبي مصري لكل ما هو إسرائيلي، مما يجعل الإسرائيلي في حالة دفاع مستميتة لتحسين صورة إسرائيل بكونها أكثر ديمقراطية وإنسانية وتحضّرًا، ولكن مع ذلك أقل قبولًا أو بالاحرى مرفوضة شعبياً.
لكن نهاية كلا الفيلمين كانت واحدة، هي تجاور العلميْن المصري والإسرائيلي، ففي الأوّل كانت الأعلام على توابيت وفي الثاني كانت ترفرف، لتصبح وجهة النظر الوحيدة المثبتة هي رغبة إسرائيل الواضحة بالاعتراف والقبول العربيين على المستوى الشعبي بعد مكاسبها على المستوى السياسي.
الملاك : البحث عن السّينما وسط السّياسة
"الملاك: الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل" عنوان الكتاب الذي سارعت السلطات المصرية إلى سحبه من المكتبات المصرية. فالعنوان وحده أيقظ ردة الفعل المصرية، وفي خلال أيام اختفى الكتاب من السوق المصرية، ولكن مع اقتراب نزول الفيلم على "نيتفليكس" قررت بخطوة بسيطة، تستغرق ثلاث دقائق من التحميل، حيازة نسخة بي دي أف من الكتاب. كان أشرف مروان في الكتاب شخصية طموحة محبّة للإثارة والمال. أشار الكتاب إلى محاولات مروان المستميتة للتواصل مع الموساد وهو في لندن حتى نجح في ذلك، وكان يملي شروطه على مشغله ورفض تغيره وهدد بقطع علاقته بالموساد في أكثر من مناسبة كذلك. كان يتجوّل في لندن حاملًا مسدسه، رغم تحذيرات الإسرائيليين له، حتى أنه أهدى مشغله مسدسًا هدية! وهناك أيضًا إشارة إلى علاقة بينه وبين جيهان السادات!
كل هذه السمات ظهرت على العكس تمامًا في فيلم "الملاك"، حيث ظهر مروان مترددًا ووفيًا لزوجته "منى جمال عبد الناصر"، ورفض أي عروض جنسية من نساء أخريات لأنه رجل متزوج، يمارس الجاسوسية تحت ضغط من الموساد وتهديدات لأسرته، حتى أن مشغله يعنّفه في أحد المشاهد ويصوب المسدس لرأسه. في النهاية كانت دوافع مروان في الكتاب هي المال والإثارة، ودوافعه في الفيلم هي السلام على الطريقة الإسرائيلية اللزجة!
لكن بعيدًا عن التوجهات السياسية للفيلم، نحن في النهاية بصدد فيلم سينمائي يحتوي على عناصر فنية، ولكن محاولة تذوّق هذه العناصر باءت بالفشل، إذ بالرغم من المجهود الكبير المبذول في رصد مرحلة السبعينات من ديكور وملابس، فإن الموسيقى والأداء الركيك لمعظم الممثلين الرئيسيين حولت الفيلم من كونه فيلم جاسوسية الى فيلم استشراقي ساذج، فالموسيقى الشرقية التي تعبّر عن أزمة البطل ظهرت مثل ساوند تراك فيلم علاء الدين! أما نطق الممثلين للكلام العربي، فجعلني أغيّر الترجمة من العربية إلى الإنجليزية لفهم حوار بسيط بالعربية بين السادات ومروان!
فرقة شرطة الإسكندرية للموسيقى الكلاسيكيّة التائهة
"منذ زمن ليس ببعيد، زارت إسرائيل فرقةٌ موسيقية صغيرة لشرطة مصرية. لا يتذكر ذلك الكثيرون، فذلك لم يكن مهمًا"، هكذا بدأ فيلم "زيارة الفرقة" بتلك الجملة المكتوبة التي بإمكانها أن تستفز أي مشاهد عربي، ثم تتوالى الاستفزازات من خلال الدراما حتى تصل إلى أوجها عند مرور سيارة يقودها شاب مراهق إسرائيلي بجوار الفرقة التائهة على الطريق، ويقوم الشاب برفع إصبعه الأوسط لقائد الفرقة العقيد توفيق زكريا!
لكن الأمور تأخذ منحى آخر مع ظهور دينا، صاحبة المطعم، التي تلجأ إليها الفرقة لكي تدل أفرادها على مكان المركز الثقافي العربي، الذي من المفترض أن تعزف فيه الفرقة موسيقاها، ولكن دينا تصدمهم بأنهم في مكان مختلف ولم يستطيعوا التحرك حتى صباح اليوم التالي، إذ تعرض استضافتهم تلك الليلة التي يحدث فيها الكثير. تُعجب دينا بالعقيد توفيق وتحاول الخروج معه لنكتشف الجزء الإنساني للعقيد المختبئ وراء الوجه العسكري، وكذلك نرى تفاعل باقي أعضاء الفرقة مع إحدى الأسر الإسرائيلية، لينتهي المشهد بغناء جماعي! وممارسة دينا للجنس مع خالد بعد رفض العقيد توفيق لها، ليظهر اختلاف عقلية الشاب المصري المنفتحة عن العقلية المنغلقة للرجل العسكري العجوز!
يأتي فيلم "زيارة الفرقة" أكثر إنسانية وذكاءً من فيلم "الملاك"، لأن صنّاعه كانوا أكثر دراسة وتأثرًا بالفن المصري، وهو ما ظهر بوضوح في الحوار العربي، فقد برزت جمل عامية مصرية مثل: "الولية عاوزة تخرج... ما تخرج معاها" و "ناموسيتكم كحلي ولا إية".... والتعبير الأخير يستخدم كناية عن الليالي الصعبة. ثم جاء الاعتراف بشكل واضح على لسان دينا بحبّها لموسيقى فريد الأطرش وأم كلثوم، وكذلك كلمات الحب العربية، مثل حبيبي وروحي، التي تأتي على لسانَيْ عمر الشريف وفاتن حمامة، والتي عرفتها من خلال مشاهدتها الفيلم المصري الذي يُبث كل يوم جمعة عبر إحدى قنوات التلفزيون الإسرائيلي. ثم تأتي تلاوة خالد أبياتًا من شعر الأمير عبد القادر الجزائري: "أنا المحب والمحبوب والحب جملة"، ونهاية الفيلم مع أغنية "كل شيء حلو"، من ألحان الموسيقي الفلسطيني حبيب شحادة حنّا وغناء الفنانة الفلسطينية ريم تلحمي ليؤكد على معرفة صناع الفيلم القوية بالثقافة المصرية، بل العربية.
السينما باب للقبول الشعبيّ؟
لكن نهاية كلا الفيلمين كانت واحدة، هي تجاور العلميْن المصري والإسرائيلي، ففي الأوّل كانت الأعلام على توابيت وفي الثاني كانت ترفرف، لتصبح وجهة النظر الوحيدة المثبتة هي رغبة إسرائيل الواضحة بالاعتراف والقبول العربيين على المستوى الشعبي بعد مكاسبها على المستوى السياسي وأن نعتاد رفرفة الأعلام العربية بجوار الإسرائيلية، مما يجعلنا ننتظر المزيد من الأفلام الإسرائيلية عن المصريين والعرب! ولكن بالتأكيد مسألة القبول الشعبي العربي لدولة أسرائيل أكثر تعقيدًا من أن تحلها الأفلام!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...