يضع الكاتب الأمريكي ريتشارد فورد مفكراتِه في الثلاجة، خوفاً عليها من أي حريقٍ قد ينشب في بيته، يؤكد خلال حواره مع قناة DW الألمانية "أضحكُ حيال الفوضى العارمة في هذه الدفاتر، لكنني أعرِفُ نفسي، هذه الجملُ الملونة والكتاباتُ الصغيرة بخطّ يدي هي ما أريد تماماً".
على عتبةٍ مغايرة، يؤكد الأديب نجيب محفوظ أنه لايحتفظ بأية مسودات أو ملاحظات، فور إنهاء العمل يرميها كي لايفيضُ منزله بها ولأن خطّه رديء. يضيف خلال حوارٍ مع صحيفة theparisreview أن المسودة قد تكون باباً للاطلاع على أسلوب الكاتب لكنه لا يملك ثقافة الاحتفاظ بها كما يفعل آخرون.
المسودةُ أحدُ عناصر الكتابة التي قد تعكس أسلوب الكاتب وملامح مَشغلِه، كذلك المفكرة، مرحلةٌ مرّ بها أغلبُ الأدباء، لكن متغيراتِ العصر ومحصلاتِ التطور جعلت هيئتَها وطريقةَ التعامل معها تتبدل هي الأخرى..
"تحمل المسودة البصمةَ الوراثيةَ للكاتب، وتسمى في الغرب (DNA) الكاتب، أو حمضه النووي" يقول الكاتب محمد شُعير، مضيفاً لرصيف22 أن السؤالَ هنا "ماذا حلّ بالأحداث والشخصيات خلال الرحلة إلى النسخة النهائية! هذا ماتكشفه المخطوطات".
محمد شعير صحافيٌّ باحث في عوالم وإرث نجيب محفوظ الأدبي، يُعِدُّ حالياً مؤلفاً عنوانه المبدئي "مخطوطات نجيب محفوظ"، يتضمن تأريخاً لوثائقَ وملفاتٍ جمعَها من عائلة نجيب محفوظ وبعض الأصدقاء. العام الفائت صدر له "أولاد حارتنا.. سيرة الرواية المحرمة" كتابٌ يقدّم حكايةَ الرواية الشهيرة وظلالها التي أثقلت الكاتب المصري، لعلّ أهمها مشكلةُ الرقابة.
يؤكد شُعير أن نجيب محفوظ لم يحتفظ بمسوداته، مستدركاً أن "الصدفةَ أنقذت مؤلفاتٍ كـ(ميرامار)، (الشحاذ)، (قشتمر)، عندما انتشلت زوجة نجيب محفوظ مسوداتِها من سلة المهملات لترى النور فيما بعد".
يتابع أن علاقة نجيب محفوظ مع المسودة لم تتجاوز كونها معركةً مع اللغة "الفرق بين الكتابة الأولى والأخيرة لايكمن في البناء والأحداث، فهي مكتملة في ذهنه تماماً منذ البداية، التحديث يشمل اللغة، يُجري بعض الصنفرة، يخلّصها من حمولاتها الزائدة، يمارس رقابته الذاتيةَ عليها".
المزيد عن المسودة والمفكرة والعلاقة معهما، في شهاداتٍ من روائيين وشعراء عرب لرصيف22.
في الماضي كان لدى الصحافي السوري سبعةُ دفاتر بمربّعات صغيرة وأسطر ضيقة حسبَ قوله "كنت أنقل القصائد من دفتر إلى آخر، وكل مرّة كنت أجري بعض التعديلات، حتى تصل القصيدة في الدفتر السابع للشكل النهائي الذي أرضى عنه، كأن السابع هو الرقم المقدّس الذي يقنعني بأن لا إضافاتٍ كافية، وعندما أنتهي من مسودة أتخلّص منها فوراً بعد نقلها".
"لا أجد حاجةً للاحتفاظ بمسودة، ذلك أنها تمثل أغلفة قطع الحلوى التي التهمتها، أو كؤوس القهوة التي أفرغتها أو أعقاب السجائر. اليوم مع ما يتيحه الكومبيوتر من إمكانية التصحيح والفلترة والتنخيل، لا أجد حاجةً لاستعمال المسودات" يقول صاحب "لاشيء مسلّ في الحرب" مضيفاً "رغم أن الكومبيوتر مليءٌ بمشاريعَ مؤجلة وقصائدَ ناقصة ومقالاتٍ لا تحوي إلا العناوين، لم يعد هناك حاجةٌ لاستعمال الأوراق ولا حتى الأقلام، اللهم إلا لرسم شوارب على صور القادة والزعماء وأعضاء مجلس الشعب المنشورة على الجدران".
ليس لدى دريوس مفكّرة ورقية، يظن أن "الأمرَ أصبح من الأفكار المؤسِّسة لأساطير جنون الكتّاب وانقطاعهم عن الحياة المحيطة حين يقول أحدهم أن قصيدة نزلت عليه كالصاعقة فكتبها على ثيابه الداخلية بقطعة فحم، أو على ذراعه بمفكّ براغي" لافتاً أن الكتّاب لم يعودوا كما اعتدنا أن نرى "بملابس متسخةٍ وشعور طويلةٍ ونظرة هائمة، أصبحوا يرتدون ملابس لائقة، يستعملون مصطلحاتٍ نقدية ويستخدمون الألواحَ الألكترونية والكومبيوترات، إنه أمر مضحك حين نظنّ أن الكتابة فعلٌ سحري مبرراتُه غامضة وطرقه التي يأتي منها غير معروفة.
أكتب دوماً كوظيفة بقرارٍ يومي وإرادةٍ واعية خلف طاولة، عندما تخطر فكرةٌ ما على بالي ولا يكون الكومبيوتر بحوزتي، أكتبها على الموبايل أو أبعثها كرسالة نصيّة إلى صديقتي تتضمّن مفرداتٍ تذكّرني بفكرتي الطارئة ومكان ورودها، كي لا أنسى وغالباً ما لا أحتاج تذكيراً مماثلاً، لكن عليكِ أن تتخيّلي صديقتي تتلقّى رسالةً كالتالي: علاقة حجم الخصى بالشجاعة، شارع الجمهورية، قرب صيدلية الحرية، أو: من أوّل من استعمل العضّ كعقوبة سياسيّة، قرب تمثال الشيخضاهر، السادسة مساء ...وهكذا.
اسكندر حبش.. لا يريد الخلود
"خلال فتراتٍ خلَت كانت المسودة جزءاً من حالة الكتابة، تحدَّثنا كثيراً عن مخطوطاتٍ ومسوداتٍ لأدباءَ مرّوا في هذا الزمن، هذا لمّا كانت غالبية الأدباء يستعملون الورقة والقلم" يقول الشاعر والمترجم اللبناني اسكندر حبش، مضيفاً لرصيف22 أن كثيراً من المسودات لم تعد موجودةً اليوم، بسبب الميل إلى الكتابة على الحاسوب "الأدبُ خسرَ كثيراً من الأشياء فيما يتعلق بالمسودات، نحن ندفع ثمن العصر ومايترتب علينا من ذلك". الصحافي اللبناني توقف عن الكتابة بالورقة والقلم منذ فترة طويلة، لم يعد لديه مسودة بالمعنى الحقيقي حسب قوله معللاً بأن "المسودة على الكمبيوتر يعاد العمل عليها فتذهب الأغلاط الماضية لتحلَّ محلّها التصحيحاتُ والصياغات الجديدة". "ربما كان نجيب محفوط على حق، الحياة وجهة نظر وكل شخص لديه وجهة نظر فيما يكتب" يقول حبش مضيفاً أنه لا يترك أية أوراقٍ أو حتى قصاصات "لا همَّ لديَّ بترك أية أقصوصة ورق ورائي، لا أريد الخلود ولا أن أتركَ للورثة اكتشافَ أية أوراق. حتى على الحاسوب، كلَّ حين، أنظف وأرمي وأمحي العديد من الملفات"، أيضاً الكتب التي أنجزها وصدرت ورقياً لم يحتفظ بملفها الالكتروني. الشاعر الذي أنجز دواوين عديدة آخرها "ذكرياتٌ تتعقّب الهاربين"، يؤكد أنه يحمل مفكرةً صغيرة، يستعملها لكتابة بعض القصائد والجمل والملاحظات خلال السفر "المفكرة تساعدني في استعادة التفاصيل، لكن فور عودتي إلى المنزل –والجريدة سابقاً- أنقلُ مادونته إلى الكمبيوتر وأتخلصُ مما كتبته على الورق، أمزقه وربما أحرقه كي لا يبقى منه شيء". ينهي اسكندر حبش حديثه مؤكداً أنه يحتفظ بمخطوطاتٍ ورقية قديمة وأنّ عليه إعادةَ رؤيتها كي يستعملَ الصالح منها ويرمي ما هو غير لازم.المسودةُ أحد عناصر الكتابة التي قد تعكس أسلوبَ الكاتب وملامح مَشغلِه، كذلك المُفكرة، مرحلةٌ مرّ بها أغلبُ الأدباء، لكن متغيراتِ العصر ومحصلات التطور جعلت هيئتَها وطريقةَ التعامل معها تتبدل هي الأخرى.. مامصير مسودات الأدباء ومفكراتهم؟
علاقة نجيب محفوظ مع المسودة لم تتجاوز كونها معركةً مع اللغة، الفرق بين الكتابة الأولى والأخيرة لايكمن في البناء والأحداث، فهي مكتملة في ذهنه تماماً منذ البداية، التحديث يشمل اللغة
محمد دريوس.. والدفاترالسبعة
الشاعر السوري محمد دريوس لا يميل كثيراً إلى فكرة البحث في الظروف المحيطة بعملية الكتابة وطقوسها، وفيما إذا كان الكاتب يرتدي بيجاما قطنية أو توكسيدو، يشرب القهوة أو المريمية، حسب قوله، إلا أنه يظن أن مسودة الكاتب هي "الكاتبُ نفسه عارياً ومتحرّراً من حذلقة الأساليب، ومتخففاً من الموانع والمحرّمات الثقافية والسياسية، بمعنى أنها نسخةٌ أولى لتمثال قبيح، بخشونته وعجرفته وأخطائه البدائية، برائحة التصنيع الأولى والزوائد اللحمية المرافقة". يضيف لرصيف22 أن من الطبيعي أن تُظهر هذه التلقائية، طبيعةَ الكاتب وأفكاره الجاهزة حول النص الذي يكتبه والتأثيرات القادمة من مسارب مغايرة، قبل أن يتدخّل العقل الماهر والموهبة المدربة لتشذيبه، أو لتقسيمه إلى عناصر فرعيّة، وأحياناً، كما يقول نيتشه، لتعكير مياهه لتبدو أكثر عمقاً."لا أجد حاجةً للاحتفاظ بمسودة، ذلك أنها تمثل أغلفة قطع الحلوى التي التهمتها، أو كؤوس القهوة التي أفرغتها أو أعقاب السجائر. اليوم مع ما يتيحه الكومبيوتر من إمكانية التصحيح والفلترة والتنخيل، لا أجد حاجةً لاستعمال المسودات" يقول الشاعر محمد دريوس
في الماضي كان لدى الصحافي السوري سبعةُ دفاتر بمربّعات صغيرة وأسطر ضيقة حسبَ قوله "كنت أنقل القصائد من دفتر إلى آخر، وكل مرّة كنت أجري بعض التعديلات، حتى تصل القصيدة في الدفتر السابع للشكل النهائي الذي أرضى عنه، كأن السابع هو الرقم المقدّس الذي يقنعني بأن لا إضافاتٍ كافية، وعندما أنتهي من مسودة أتخلّص منها فوراً بعد نقلها".
"لا أجد حاجةً للاحتفاظ بمسودة، ذلك أنها تمثل أغلفة قطع الحلوى التي التهمتها، أو كؤوس القهوة التي أفرغتها أو أعقاب السجائر. اليوم مع ما يتيحه الكومبيوتر من إمكانية التصحيح والفلترة والتنخيل، لا أجد حاجةً لاستعمال المسودات" يقول صاحب "لاشيء مسلّ في الحرب" مضيفاً "رغم أن الكومبيوتر مليءٌ بمشاريعَ مؤجلة وقصائدَ ناقصة ومقالاتٍ لا تحوي إلا العناوين، لم يعد هناك حاجةٌ لاستعمال الأوراق ولا حتى الأقلام، اللهم إلا لرسم شوارب على صور القادة والزعماء وأعضاء مجلس الشعب المنشورة على الجدران".
ليس لدى دريوس مفكّرة ورقية، يظن أن "الأمرَ أصبح من الأفكار المؤسِّسة لأساطير جنون الكتّاب وانقطاعهم عن الحياة المحيطة حين يقول أحدهم أن قصيدة نزلت عليه كالصاعقة فكتبها على ثيابه الداخلية بقطعة فحم، أو على ذراعه بمفكّ براغي" لافتاً أن الكتّاب لم يعودوا كما اعتدنا أن نرى "بملابس متسخةٍ وشعور طويلةٍ ونظرة هائمة، أصبحوا يرتدون ملابس لائقة، يستعملون مصطلحاتٍ نقدية ويستخدمون الألواحَ الألكترونية والكومبيوترات، إنه أمر مضحك حين نظنّ أن الكتابة فعلٌ سحري مبرراتُه غامضة وطرقه التي يأتي منها غير معروفة.
أكتب دوماً كوظيفة بقرارٍ يومي وإرادةٍ واعية خلف طاولة، عندما تخطر فكرةٌ ما على بالي ولا يكون الكومبيوتر بحوزتي، أكتبها على الموبايل أو أبعثها كرسالة نصيّة إلى صديقتي تتضمّن مفرداتٍ تذكّرني بفكرتي الطارئة ومكان ورودها، كي لا أنسى وغالباً ما لا أحتاج تذكيراً مماثلاً، لكن عليكِ أن تتخيّلي صديقتي تتلقّى رسالةً كالتالي: علاقة حجم الخصى بالشجاعة، شارع الجمهورية، قرب صيدلية الحرية، أو: من أوّل من استعمل العضّ كعقوبة سياسيّة، قرب تمثال الشيخضاهر، السادسة مساء ...وهكذا.
عزة سلطان.. نكهة الكتابة الأولى
الكاتبة والسيناريست المصرية عزة سلطان تقف على ضفة سابقَيها، هي الأخرى ليس لديها مسودات، تضيف لرصيف22 "أكتب منذ سنٍّ صغيرة جداً، كنت أكتب على الورق، أكتب النصَّ مرةً واحدة، ربما لذلك صارت القصة القصيرة هي الأقرب لروحي، تقريباً في حياتي لم أُعدل سوى نصٍّ وحيد، قصة قصيرة كتبتها عام 1996 بعنوان العلاقة بين سكاشن الفهرسة وكوبري الجامعة، هنا تركت النص الأوليّ وأعدت كتابته". عدمُ وجود مسودات، أمرٌ تعتبره سلطان نقيصةً وأيضاً ميزة في العمل "نقيصة كون أي عمل وأية كتابة بحاجة دائمة لمراجعة، وحين نراجع تُصبح النسخة الأولى مسودة، أما في حالتي فأنا لا أُراجع، تأتي الأعمال بنكهة الكتابة الأولى". بعد إنجازها عدداً من الأعمال القصصية تحولت عزة سلطان إلى أشكال أخرى من الكتابة الإبداعية كالكتابة للأطفال وكتابة المقالات النقدية، والسيناريو، عندها باتت المراجعة أمراً ضرورياً كما تقول "لكن كذلك ليست لدي مسودات ورقية فمنذ النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي كنت قد تعاملت مع الكمبيوتر بشكل مباشر أثناء الكتابة، في المقالات أقوم بالتعديل والمحو على النص، فلا أتذكر النسخة الأولى من الكتابة، بينما في السيناريو كل نسخة أحتفظ بها مرقمةً، ولا أعرف كيف يدل ذلك على شخصيتي، لكنني كاتبةٌ بلا مسودات إن جاز الوصف". "تعودت أن أحمل مفكرةً طيلة الوقت، مؤخراً تخليت عنها واستبدلتها بالهاتف، أحياناً التقطُ صوراً، أكتب ملاحظاتٍ، وأحياناً أكتب القصة كاملة ثم أعود فأنقل النص إلى حاسبي الشخصي" تقول صاحبة "تدريبات على القسوة" مضيفةً أنها تستخدم المفكرة لكتابة ملاحظاتها عن الأفلام تحديداً، أو جمل ترد في ذهنها وتود العودة إليها "لكنني قلما أُراجع المفكرة، فهي في الغالب عامل أمانٍ لي منذ الطفولة، تقريباً لا أستخدمها في الاستراجاع إلا حين أعود للكتابة عن فيلم أو شيء مرتبط بالسينما".شاكر لعيبي.. عن المقام الملتبس للمسودة
"يمكن أن تكون المسودة باباً للاطلاع على أسلوب الأديب، فالأسلوب يظل دائماً هو نفسه، هنا وهناك" يقول الشاعر العراقي شاكر لعيبي لرصيف22، مستدركاً "إذا كانت الكواليس مَشْغلاً لما هو غير مُعْلَن، للسريّ والممارسة المنفلتة تقريباً من الرقابة الثقافية والاجتماعية، فإن في كواليس الكتابة مصدراً للغريب أحياناً". مما يتذكره لعيبي جيداً في المقام الملتبس للمسوّدة أن "خروجَ المثقفين من بيروت بعد حصارها دفع شاعراً كان يسكن في شقتي إلى ترك دفتر مسوداتٍ ضخم للتخفيف من حمل الخروج. ولقد اطلعتُ عليه من باب الفضول. ماذا وجدتُ فيه؟ أنه كان يجمع فيه كل جملةٍ نثريةٍ باهرة يقرؤها (من روايات عالمية مترجَمة غالباً) وقد فهمتُ - لأني أعرف شعره جيداً - أنه كان يعيد صياغة الجمل شعراً موزوناً حيث كان يكتب شعر التفعيلة، إضافة لعثوري على سلاسلَ طويلة من المفردات ذات الروي الواحد (القوافي) لكي يستخدمها في شعره نفسه". صاحب "استغاثات" كان حينها أمام صدمةٍ غير سارّة "بالضرورة"، معللاً " كنتُ أظن أن شعره ناجم عن عفويةٍ وتلقائيةٍ، لعل انطباع عفوية كتابة الشعر في أذهاننا ليس صحيحاً، ولعل الكثير من الشعراء يقومون بأمر مماثل بدرجاتٍ، بعضها مقبول تماماً وسليم". ما يزالُ لعيبي يحتفظ بدفتر مسودات وحيد محض مصادفة "البقية أتلفها، فالنص الأخير غير المتلف يخرج أحياناً مغايراً لمسودته، كأن المسودة توشك أن تكون دافعاً، إمساكاً، بتلابيب حالة أولية صافية لكن غير مُصفّاة. قليل من مسودات النصوص الشعرية تكون مصفّاةً حقاً". "كتبتُ الكثير من قصائد مجموعتي (الأدنى والأقصى) في بار اسمه (الباشا) في مدينة قابس جنوب تونس. كنت أكتبُ يومياً تقريباً على الغطاء الورقيّ الأبيض للطاولة التي أحتسي عليها شرابي، من قصيدة إلى ثلاث. كنت أقطع الغطاءَ وفق المكان الذي كنت أكتبُ عليه، حتى أن النادل كان يندهش من هيئة الغطاء الورقي بعدئذ" يقول لعيبي مضيفا أنه وبعد عودته إلى المنزل يعاود قراءة ما كتب والعمل عليه، أو تجاهل القليل منه، ثم إتلاف المسودات جميعها "هذا مصير ملائم للمسودة إلا إذا كانت هناك ملاحظة أو جملة أو صورة مثيرة أفلتت من التشكُّل اللحظويّ فتُركتْ عائمة على ورقة المسودة جوارَ نصٍّ ما. بعض هذه الجمل اليتيمة تبقى دائماً يتيمة: إنها نتاج لحظة خاصة لا يمكن خلق سياقٍ آخر لكتابتها في نصّ مكتمل". يعتبر شاكر لعيبي أن غالبية المثقفين يستخدمون أذهانهم وذاكرتهم بمثابة مفكّرة، خاصة فيما يتعلق بالنصوص القائمة على الخيال والاستعارة والحلم: الشعر. الشعر (حالة) بالمقارنة مع الرواية أو الفكر الخالص "أذكرُ أني في مدينة جنيف كنت أستخدم طيلة حياتي درّاجة هوائية للتنقل. ذات مرة أثناء قيادتي مسرعاً للدراجة، انفجرت في ذهني حالةً يمكن أن نسميها (عربيّ على درّاجة هوائية) ورنّت أْبياتها، فتوقفت عند أقرب مقهى وشرعت بكتابة النص، الطويل، دون مفكرةٍ ملموسة، الذي صار عنوانه (عربيّ على درّاجة هوائية). بالطبع وقع أيضاً تشذيبه فيما بعد".ليلى عبدلله.. المسودة شاهد وحافز
تؤكد الكاتبة العُمانية ليلى عبدالله الصلةَ بين الكاتب ومسودته، مضيفةً لرصيف22 أن المسودة "مرحلةٌ أوليّة في صناعة الكتاب، وهي من أشق المراحل، لأن الرؤية تكاد تكون مضببةً، والشخصيات أشبهُ ما تكون على هيئة صلصال يشكلها الكاتب رويداً وفق تفاعل الأحداث، لكنها في الوقت نفسه هي مرحلةٌ لا تخلو من المفاجآت السارة والمتعة في تكوين عالمٍ من خيال وكلمات". صاحبةُ "دفاتر فارهو"تحتفظ بمسوداتها، فيحدث أنها تكتب أكثرَ من مسودة "احتفظ بها كما هي بكامل عثراتها وشخبطاتها، كي تكون شاهداً على العمل الذي أنجزته، وحافزا لي لكتابة المزيد من المسودات وتحويلها لكتب". الكاتبة المقيمة في الإمارات تعتبرُ المفكرة فكرةً خلاقة بحد ذاتها، لا في تدوين الأفكار فحسب، بل "في تدوين تلك الأمور الصغيرة التي تقع للكاتب أثناء تلك المرحلة من حياته، لكل مرحلة تدويناتها ومجموع قراءاتها، لكن أيضاً الهاتف أصبح بديلاً جيداً للتدوين. ليس ثمة زمنٌ محدد لتدوين ما أنجزه، عادة أميل لمنح الأشياء الوقتَ الكافي كي تتشكل على الهيئة التي ترى نفسها فيها ناضجة، النضج الأقرب للاكتمال".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...