شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
لنرم بكل ما لا يقنعنا ونكتسب ما نريد أن نكون:  هذا ما يجعلنا بشراً

لنرم بكل ما لا يقنعنا ونكتسب ما نريد أن نكون: هذا ما يجعلنا بشراً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 23 ديسمبر 201808:05 م
"بنت الخيّاطة" إصدارٌ جديد للكاتبة والصحافية والناشطة السياسية جمانة حداد، هو روايتها الأولى بعد أعمال كثيرة في الشعر والنثر والمسرح وسواها من الأنواع الأدبية. يروي الكتاب سيراً متواصلة لجدة وابنة وحفيدة وبنت حفيدة على طول خط كرونولوجي لا ينفصل عن تاريخ المنطقة، بدءاً من المجزرة الأرمنية سنة ١٩١٥ وصولاً إلى الحرب السورية المستمرة منذ سنة ٢٠١١، وما وقع بينهما من احتلالٍ لفلسطين سنة ١٩٤٨، والحرب اللبنانية (١٩٧٥-١٩٩٠). سيرون، ميسان، شيرين وجميلة: أربع نساء من أربعة أجيال متتالية خرجن طفلات من أرحام أمّهات أورثنهنّ جينة الألم. ولدن ومتن جميعاً إلا واحدة (حسناً، ربما) في بلدانٍ "ملعونة" يشتغل ويشتعل فيها العنف، فيزرع في دواخل ناسها قنابل موقوتة قد تنفجر في أي لحظة لترديهم جثثاً، مقتولة أو منتحرة. استوحت جمانة حداد بعض بروفيلات وسلوكيات الشخصيات المتخيلة في روايتها من حيوات نساء في عائلتها، وخصوصاً جدّتها الأرمنية، ولكن من دون أن تنقلها نقلاً ببرودة المؤرخ وحياده الذي يبغي الموضوعية، علماً أن الكاتبة أصلاً لا تعترف بوجود الأخيرة.
لا للانتقام ولا للغفران: "في الاثنين عقاب إضافي ومستمر ومتوحّش لمن وقع ضحية الظلم. لعل النسيان هو الوحيد ينصف المضطهدين"
"في ما يتعلق بالانتحار، فأنا لا أعتبره على الإطلاق حلاً، لكني بكل بساطة أحترم مَن يعتبره كذلك أو مَن يتخذ هذا القرار لأني مقتنعة بأننا نمتلك ما يُسمّى بأقدارنا"، من لقاء مع جمانة حداد حول روايتها الأولى "بنت الخياطة"

حول عملها الجديد كان لنا معها هذا الحوار:

1- عن العنوان: لماذا "بنت الخياطة"؟ هل هي صيغة تحمل شتيمة مبطنة، لأننا نعيش داخل مجتمعات غالباً ما تضطهد أصحاب المهن المتواضعة وتعيّر أولادهم؟ أيضاً، هل فيها إشارة إلى صفة اللجوء التي تلتصق دوماً بالهاربين من الحروب فتزيد، فوق شقائهم، ألم الرفض والتهميش؟

سيرون، ميسان، شيرين وجميلة: أربع نساء من أربعة أجيال متتالية خرجن طفلات من أرحام أمّهات أورثنهنّ جينة الألم. ولدن ومتن جميعاً إلا واحدة (حسناً، ربما) في بلدانٍ "ملعونة" يشتغل ويشتعل فيها العنف

- اخترتُ هذا العنوان للنسخة العربية (العنوان مختلف في الأصل الإنكليزي) لأكثر من سبب: بداية لأن غالبية البطلات كنّ بنات خيّاطات ولأنهنّ أنفسهنّ خيّاطات. ثانياً لأنّ مراس الخياطة هو استعارة لكيفية عيشهنّ حيواتهنّ وتغلبهنّ، قطبةً قطبة ودرزةً درزة، على الكمّ الهائل من الأوجاع والخسائر والمصائب الخاصة والعامة التي ألمّت بهنّ. أنا لا أعتبر هذه المهنة، ولا أي مهنة أخرى، تنطوي على أي شتيمة أو إهانة. كل عمل وكل حرفة يمارَسان بعرق الجبين وبنزاهة وضمير، يشرّفان مَنْ يمارسهما. ناهيك بأني أعتز بأني أنا شخصياً ابنة والدين مكافحين ومن عائلة متواضعة جاهدت وضحّت الكثير من أجلنا.

2- تستلهمين تاريخ عائلتك في الكتاب. ألا تخشين فتح العيون على حياة تشبه حياتك أمام جمهور ربما لم يتصالح بعد مع فكرة التصالح نفسها، ويستهويه إطلاق الأحكام؟ ألا تخافين ان يزعل منك من قد يعتقدون أنك كشفت حميمياتهم التي لا تخصّك، حتى لو كنت جزءاً منها؟

- بدايةً، الكتاب رواية وليس سيرة، أي أنه قائم على التخييل، باستثناء الأحداث التاريخية التي تشكّل خلفيته، وشخصية جدّتي التي استلهمتها بطريقة فضفاضة. وهذا ما أوضحته في شكل غير قابل للبس في الاستطراد الوارد في نهاية العمل. وإذا كنتُ قد أوضحتُ ذلك، فليس لأني "أخشى" فتح العيون على حياتي وأريد أن أدافع عن نفسي من "تهمة" السيرة، أنا التي كتبتُ ونشرتُ سلسلة من الكتب التي أتحدّث فيها في شكل صريح ومباشر عن تجاربي، وقلتُ أموراً نادراً ما تقال في عالمنا، أكثر حميمية بأشواط مما يرد في الرواية. لكنني أوضحتُ أن هذا العمل تخييل لأني أريد له أن يقيَّم لما هو عليه، خصوصاً أنه تجربتي الأولى في الرواية، أي أنني أعتبره امتحاناً لي في هذا النوع الأدبي ويهمني أن يتمّ تلقيه بمعزل عن أي تأثيرات "عاطفية" محتملة بمضمونه. لا شك عندي وعند كثيرين أني كاتبة شفافة وجريئة، ولكني هل أنا "روائية"؟ هذا هو السؤال بالنسبة لي.

3 - استخدمت في النص كلمات أرمنية لطيفة من داخل البيوت، ولقد تُرجمت في الهوامش، مثل: تاتيكي (الجدة)، ييلاك (فراولة)، مايريغ (أمي)، سيريليس (حبيبتي) وهايريك (أبي). كما استخدمت التركية احياناً، فضلاً عن اللهجات العربية المختلفة للشخصيات بحسب نشأتها. كيف خدمت هذه العناصر الدراما ككل؟

- هي، على غرار تقنيات أخرى في فنّ السرد، تفاصيل تساعد في "استحضار" القارئة/القارئ الى عالم الرواية وتسهّل عملية غوصهما فيها، وقد تعلّمتُها بكل بساطة من تجربتي كقارئة: اذ لطالما انحزتُ الى الكتب التي "تسحبني" تماماً وكلياً إلى دواخلها، كمثل عين الإعصار، حدّ شعوري أني إحدى شخصياتها أو أني شاهدة بأمّ العين على ما يحدث فيها. تالياً عندما أكتب أحاول أن أستخدم كل ما يجعل المتلقّي ينسى محيطه المباشر أثناء القراءة كي "يصدّق" أنه يعيش داخل النص ويتلبّسه.

4 - لماذا كتبت النص الأساسي بالإنكليزية؟ (نقلته إلى العربية نور الأسعد)

- لأن فكرته جاءت حاملة معها لغته. هذا يحدث في كل أعمالي تقريباً. لا أختار لغتها أنا، بل إنها تتبلور في مخيلتي بلغة محددة فاستخدم تلك اللغة أثناء الكتابة. إنه نوع من الاستسلام الجميل لغموض عملية الخلق، بل أكاد أقول لـ"قدسيتها"، وأيضاً للعالم الغرائبي الكثير الدهاليز الذي أوجدته فيّ اللغات المتنوّعة التي أتقنها مع الوقت. أعشق استكشاف نفسي في لغات وأنواع مختلفة. ولكن، على غرار جميع الأعمال التي كتبتُها بلغة ثانية، أصرّ دائماً على أن يتزامن صدورها بالعربية مع اللغة الأصلية. وهذا ما حصل فعلاً مع "بنت الخياطة".

5- يلاحظ القارئ/ القارئة تداخل نوعي كتابة: القصة والمذكرات، يُميز بينهما شكلانياً اختلاف في الخط. ما التأثير المرجوّ؟

- هي بكل بساطة طريقة لإيصال الانتقال من جوّ الخارج (صوت الراوي/الراوية) الى جوّ الداخل (صوت الشخصية). أحسستُ بينما كنتُ أعمل على الرواية أن السرد وحده لن يكفي، وأن النساء الأربع بحاجة الى قول أمور وأفكار والتعبير عن مشاعر معيّنة بأصواتهنّ ولغتهنّ، فأتحتُ لهنّ ذلك، باستخدامي هذا التغيير في الأسلوب والخطاب بين العام والحميم. لا بل أستطيع أن أجزم بضمير مرتاح أن الشخصيات "أجبرنني" على ذلك.

6- إلى أي مدى، مهما بلغ نضجنا، نستطيع التحرر من علاقة آبائنا بأمهاتنا (والعكس)، حتى لا نكرر الأخطاء أو المأساة نفسها مع شريكاتنا وشركائنا؟ كيف نحصن أولادنا، خلال تربيتنا لهم، من أخطاء تربية أهالينا لنا؟ مَن القادر فينا على خرق هذه الحلقة المفرغة؟

book cover

- لستُ من المؤمنين بقدرية السلوك والطباع، ولا من المحبّذين للأحكام الفرويدية القاطعة على البشر. مما لا شك فيه أن طفولتنا تطبعنا الى حدّ هائل، لكنها ليست بالضرورة "مصيراً"، إلا إذا كنّا مجرّدين تماماً من أي قدرة على المقاومة والمواجهة. لا أستسيغ هذا الاستسلام أو الانهزامية، أو هذا التبرير الهيّن لما نرتكبه من أغلاط. يجب علينا أن نمتلك أخطاءنا، وهي حقّنا أصلاً، بدلاً من أن نعزوها في شكل تلقائي الى عامل آخر أو أن نضع اللوم على أهلنا (علماً أنهم يستحقون اللوم جزئياً، على غرار جميع الأهل، اذ ليس هناك من تربية مُثلى ومجرّدة من أي تأثيرات عن قصد أو غير قصد). ولكن نعم، نستطيع أن ننزع "جلدنا" عنّا، وأن نسيطر على غرائزنا وانفعالاتنا العفوية، شرط أن يتوافر فينا مراس الوعي. وهو ليس بالمراس السهل طبعاً، ولا في متناول الجميع للأسف، لأنه يتطلب جهوزية فكرية شبه دائمة وقدرة على الخروج من ذواتنا التلقائية ومراقبة ما يحدث عن بعد، لكنه ليس مستحيلاً.

7- خارج هدف خدمة الحبكة، ما أهمية ذكر حالات التحرش الجنسي بالأطفال وكيفية التعاطي مع المصابين بأمراض عقلية وسواها من القضايا الاجتماعية التي تمرّ في الرواية، وليست أقلّها قضية النسوية كونكِ أعطيت الأدوار الرئيسية لنساء، بعضهنّ عُنِّفن جسدياً أو معنويا ًعلى أيدي رجال؟

- النساء هنّ بطلات هذه الرواية لأكثر من سبب، لكن أهمّها أننا اعتدنا عيش الحروب من وجهة نظر الرجال الذين يخوضونها. أما النساء فهنّ خاسراتها فحسب، خاسراتها دائماً، مهما كان الطرف المنتصر. لأجل ذلك قررتُ أن تكون الراويات نساء. أما القضايا المختلفة التي ترد فيها، فهي جزء من نسيج الحياة ومن هذا العالم المريض الذي نعيش فيه، تالياً كان من الطبيعي أن تكون جزءا لا يتجزأ من القصة. 

8- يبدأ كل فصل برسمٍ لملكةٍ من ورق اللعب: الديناري، الكوبة، البستوني والسباتي. هل نحن باعتقادك مجرد أوراق لعب مرمية في خضم أقدارها، بعبث مطلق، ومجبرون بالتالي على تحمل تداعيات هذه الأقدار في الدين والجنس والجنسية واللغة والطبقة الاجتماعية الخ؟ انطلاقاً من ذلك، هل يبدو الانتحار الطريقة الوحيدة لإنهاء كل هذه الجبرية؟

- كما ذكرتُ سابقاً، لا أؤمن بالقدرية ولا الجبرية. لا بل أعتبر هذه المزاعم مؤامرات على قدراتنا وطاقاتنا وعقولنا، وهي تدفعنا الى أن نمتثل ونذعن بدل أن نحيا ونمارس حقّنا في اتخاذ القرارات وتحمّل مسؤولياتنا. لا شك في أننا عند البدء، أي في لحظة الولادة، نرث ذواتنا البدائية من دون أن تكون لدينا هبة الاختيار. أي أننا لا نستطيع سوى أخذ ما نُعطى، وقبول ما يوزَّع علينا من أوراق لعب. ولكن في مراحل لاحقة، بعد حدوث النضج والوعي بفعل التجارب والتحليل والمقارنة والتعلّم من الخطأ، علينا أن نصنع ذواتنا الحقيقية. أن نرمي بكل ما لا يقنعنا ونكتسب ما نريد أن نكون. هذا ما يجعلنا بشراً. أما في ما يتعلق بالانتحار، فأنا لا أعتبره على الإطلاق حلاً، لكني بكل بساطة أحترم مَن يعتبره كذلك أو مَن يتخذ هذا القرار لأني مقتنعة بأننا نمتلك ما يُسمّى بأقدارنا. ختاماً، علينا أيضاً ألا ننسى أن الكتاب رواية، وأن الشخصيات لسن أنا، وأفكارهنّ ومواقفهنّ ليست بالضرورة أفكاري ومواقفي. لنحترم استقلاليتهنّ عمّن خلقهنّ.

9- تخيلي أنه سيتم تحويل الرواية إلى فيلم، مَن مِن الممثلات تختارين لكل من الأدوار الأربعة؟

- (تبتسم) لا أحتاج الى التخيّل. أثق أنها ستصير فيلماً. بالنسبة الى الأدوار، عندما يحين الوقت سنرى. ليس لدينا نقصٌ في الممثلات القديرات في أي حال، لكنّ الفيلم قد لا يتحقق بإنتاج محلي.

10- دعيني أختم بسؤال اخذته من نهاية الرواية: الانتقام أم الغفران؟ أي من الخاتمتين أقرب إلى العدالة؟

- لا هذا ولا ذاك. في الاثنين عقاب إضافي ومستمر ومتوحّش لمن وقع ضحية الظلم. لعل النسيان هو الوحيد ينصف المضطهدين. لكنه، للأسف، مستحيل. تماماً مثل العدالة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image