تُجمع معظم تحليلات الخبراء حول بواعث بروز تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) في سوريا والعراق، على دور ما لعبه أعضاء سابقون في حزب البعث العراقي وضباط سابقون في جيش صدام حسين في تشكيل نواة هذا التنظيم.
كذلك تم إسناد داعش ميدانياً من طرف عناصر بعثية كانت لا تزال تدين بالولاء لنائب الرئيس العراقي الأسبق عزة الدوري وتحالفت مع داعش مصلحياً.
وقبل أيام، كشف تحقيق نشرته صحيفة "دير شبيغل" الألمانية عن الدور الذي لعبه الضابط السابق في جيش صدام حسين سمير الخليفاوي، المعروف في أوساط التنظيم باسم "حجي بكر"، في إعداد الخطط الإستراتيجية للتنظيم بهدف بسط سيطرته على مساحات واسعة من سوريا والعراق. لكن، برغم ذلك، من الصعب تحديد مدى أهمية الدور الذي لعبه البعثيون في انتصارات داعش بدقة.
أي دور لصوفيي البعث؟
كان واضحاً أن تقدم تنظيم الدولة الإسلامية في مساحات واسعة من العراق، في بداية الصيف الماضي، لم يكن ممكناً لولا دعم بعض الفصائل الأخرى التي رأت جدوى من التحالف مرحلياً مع التنظيم ضد الحكومة المركزية المتهمة بممارسة سياسات طائفية.
وكان عزة الدوري، الذي قيل إنه قتل قبل بضعة أيام، أبرز حلفاء داعش عبر ما يسمى بـ"جيش الطريقة النقشبندية" وهو مجموعة مسلحة أسسها سنة 2006 بعد إعدام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين كفصيل مقاومة صوفي سني ضد الاحتلال الأمريكي والحكومة الطائفية، وهو فصيل يشهد انتشاراً مهماً في الموصل وكركوك.
ورأى بعض المراقبين أن الدوري مثّل الحليف الرئيسي لداعش في العراق وأن وفاته ربما تفقد التنظيم عنصراً مهماً على المستويين الإستراتيجي والعسكري، لكن هذا التحليل ليس دقيقاً. فعلى الأقل، من المؤكد أن التحالف بين داعش وجيش الطريقة النقشبندية لم يظل متيناً إلى حين وفاته، خصوصاً أن الدوري وجه هجوماً لاذعاً للتنظيم، في رسالة صوتية نسبت إليه قبل أسابيع قليلة من مقتله، ووصف أفعاله بـ"الإرهاب" الذي يذبح ويقتل بتخطيط أمريكي وأشار إلى أن "ألد أعداء الأمة هم أصحاب الفكر التكفيري لأنهم لا يعترفون بالأمة العربية".
والواقع أن الخلاف ليس وليد الأشهر الأخيرة. فالتحالف بين الطرفين لم يكن عقائدياً ليصمد، وسرعان ما بدأت التناقضات بالظهور. وقد كشفت محطات عدة عن اختلافات بارزة بين الطرفين، إذ رفض "جيش الطريقة النقشبندية" إقدام داعش على فرض الجزية على مسيحيي الموصل وتهجيرهم القسري مباشرة بعد سيطرته مع الفصائل المتحالفة معه على المدينة، كما سارعت بقايا حزب "البعث" بدورها إلى التبرؤ من داعش ووصفته بـ"القوة التكفيرية الإرهابية المدسوسة".
ولاحقاً، في منتصف شهر يوليو من السنة الماضية، تناقلت المواقع الإخبارية خبر مقتل حوالى 12 عنصراً من جيش الطريقة النقشبندية، في بلدة السعدية، رمياً بالرصاص على يد عناصر من داعش، وذلك بعد أيام قليلة من دخول هذه القوات المتحالفة إلى البلدة. ويقدر الباحث العراقي في شؤون الجماعات الإسلامية المتشددة هشام الهاشمي أن عدد قتلى جيش الطريقة النقشبندية على يد داعش تجاوز الـ604 حتى بداية شهر مارس الماضي.
وكانت تقارير قد أكدت أن جيش الطريقة النقشبندية هو من قاد المعارك في مناطق عدة ضد القوات الحكومية العراقية وسيطر عليها بقيادة عناصر سابقة في الجيش العراقي تعرف المنطقة والميدان بشكل جيد. فمدينة الموصل، على سبيل المثال، كانت خزاناً لمد الجيش العراقي بكبار الضباط ومنبتاً لعناصر بارزة في حزب البعث العراقي سابقاً.
وربما يكون ذلك التحالف "الهجين" و"غير الطبيعي" قد قضى فعلاً على نفوذ جيش الطريقة النقشبندية في عدد من المناطق العراقية ككركوك وصلاح الدين. إذ رأى مراقبون أن داعش استعمل البعثيين واستغل خبرتهم الأمنية ثم انقلب عليهم بعد ذلك بل استقطب عدداً من عناصرهم.
ضباط بعثيون مؤسسون
فضلاً عن العناصر البعثية التي ظلت ملتفة حول عزة الدوري ونسقت مع داعش خلال المعارك، ساهمت مجموعة من الضباط البعثيين السابقين مباشرةً في ولادة التنظيم المتطرّف بعد خروجهم من سجون الاحتلال الأمريكي وكانوا قد دعموا تنظيم "القاعدة في العراق" بقيادة أبو مصعب الزرقاوي.
ومع أبي بكر البغدادي، أصبح دور هؤلاء أكثر محورية، إذ استطاع داعش بفضلهم أن يزاوج بين ميزات جيش نظامي تقليدي وخصائص ميليشيا تنتهج حرب العصابات. وروى "أبو حمزة"، وهو سوري الجنسية وأحد الأعضاء السابقين في داعش، لـ"واشنطن بوست"، كيف أن ضباطاً سابقين في جيش صدام حسين يقودون أبرز الأجهزة الأمنية والاستخباراتية للتنظيم، وكيف أن أمراء التنظيم في المناطق السورية كان يتم تعيين نواب عراقيين لهم (على الأرجح هم ضباط بعثيون سابقون)، وكان هؤلاء هم من يتولى اتخاذ القرارات المهمة.
ويبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية قد فشلت في تقدير الدور الذي يمكن أن يلعبه الضباط البعثيون السابقون في الجماعات المتطرفة بعد قرار بول بريمر، الذي أشرف على العراق بعد سقوط صدام حسين لمدة 14 شهراً، إبعاد أربعمئة ألف من الجيش العراقي عن وظائفهم، ومنعهم من تلقي معاشاتهم التقاعدية.
ويتحدث جويل ريبيرن الذي عمل مستشاراً لقيادة الجيش الأمريكي في العراق في كتابه "العراق بعد أمريكا" عن سوء تقدير أمريكي لأهمية هؤلاء الضباط الحانقين. فقد علمت أمريكا دائماً أن الضباط البعثيين قد انضموا إلى المجموعات المنتفضة في العراق، وأنهم مثلوا سنداً تكتيكياً للقاعدة في العراق، لكنهم لم يتوقعوا أن ينضم هؤلاء إلى القاعدة، ولا أن يصبحوا قادة داخلها.
السجون خرّجت إرهابيين
وإلى جانب عناصر بعثية بدأت بالتحول إلى العقيدة السلفية المتطرفة في السنوات الأخيرة من حكم صدام حسين، مستفيدةً من تحوّل بدأ يطرأ على سياسة نظام الحكم وجعله يتوجّه أكثر فأكثر إلى استخدام الدين وتفسيراته المتشددة، تشبّع آخرون بالفكر الجهادي في السجون باختلاطهم مع معتقلين متطرفين. وعندما تولّى أبو بكر البغدادي قيادة المنظمة أصبحت سياسة استقطاب البعثيين السابقين ممن فقدوا وظائفهم إستراتيجية قائمة بنفسها.
وكشفت مجلة "دير شبيغل" أن الضابط السابق في الجيش العراقي سمير عبد محمد الخليفاوي (قتل سنة 2014 في سوريا في معارك مع فصائل سورية معارضة) يعتبر المخطط الأول لمعارك السيطرة التي خاضتها داعش في الأراضي السورية. ونشرت المجلة صوراً لخطط وقوائم وجداول مكتوبة بخط اليد تتضمن أفكاراً تدفع إلى السيطرة على شمال سوريا باستخدام تقنيات من بينها المراقبة والتجسس والقتل والخطف.
وإلى جانب عدد من الضباط السابقين في الجيش العراقي المنحل الذين التحقوا بعد اقتناع فكري بدولة الخلافة، يُعتقد أن عناصر من الجيش العراقي قد عملت فعلاً إلى جانب تنظيم الدولة الإسلامية كخبراء في المجالات العسكرية والتنظيمية، بنوايا "انتهازية" مقابل الحصول على المال.
ونقلت شهادة ضابط عراقي سابق اسمه "حسان الدليمي" قصة صديق له كان يعمل ضابطاً استخباراتياً في جيش صدام حسين واضطر للانضمام إلى داعش بسبب ظروفه المادية السيئة، بعد إقالته سنة 2003، ولفتت الشهادة إلى أن المسؤولين العسكريين والاستخباراتيين الذين يقودون معارك التنظيم هم ضباط سابقون في الجيش العراقي المنحل.
ويقدر الباحث العراقي هشام الهاشمي عدد البعثيين السابقين في صفوف داعش بحوالى 12 ألفاً، من بينهم 15 قيادياً من الصف الأول، مثل أبو أيمن العراقي، وأبو مسلم التركماني، وأبو علي الأنباري، المسؤول الأمني الأول في التنظيم. ويعتقد الباحث الإسلامي الشيخ حسن الدغيم أن القسم الأكبر من الضباط البعثيين العراقيين اعتنقوا الأفكار التكفيرية دون اقتناع كبير بها، وأنهم وجدوا في تنظيم القاعدة ومن بعده داعش غطاءً للوصول إلى أهدافهم ومشروعهم، وأن مصلحة التنظيم التقت معهم لرغبته في الاستفادة من خبراتهم العسكرية والاستخباراتية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...