كثيراً ما يقع الإنسان تحت ظروف تجعله ضمن ملايين الأفراد حول العالم ممن يتحتم عليهم العيش بمفردهم. سواء كان ذلك ناتجاً عن إرادتهم الحرة كمغادرة بيت الأهل وخلق موطئ قدم في مكان آخر كما يفعل أبناء الريف حين انتقالهم إلى المدينة لضرورات العمل والتعليم؛ لكن في قطاع غزة، وإن اقتدرت على دفع المغامرة بالثمن المطلوب لاتخاذ مثل هذا القرار، رغم صعوبة فعل ذلك على أبناء غالبية أبناء التسعينيات وكثير ممن سبقهم، لن تحظى بحق الحصول على الإقامة منفرداً أو مع مجموعة، في حال كنتم عزاباً.
لطالما واجه هؤلاء الشباب تحديات عدّة امتدت في حياتهم على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي في ظل الانقسام الفلسطيني الداخلي والحصار الإسرائيلي على القطاع. كلٌ في طريقه نحو تحقيق الاستقلال الشخصي والأمان المادي والمعنوي، ضمن دوائر وتشكيلات اجتماعية واقتصادية محليّة، قائمة بحد ذاتها على بقاء الوضع على ما هو عليه؛ الثابت الوحيد هو البقاء في حالة الطوارئ المستمرة تلك.
على أية حال، لا بد من أن تتقاطع ظروف الشباب الغزي تلك، مع ظروف أقرانهم في عدد من المدن العربية التي تعاني، مثلها مثل غزة، في كثير من المجالات والبيئات الحاضنة لتلك الفئة. إلا أن لهذه الإشكالية في غزة خصوصية لا يدركها إلا من عايشها منهم واستمر لكل تلك السنوات، ولشحّ الخيارات، في التعامل معها بكل تعقيداتها التي تلقي بظلالها على مختلف نواحي الحياة.
تأتي تطلعات في غالبيتها، في زمن العوز والحاجة، وانعدام فرص إثبات الذات والجدارة لدى الشباب في مجتمع غزة، معاكسة لتعاليم وسياسات إدارة حماس للقطاع منذ ما يزيد عن 12 سنة. يصعب في هذه الحالة تحدي التيار الجارف لتلك التعاليم التي يجري تعميمها من خلال المسجد والمدرسة والجامعة وكبار العائلات والقيادات.
تتقارب إلى حد كبير سياسة حماس بإحكام القبضة على المجال العام من العادات والتقاليد العشائرية السائدة في القطاع، ما يعني وقوع أولئك الشباب بين مطرقة الحزب الحاكم وسندان الأهالي والمجتمع المحلي المنغلق. البعض منهم يشعر بقوة الوعي بحقوقهم السياسية والاقتصادية، وأنها لا تتأتى إلا عبر ممارسات الحرية اليومية، والتي بلا شك، ستثير التساؤلات غير المرغوبة للنظام الاجتماعي والسياسي القائم، بعد سنوات على اندلاع الثورات وتحرّك البقعة الراكدة في أوساط الشباب العرب، التي غالباً ما تعمل بمنطق رد الفعل، لطبيعة ماهيتها الفردية، والتي كان لقطاع غزة نصيبه من التأثر بها.
من هذا المنطلق، نناقش قصص شاب وشابة من محافظة رفح، جنوب القطاع، ومحاولاتهم في إيجاد مساكنهم الخاصة في مدينة غزة، وإيجاد موطئ قدم لهم ولمجتمعهم الشاب بعيدًا عن مراقبة الأهل وأعين العائلة التقليدية ونظمها المثالية المتبعة حال إقامة وعيش أولئك في منزل العائلة، الذي يصعب الخروج عنه لدى غالبية الشباب لانعدام أمنهم الاقتصادي والرقابة الدقيقة على معاملات العقارات في غزة.
"لا توجد حياة ليلية في غزة، لا سينما ولا ملاهٍ ولا حفلات موسيقية، وتتسع رقعة "اللاءات" في حياتنا كأجيال نشأت تحت مظلة الحصار والحروب والفقر، وفي مرات كثيرة، يكون الخروج من المنزل للترفيه عن النفس حول طاولة صغيرة وفنجان قهوة وسيجارة، بحد ذاته، عبئاً على كاهل الشاب الذي لا يملك مصدر دخل، ولو بالحد الأدنى، وما أكثرنا". هكذا بدأ بهاء رؤوف بسرد تجربته، لـ رصيف 22، في العيش مستقلاً عن "بيت المخيم"، والانتقال للسُكنى في غرفة ما بزقاقٍ قريب من مركز المدينة.
يسعى بهاء (23 عاماً) للتخلص من أعباء نفسية واجتماعية يعاني منها نتيجة لحالة "التشظي والتفكك" التي يرزح تحتها كثير من العائلات في المجتمع الغزي. فبينما يغيب الأب للعمل في المملكة العربية السعودية منذ ما يزيد عن 14 عاماً، فإن بهاء يواجه قيود المجتمع المفروضة بمفرده، رغم وجود إخوة له في نفس المدينة لكن لاختلاف الفكر ونمط العيش لا يتلاقى كثيراً وإياهم، إضافة لكون الدعم المادي من الأهل مشروطاً بالبقاء ضمن عباءة دينية وفكرية محددة.
يقول بهاء: "بالتأكيد واجهتني مشاكل عديدة لكنها لم تتغلب على إرادتي في العيش مستقلاً عن منزل العائلة، يشبه ذلك السعي نحو الحرية الجسدية والروحية، لا أعلم تماماً كيف يتبلور لدي هذا الشعور رغم كل القيود المفروضة، لكني أفكر بأنني إذا بقيت تابعاً مادياً ومكانياً فسأكون كذلك معنوياً، وأنا أريد أن أكون حراً، من يملك المال يملك القوة وحرية القرار".
أكثر من 50% من سكان غزة ينامون ثلاثة على الأقل في الغرفة الواحدة. بسبب مشكلة الإسكان الكبيرة في القطاع، إذ وصل احتياج المليوني نسمة الذين يقطنون غزة، إلى نحو 150 ألف وحدة سكنية في آخر إحصاء صادر عن وزارة الإسكان. لا يزال يشعر السكان بأن المدينة تصغُر على الدوام. حدودها العمرانية تتسع لبضعة كيلومترات على الأطراف في امتداد سكاني كغابة اسمنت، تشكلت نتيجة مشاريع إعادة الإعمار والتهريب عبر الأنفاق على الحدود المصرية. تضيق المدينة بأهلها إلى الحد الذي جعلها من أعلى نسب الاكتظاظ السكاني عالمياً، في حين تتزايد نسبة العجز الإضافية في عدد المساكن المطلوبة، إلى نحو 6% سنوياً.
بجانب دراسته في جامعة الأزهر بغزة في كلية الصيدلة، يعمل بهاء بشكل جزئي تحت بند التطوّع في مجال الدعم النفسي للأطفال ضمن مشاريع مؤسسات المجتمع المدني في غزة. يذهب غالبية ما يحصل عليه من مكافآت العمل في تسديد إيجار الغرفة التي عثر عليها للسكن رفقة مجموعة طلبة آخرين وما يتبقى هو مصروف للطعام والسجائر.
عدا القيود الاجتماعية المفروضة على فكرة السكن للشاب الأعزب أو الفتاة العزباء، يصعب الحصول على غرفة أو شقة للإيجار. يقول بهاء: "معظم أصحاب البيوت والشقق يمتنعون عن تأجير الشاب الأعزب، كنت أخبرهم أنني مغترب في هذه المدينة، وأريد السكن أنا وأصدقاء يعيشون نفس الظروف أو أخرى مشابهة". يقع منزل الأهل في مخيم النصيرات وسط القطاع، وهذا ما يُشجع بهاء على انتقاله للعيش في محافظة غزة التي تعيش دور العاصمة الحيوية للقطاع.
يفسر المشكلة التي واجهت بهاء، أبو سعيد مصلح لـرصيف 22، وهو أحد سماسرة العقارات العاملين في مدينة غزة. "عند التقدّم لاستئجار شقة سكنية، في الغالب إن أول ما سيطلبه صاحب الشقة عند كتابة عقد الإيجار هو عقد زواج المستأجر، سواء كان المستأجر رجلاً أم امرأة، وذلك ليس بإرادتهم، بل هذا ما يجري العمل في العُرف المحلي والدوائر الرسمية".
نظرة إلى "قانون المالكين والمستأجرين الجديد لسنة 2017" في قانون العقوبات الفلسطيني، كفيلة بتوضيح انعدام العلاقة بين الحالة الاجتماعية للمستأجر وبين أحقيته باستئجار أي عقارٍ كان.
"أهلي كانوا رافضين المبدأ من الأساس، فرضت ما أريد عليهم بالحوار تارة وبالتجاهل تارة، إلى أن وصلوا إلى حالة اليأس من إمكانية فرض سيطرتهم على قراري والتحكم بي"، ويضيف: "المزعج هو الطعام، ليس بسبب خبرتي القليلة في الطبخ فحسب، بل الجلوس إلى المائدة والأكل وحيداً، فقدر ما تكون التجربة مفيدة وجميلة وبمحض إرادتي، إلا أنني أشعر بالحنين لحياة الطفولة والمراهقة مع العائلة، من حين لآخر".
كثيرة هي التعقيدات التي تواجه الشاب الغزي في مكان بهاء، لكن ما هو مؤكد أنها تسري بنسخة أشد تعقيداً على الفتيات، فسلطة العائلة والمجتمع على المرأة في غزة أكثر إحكاماً وسيطرة مما هي على الشاب.
تتقارب إلى حد كبير سياسة حماس بإحكام القبضة على المجال العام من العادات والتقاليد العشائرية السائدة في القطاع، ما يعني وقوع أولئك الشباب بين مطرقة الحزب الحاكم وسندان الأهالي والمجتمع المحلي المنغلق.
في قطاع غزة، وإن اقتدرت على دفع المغامرة بالثمن المطلوب لاتخاذ مثل هذا القرار، رغم صعوبة فعل ذلك على أبناء غالبية أبناء التسعينيات وكثير ممن سبقهم، لن تحظى بحق الحصول على الإقامة منفرداً أو مع مجموعة، في حال كنتم عزاباً.
أكثر من 50% من سكان غزة ينامون ثلاثة على الأقل في الغرفة الواحدة. بسبب مشكلة الإسكان الكبيرة في القطاع، إذ وصل احتياج المليوني نسمة الذين يقطنون غزة، إلى نحو 150 ألف وحدة سكنية في آخر إحصاء صادر عن وزارة الإسكان.لم تنجح محاولات ضُحى فتحي (24 عاماً)، ابنة مدينة رفح أقصى جنوب قطاع غزة، بإقناع أهلها بالانتقال للسكن بمحافظة غزة، منذ أن كانت طالبة في كلية الآداب اللغة الانجليزية بجامعة الأزهر بغزة، ما كان يضطرها للتنقل يومياً بين محافظات القطاع مما يهدر الكثير من الوقت والجهد في الذهاب والإياب، عدا تكلفة المواصلات الإضافية. بعدما نالت الشهادة الجامعية، وباتت تبحث عن فرص العمل والتدريب، أدركت ضُحى أن الفرص ومجتمع العمل يتمركزان في مدينة غزة، وأن هناك الكثير من المصالح والمهام اليومية لا يمكن إنجازها إلا في المركز، واكتشافها لطبيعة مدينة رفح، التي تخلو من المؤسسات والمراكز التعليمية، واشتغال أهل مدينة رفح بالزراعة والتجارة كونها مدينة حدودية وحاضنة لمعبر رفح مع مصر وحاجز كرم أبو سالم بين القطاع وإسرائيل. تزداد المشاوير عبر طريق رفح- غزة ثقلاً كلما تقلصت رقعة الأمل أمام ضُحى بإيجاد فرصة ملائمة للعمل في التدريس أو التدريب عبر المشاركة في أنشطة مؤسسات المجتمع المدني. تقلُ زيارات ضُحى إلى غزة، وتصبح أوقاتها مشغولة أكثر وأكثر في قراءة كتاب أو مشاهدة فيلم، وبعض الأعمال المنزلية الخفيفة والحديث مع الأصدقاء عبر الإنترنت، مثل غالبية خريجو/ات الجامعات في القطاع. "غزة تختلف عن رفح وأي منطقة أخرى بالقطاع، باعتبارها المركز من بين مختلف المحافظات، بالنسبة لفرص العمل والجامعات الرئيسية والأسواق والبنوك، تقريباً كل شيء بغزة". تقول ضُحى لـ"رصيف 22"، "توفيراً للوقت والمواصلات أفضل العيش في غزة، بالوقت الحالي أضطر للاستيقاظ مع العصافير للتوفيق بين العمل والذهاب والعودة يومياً من وإلى غزة". يرتبط رفض الأهل لإقامة ابنتهم بمسكن مستقل، بشعورهم بالخوف وانعدام أمن وسلامة ابنتهم خارج البيت، وفي محافظة أخرى، فبالنسبة لهم، إذا حدث مكروه لها فإنهم سيكونون بالقرب منها حال إقامتها معهم. هكذا يبرر أهل ضُحى عدم موافقتهم على إقامتها في غزة رفقة مجموعة من قريناتها؛ في الوقت الذي تتأثر ضحى أحياناً بالأسباب التي يطرحها الأهل وأحياناً أخرى تشعر بالعجز بسببها. تتنوع الأسباب والدوافع وراء رغبة الشباب والشابات بالاستقلال عن منزل الأهل والنظام العائلي بقصد التحرر من العادات والتقاليد المجتمعية التي يضغط الأهالي باتجاه التزام أبنائهم وبناتهم بها والالتزام بالصورة النمطية التي اعتادوها؛ كما يلجأ الشباب والشابات للاستقلال المكاني والمادي حباً بتجربة الاعتماد على الذات في مختلف مناحي الحياة، على الرغم من مواجهتهم/هن مجموعة من الصعوبات نتيجة الاستغناء عن المنظومة العائلية، والعلاقة الاعتمادية التي تفرضها القيود والبيئة الاجتماعية في القطاع ما بين الأهالي والأبناء والبنات، وكالمدّ والجزر يناورون/ن أحلامهم/ن مرة بالانتصار على المعوقات ومرة بالانكسار أمام بطش المدينة الأزلي!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...