شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
تعاطي النظام المصري مع الأزمات المتوارثة... شجاعة ولكن بخطط فوقية تتجاهل الناس

تعاطي النظام المصري مع الأزمات المتوارثة... شجاعة ولكن بخطط فوقية تتجاهل الناس

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الأربعاء 30 يناير 201906:21 م
تجسّد الأزمة الأخيرة بين الدولة المصرية وسكان منطقة نزلة السمان المحيطة بأهرامات الجيزة، بشكل نموذجي، إحدى أهم إشكاليات النظام المصري في تعاطيه مع الأزمات التي يحاول معالجتها، إذ يُحسب له تجرؤه على التصدي لأزمات مسكوت عنها لعقود طويلة، وسعيه إلى حلها من جذورها، بعكس الأنظمة السابقة التي أدمنت المسكنات، ولكن الشيطان يكمن في التفاصيل. وفي التفاصيل، فإن حلول النظام الحالي للأزمات المستفحلة كثيراً ما تكون حاسمة وجذرية، لكنها تتجاهل تماماً "البشر" المشتبكين في حياتهم مع تفاصيل الأزمة، وتضعهم تماماً خارج الصورة، رغم أنهم عملياً يُعَدّون العنصر الأهم في معادلة الإصلاح. والنتيجة صدام عنيف بين النظام والسكان. النظام يرى من جانبه أنه يسعى إلى علاج الأزمات، والمواطنون لا يرون في ما يفعله إلا قطعاً للأرزاق وتشريداً لهم…. وبالتالي، الصدام حتمي، وسيلان الدم وارد، والأمثلة كثيرة على ذلك، وتحليها ضروري قبل وضع خطط حل الأزمات.

نموذج تطوير منطقة أهرامات الجيزة

لا أحد ينكر أن منطقة أهرامات الجيزة أصبحت منطقة سيئة السمعة، بفعل بلطجة بعض قاطني نزلة السمان. فبمجرد اقترابك من مدخل الهرم، ستجد نفسك محاصراً بعدد غير قليل من بلطجية المنطقة الذين يحاولون إجبارك على امتطاء جمالهم. والمدهش أن هذا يحدث على بعد أمتار قليلة من نقطة شرطة الهرم، وأمام أعين رجال الأمن الذين لا يمكن تجاهل دورهم في استفحال الأزمة. MAIN_The-Egyptian-regime-is-dealing-with-inherited-crises ولو نجحْتَ في عبور بلطجية المدخل، ستتفاجأ بمرجد دخولك المنطقة الأثرية بنوع آخر من البلطجة ممثلاً في باعة متجوّلين يلاحقونك ببضاعتهم لشرائها غصباً عن أنفك! أضف إلى ذلك شبه انعدام للخدمات. باختصار يمكن القول إن الوضع في منطقة الأهرامات "بشع وغير مشرّف" على حد تعبير رئيس البرلمان المصري علي عبد العال. وعليه، فقرار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بحل تلك الأزمة هو قرار محمود لا يمكن لعاقل أن يعترض عليه. لكن المشكلة تكمن في أن الدولة تجاهلت آلاف البشر الذين ارتبطت حياتهم بهذا الوضع لسنوات طويلة، ولم تحاول التوصل معهم إلى حلول وترضيات مناسبة للجميع. بالعكس، لجأت إلى القمع. فمثلاً، أسندت الدولة مشروع الصوت والضوء إلى شركة إماراتيه، وقررت إسناد الخدمات وموقف الانتظار إلى شركة أوراسكوم لتطويرها وإدارتها. وفي نفس خطة التطوير، تنوي الحكومة إنشاء حرم آمن للمنطقة الأثرية بعمق 40 متراً من سور المنطقة وإزالة التعديات والمباني المخالفة، وهنا مكمن الأزمة. فقرار كهذا معناه إزالة صف كامل من المنازل والمحلات السياحية المواجهة لمخرج أبي الهول، ما يعني ببساطه قطع أرزاق وتشريد كل العاملين في تلك المحلات التي هي عصب اقتصاد نزلة السمان. هذا ما تسبب في غضبهم واشتباكهم مع الشرطة، وهو اشتباك كان يمكن تفاديه لو عملت الحكومة على التوصل إلى اتفاق مرضٍ لجميع الأطراف، كأن تَعِد مثلاً أصحاب المحلات التي ستُزال بمحلات أخرى في منطقة التسوق المزمعة إقامتها. وكان من الممكن تعويض قاطني العمارات المستهدف إزالتها بسكن مناسب وقريب، وكان من الممكن طمأنة مالكي الجمال، وهي أحد أهم الأنشطة الاقتصادية في المنطقة، بأن أرزاقهم لن تتضرر بسبب التطوير، لا بل بالعكس سيجري تسهيل عملهم وتنظيمه. أشياء كثيره كان يمكن فعلها من قبل النظام تُطمئن السكان وفي نفس الوقت لا تعيق خطة التطوير المزمع تطبيقها. لكن للأسف، تعاملت الدولة بمنطق عسكري بحت: قرارات فوقيه تتجاهل البشر تماماً، والنتيجة الدخول في دائرة مفرغة من العنف والعنف المضاد كان من الممكن تفاديها، لو فقط فكّر النظام بشكل أكثر مرونة وقرر التوصل إلى حلول مرضية للجميع.

نموذج أزمة زراعة الأرزّ

ما حدث في أزمة "نزلة السمان" لا يختلف كثيراً عمّا حدث في أزمة زراعة الأرزّ، وهي أزمه حقيقية قررت الحكومة مواجهتها بحسم، متخذة قراراً لا يمكن اعتباره خاطئاً من حيث المبدأ، لكنه منقوص، وتجاهل، كالعادة، المواطنين المشتبكين مع المشكله، ليخلق صراعاً جديداً لا مبرر له.
قرارات كثيرة مثيرة للجدل يتّخذها النظام المصري، تشترك جميعها في أن أساسها سليم، لكن المأزق يكمن في أن السلطة الحاكمة تتعامل مع الأزمات بحزم العسكري لا بمرونة السياسي، ولا تتواصل مع الناس، وتفرض الحلول بفوقية
حلول النظام المصري للأزمات المستفحلة كثيراً ما تكون حاسمة وجذرية، لكنها تتجاهل تماماً "البشر" المشتبكين في حياتهم مع تفاصيل الأزمة، وتضعهم تماماً خارج الصورة، رغم أنهم عملياً يُعَدّون العنصر الأهم في معادلة الإصلاح
نشأت الأزمة بعد اتخاذ الحكومة قراراً، العام الماضي، بتقليص المساحة المزروعة بالأرزّ، وحظر زراعته تماماً في محافظات الوجه القبلي، مع تغليظ العقوبة على المخالفين وجعلها الحبس وليس الغرامه فحسب، ما أغضب آلاف المزارعين الذين يرون أن الأرزّ أحد أهم المحاصيل المربحة لهم وأنه لا يوجد محصول آخر يدرّ نفس العائدات عليهم. وعليه أعلنوا رفضهم للقرار المذكور مؤكدين أنهم سيزرعون الأرزّ غصباً عن أنف الحكومة. نظرياً، قرار الحكومة سليم، فمصر تعاني من عجز حقيقي في المياه منذ أكثر من عشرين عاماً، فالـ55.5 ملايين متر مكعب التي خُصصت لمصر في اتفاقية 1959 حين كان تعداد سكان مصر أقل من 25 مليون نسمة، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكفوا في 2018، بعد تجاوز عدد السكان الـ100 مليون نسمة. وللأسف، لم تعمل الأنظمة السابقة على زيادة موارد مصر المائية ولم تسعَ إلى ترشيد استهلاك المصريين من المياه، والنتيجة المعاناة من عجز حقيقي في الـ15 عاماً الماضية. وقد ساهم بناء سد النهضة الإثيوبي في التعجيل بلحظة ضرورة مواجهة الأزمة، علماً أنه معه أو بدونه كان الوصول إلى هذه اللحظة حتمياً. يستند قرار الحكومة على حقيقة أن الأرزّ من الزراعات الشرهة للمياه، والتي لم تعد مصر قادرة عليها، لكن في نفس الوقت لا يستطيع المصريون إيقاف زراعته في الدلتا لأنه يعمل على تقليل ملوحة الأرض المرتفعة بحكم قربها من البحر. وعليه، لا بديل عن تحديد مناطق محددة له في الدلتا وحظره في الصعيد تماماً. وكالعادة، تجاهل متخذ القرار المزارعين تماماً، ولم تهتم الحكومة بالاجتماع بممثلين عنهم لشرح الوضع لهم، ومناقشة البدائل الممكنة، فضلاً عن أنها لم تضع خطة متكاملة لترشيد استهلاك المياه، رغم المقترحات الكثيرة التي قدّمها خبراء في الزراعة مثل وضع تركيب محصولي أمثل لمصر، ودعم التعاونيات الزراعية، وتعظيم الاستفادة من الأرزّ المزروع، ومقترحات أخرى ترمي إلى تقليل استهلاك المياه وفي نفس الوقت تحافظ على دخل المزارعين. سلسة طويلة من القرارات التي تعقبها صدامات بين الحكومة والقطاع المستهدف بالتغيير، بدأت منذ تحديد مساحات الأرزّ المزروعة، ووصلت إلى تطوير منطقة الهرم، مرواً بإزالة التعديات، وتطوير العشوائيات، وطلاء واجهات المنازل... قرارات كثيرة مثيرة للجدل تُتّخذ، تشترك جميعها في أن أساسها سليم ويُحسب للنظام أنه قرر مواجهة الأزمات المستوطنة بشجاعة، لكن المأزق يكمن في أن السلطة الحاكمة تتعامل مع تلك الأزمات بحزم العسكري لا بمرونة السياسي، والنتيجة غياب تام للتواصل مع الناس، وحلول فوقية تفضي إلى صدامات تهرق دماء، مع أن كل ذلك يمكن أن ينتهي بحال أدركت السلطة الحاكمة أن مصر دولة وليست معسكراً.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image