شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
علاقة حميميّة مع الرقص الشرقيّ: صديق مخلص للجسد

علاقة حميميّة مع الرقص الشرقيّ: صديق مخلص للجسد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 29 يناير 201912:16 م
اسأل نفسي عماذا أكتب، كيف أعبر عن مشاعر جسدي بالكتابة، أو كيف يترجم جهازي العصبي مشاعر جسدي ويرسخها في عقلي أو قلبي، أقصد هنا التعامل مع الجسد كونه كيانًا مختلفاً، أو أقصد التعامل معي كشخص ذي قلب لديه مشاعر، وله جسد ذي مشاعر، وله روح ذات مشاعر.
علمتنى عمتي الرقص في سن صغيرة، كنت في الرابعة من عمري أو أقل، كانت مشاهدة الرقص هي نشاطي المفضل، وبحكم تربيتي الريفية كان ذلك موجوداً فقط في المناسبات.
عمتي تكبرني بعشرين عامًا تقريبًا، وكانت هي أصغر أفراد عائلة أبي وكنت أنا أول حفيدة، كانت النتيجة الطبيعية لذلك الوضع هي علاقة وطيدة بيني وبينها، تصحبني إلى الكلية وإلى بيوت صديقاتها، فانتقل لي منذ صغري امتياز دخول المساحات المغلقة.
في مدينتي الريفية الصغيرة طقوس الأفراح مختلفة، فعندما تقبل فتاة على الارتباط- خطبة أو زواج – تقام ليالي الاحتفالات قبل المناسبة بعشرة أيام مثلًا على الأقل، تتجمع الفتيات سواء كن من صديقات العروس أو قريباتها ويبدأن في الغناء الفلكلوري والرقص البلدي، وأنا في منتصف تلك التجمعات دائمًا، أحفظ الأغاني وأصور في ذاكرتي فيديو لكل الراقصات، التقط حركة من هنا وحركة من هنا، عمتي تجيد حركات البطن وأخرى تجيد حركات الخصر. هكذا قضيت طفولتي، أتنقل بين تلك المساحات وأصور المئات من الأفلام لبطلات يجيدن الرقص أمام النساء فقط، وفي تلك المناسبات فقط.
كيف أصبح فن الرقص الشرقي يتلخص في التعري؟
في يوم الاحتفال الرسمي سواء كان خطبة أو ليلة زفاف يختلف الوضع تمامًا، تختفي جميع الفتيات من على المسارح أو قد يظهرن بشكل مختلف؛ يرتدين فساتين طويلة وحجاباً على الرأس ويضعن الكثير من مستحضرات التجميل، لو قررن الرقص يستغنين عن خصورهن وحركات البطن ويقررن فقط إظهار حركات الكتف واليد، لم أفهم هل هذا هو قرارهن أم هو أمر مفروض عليهن؟
احترفت التصوير في رأسي، وبدأت في التقليد أيضًا، كيف تفتح عمتي يدها وتلوي خصرها وتقبض وتبسط عضلات بطنها، وكيف تتحرك صديقتها وهي ترقص، تتمايل من أول الصالة إلى آخرها على أطراف أصابع رجليها.

تاريخ غير شخصيّ

 أبحث عن تاريخ الرقص الشرقي لنفسي، لا لكي لأكتبه، ولكن لأنني أريد أن أغير قناعاتي تجاه ذلك العالم المسحور الذي أحببته وحرم علي عندما زارني الحيض، أبحث لأنني أريد الخروج من ذلك القالب الذي يحرم كل ما له علاقة بالتمايل.
زينب حسين، والتي كانت معروفة باسمها "زوبة الكلوباتية"، هي أول من رقص بالشمعدان، اشتهرت باستخدام الشمعدان خلال رقصها، تبدأ الرقصة وتنتهي بدون أن تنطفئ شمعة واحدة، تحدٍ مع نيران الشموع إذن، مختلف تمامًا عمّا كانت تفعله عمتي وصديقاتها، مختلف أيضًا عن راقصات السينما والفيديو كليب الآن، اسأل نفسي كيف هذا التحوّل؟ كيف أصبح فن الرقص الشرقي يتلخص في التعري؟
عودة إلى زوبة، في كتاب محمد الشريف بعنوان "مما جرى في بر مصر"، يحكي عن قصة زوبة الكلوباتية، وعن شارع محمد علي، ذلك الشارع الذي كان يعبّر عن أمجاد الرقص الشرقي في القرن العشرين.
تحكي زوبة عن مهنتها كراقصة شرقية وعن اعتزالها وعن حارة العوالم، تقول زوبة إنها اعتزلت هذا النوع من الفن "لأنه حرام"، ولكنها سرعان ما تتخلى عن ذلك الاعتقاد وتقول إنها لم تشعر يوماً وهي ترقص أنها تخطىء أو تمارس إثماً ما، هكذا أشعر أنا عندما أرقص الآن، بعد سنوات من البحث كي أحلل لنفسي تمايلي وحبي للرقص. عاشت زوبة في شارع محمد علي، تحديدًا في حارة العوالم، وهناك يبدأ تأريخ الرقص الشرقي في مصر الحديثة.
تتفرع حارة العوالم من شارع محمد علي، وشهدت انطلاق أول راقصة في السينما المصرية أنوس العالمة، وامتد الفن في ذلك الشارع، فلم يقتصر على العوالم فقط ولكنه كان مكان تصنيع الآلات الموسيقية؛ كان شارعاً للفن بجميع أنواعه.

الغزو الوهابي

لا شيء يبقى على حاله، تحوّل الشارع من محفل لجميع أنواع الفنون إلى ورش لصناعة الرخام والموبيليا، واختفت الراقصات تدريجيًا منه وكذلك الحال مع محالّ بيع الآلات الموسيقية، وتدريجيًا تحوّل الرقص إلى فعل محرم بشهادة الراقصات.
لم يقتصر الأمر على شارع محمد علي، فالخمسينات شهدت بداية موجات التحريم وامتدادها إلى يومنا هذا، حيث الرقص حرام وكل ما يخص المرأة محرم والمعازف حرام، كان منعي من الرقص بعد بلوغي "أمراً طبيعياً" إذن ولكني لم أحبه، ذلك كان هو الدافع لكي أبحث وأبدأ رحلة أخرى مع نفسي لا توصم الرقص والراقصات، ولا تتعامل مع كل ما يخص المرأة بحرمانية.
في الاحتفالات الرسمية، تختفي جميع الفتيات من على المسارح أو يظهرن بشكل مختلف؛ يرتدين فساتين طويلة وحجاباً على الرأس... لو قررن الرقص يستغنين عن خصورهن وحركات البطن... لم أفهم هل هذا هو قرارهن أم فُرض عليهن؟
تقول زوبة الكلوباتية إنها اعتزلت هذا النوع من الفن "لأنه حرام"، ولكنها سرعان ما تتخلى عن ذلك الاعتقاد وتقول إنها لم تشعر يوماً وهي ترقص أنها تخطىء أو تمارس إثماً ما، هكذا أشعر أنا عندما أرقص الآن.
شهدت الخمسينات بداية موجات التحريم وامتدادها إلى يومنا هذا، حيث الرقص حرام وكل ما يخص المرأة محرم والمعازف حرام، كان منعي من الرقص بعد بلوغي "أمراً طبيعياً" إذن ولكني لم أحبه!
  الرقص هو من صنعني، هو من صالحني مع جميع أجزاء جسدي التي انتهكها المتحرشون في الشارع، الرقص وحده هو من وصلني بنفسي. أحببته حتى امتهنته.

من العامّ إلى الشخصي

 لم اقتنع بالتحريم منذ صغري؛ ولكني لم أكن ناضجة كي أحمل أسلحتي وأبحث، يغويني الرقص ويشدّني إليه، الرقص اسم مذكر وأنا امرأة مغايرة جنسيًا، أحبه ويحبني، يعطيني وأعطيه ويغدق علي بكرامته.
الرقص هو من صنعني، هو من صالحني مع جميع أجزاء جسدي التي انتهكها المتحرشون في الشارع، الرقص وحده هو من وصلني بنفسي. أحببته حتى امتهنته، فقضيت ثلاث سنوات أنفذ ورشات خاصة لتعليم الرقص الشرقي أو المصالحة مع الجسد، اختر ما شئت كعنوان مناسب للورشة.
نصف ساعة للانفصال عن كل ما هو خارجي، نصف ساعة عن كيف أتخلى عن أعباء الحياة واطلق لجسدي العنان، نصف ساعة حتى تحلق كل مشاركة في الورشة في سماء تملك فيها جسدها بأكمله. إضاءة الغرفة خافتة، وموسيقى هادئة ليست بالضرورة أن تكون شرقية كي أساعد كل مشاركة أن تمتلك جسدها وتفصله عن الشارع، وعن سلطة الرجال، وعن لعنة التحريم.
الرقص أعطاني أكثر مما أتمنى
ساعة من الألحان الشرقية، من كيف كانت تحرّك عمتي وصديقاتها جميع عضلات أجسادهن، ساعة من التركيز على الأصل والجذر، على الرجوع للأرض وتأسيس العلاقات معها. كان الجزء الأخير في الورشة من نصيب التصالح، نصف ساعة من التحليل لهوية الجسد، نصف ساعة من الحديث فقط عن الأجساد، عن مشاعر أجساد المجموعة.
الرقص أعطاني أكثر مما أتمنى، حينما بدأت رحلتي معه لم أكن أتوقع كل ذلك التحول في مشاعر جسدي وفي علاقاتي، هو الذي لم يقل لي يومًا إن جسدي لا يصلح للرقص، هو الذي لم يوبخني مرة لأن وزني قد زاد، هو الوحيد الذي يخرجني من قاع الهزيمة، هو الذي يصلب ظهري في الشدائد، هو نفسه الذي يمنحني القوة فيجعلني امرأة صعبة النسيان، هو ذاته الذي يزيد جسدي جاذبية، وهو الذي علمني احتراف الغواية وإجادتها، هو الذي جعل كل أحبائي يشيدون بعلاقتي بجسدي، الرقص هو الذكر الأكرم في حياتي.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image