على مدى فترةٍ طويلةٍ من عصور ما قبل التاريخ، كان الناس من حول العالم يمارسون عمليةٍ جراحيةٍ تُعرف بـtrepanation أي ثقب الجمجمة: وهو إجراءٌ جراحي ينطوي على إحداث ثقبٍ في جمجمة شخصٍ حيّ عن طريق الحفر أو قطع أو إزالة طبقات من العظام من خلال استخدام أداةٍ حادةٍ.
من معالجة الأمراض العصبية والنفسية وصولاً إلى السماح للأرواح بالدخول، إليكم الأسباب التي كانت تدفع الإنسان القديم إلى الخضوع لعملية ثقب الجمجمة رغم الآلام الخيالية التي تسببها.
من أقدم الممارسات في العالم
تأتي كلمة trepanation من الكلمة اليونانية trypanon التي تعني: المثقب، أي الآلة التي تُستخدم في عملية تكوين ثقوب. فالـ trepanationهي حفر الثقوب في الجمجمة، وتعتبر من أقدم العلميات الجراحية المنتشرة في العديد من الثقافات القديمة (خاصة في اليونان وروما وجنوب روسيا). وبالرغم من أن معظم الثقافات قد تخلّت عن عمليات ثقب الجمجمة بحلول نهاية العصور الوسطى، استمرت هذه الممارسة في عددٍ قليلٍ من الأجزاء المعزولة من إفريقيا وبولينيزيا حتى أوائل القرن العشرين. أخيراً تم اكتشاف الآلاف من الجماجم التي تحمل علامات ثقب في المواقع الأثرية في جميع أنحاء العالم والتي يعود تاريخ أقدمها إلى حوالي 10000 سنة قبل الميلاد. فكيف كانت الحضارات القديمة تمارس ثقب الجماجم؟ أوضح موقع mentalfloss أن عملية ثقب الجمجمة كانت تحصل في كل بقعةٍ من العالم، لأغراضٍ طبيةٍ أم باطنيةٍ. ففي اليونان القديمة، كانت تستخدم هذه التقنية لتخفيف الضغوط النفسية خاصة بعد التعرض لحادثٍ مؤلمٍ، ومنذ عصر النهضة حتى بداية القرن التاسع عشر كان اللجوء إلى هذه العملية يحصل بشكلٍ روتيني لعلاج جروح الرأس، أما في القرن الثامن عشر فكانت تقنية ثقب الجمجمة تستخدم لعلاج الصرع والإضطرابات العقلية.في الستينات لجأت بعض المجموعات التي تضم بشكلٍ خاص عشاق الروك والفنانين إلى اعتماد نهجٍ راديكالي عن طريق الخضوع لعملية ثقب الجمجمة بهدف تحسين وظائف الدماغ، وتجاوز المشاكل النفسية وتحقيق مستوى أعلى من الوعي.
فمنذ نشر أول الدراسات العلمية حول trepanation في القرن التاسع عشر، استمر العلماء في القول بأنّ البشر القدامى كانوا أحياناً يثقبون الجمجمة للسماح بمرور الأرواح إلى داخل الجسم أو خارجه، أو كجزء من الطقوس الشعائرية.أما بالنسبة إلى التقنيات المستخدمة فكانت تختلف من ثقافةٍ إلى أخرى، ففي العادة كانت العملية الجراحية تحصل بواسطة أداة يستخدمها النحاتون على الخشب والمعادن. وفي عصور ما قبل التاريخ، وتحديداً في البيرو، كان يتم استخدام سكين احتفالي يعرف باسم tumi بهدف قطع العظام، أما مدرسة "ابقراط" فقد اخترعت "منشار الجمجمة" الذي كان يملأ الجمجمة بالثقوب، في حين أنه في جنوب المحيط الهادئ كان يتم استخدام الأصداف الحادة. أما في اوروبا فكانت العملية الجراحية تقوم على الصوان والحجر الزجاجي. واللافت أن ممارسة ثقب الجمجمة كانت تتم على الكبار والصغار، سواء كانوا من الذكور أو من الاناث، والشق المثير للدهشة أنه عند مراقبة هذه الجماجم عن كثب من الممكن ملاحظة أثار للشفاء، مما يعني أن المريض كان على قيد الحياة وعاش لسنواتٍ بعد الجراحة، وهو أمر أكده "شارلز غروس"، أستاذ علم الأعصاب في جامعة "برينستون"، مرجحاً أن تراوح نسبة بقاء المرضى على قيد الحياة بعد العملية بين 50 إلى 90%.
علاج الأمراض العصبية
لقد أثارت ظاهرة ثقب الجمجمة فضول العلماء المهتمين بالجانب المظلم من التاريخ الطبي، والذين لا يزالوا غير متفقين تماماً على تحديد السبب الكامن وراء خضوع أسلافنا لعملية ثقب الجمجمة. في الواقع إن تقنية ثقب الجمجمة في الطب الغربي تعود جذورها بشكلٍ رئيسي إلى الممارسات المصرية واليونانية لعلاج إصابات الدماغ. في نصوص أبقراط التي تعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد، ذكر أنه تم اللجوء إلى ثقب الجماجم في حالات كسر العظم، والصرع أو الشلل، وفي القرن السابع عشر، رجح العالم "ويليام هارفي" أن يكون هذا الإجراء قد استخدم لعلاج الصداع النصفي.عندما يصبح ألم الصداع شديداً بشكلٍ لا يحتمل، تنشأ رغبة فطرية أحياناً إما لضرب الموضع بعنف أو تمني الخضوع لعمليةٍ معينةٍ من أجل إزالة الألمففي العام 1902، نشرت مجلة Mental Science محاضرة كان قد ألقاها السير توماس لودر برونتن، وهو طبيب في لندن معروف بأفكاره حول علم مرض الشقيقة، ذاكراً فيها أن الثقوب في الجماجم خلال العصر الحجري كانت تهدف إلى علاج الصداع النصفي. وبدوره زعم الطبيب الفرنسي والأنثروبولوجي "بول بروكا" أن الثقوب في الجماجم القديمة التي تم اكتشافها في البيرو وفرنسا كانت تتم بناء على طلب الأشخاص الذين يعانون من الصداع النصفي: "عندما يصبح ألم الصداع شديداً بشكلٍ لا يحتمل، تنشأ رغبة فطرية أحياناً إما لضرب الموضع بعنف على أمل تخفيف الألم، أو تمني الخضوع لعمليةٍ معينةٍ من أجل إزالة الألم". ولكن هل يمكن للثقب في الجمجمة أن يعزز مستوى الإدراك ويحسن وظائف الدماغ؟ أوضح موقع scielo أن عملية ثقب الجمجمة في أوائل الستينات كانت مدار اهتمام الأشخاص الراغبين بتعزيز قواهم العقلية ورفاهيتهم، وذلك لكون هذا الاجراء يساهم في تعزيز حجم تدفق الدم في الرأس وتحسين وظائفه. ففي الستينات والسبعينات من القرن العشرين، انصب الاهتمام على طرق "فتح العقل" وزيادة الادراك والبصيرة، فبالاضافة إلى الماريجوانا وبعض المهلوسات، لجأت بعض المجموعات التي تضم بشكلٍ خاص عشاق الروك والفنانين إلى اعتماد نهجٍ راديكالي عن طريق الخضوع لعملية ثقب الجمجمة بهدف تحسين وظائف الدماغ، وتجاوز المشاكل النفسية وتحقيق مستوى أعلى من الوعي. وتستند هذه النظرية إلى أن حالة الوعي العالية التي يتمتع بها الرضيع تعود إلى جمجمته غير المكتملة والتي تسمح بالتوسع الحر في المخ وتدفق الدم في الدماغ، في حين أنه مع التقدم في العمر يصبح هذا التدفق مقيّداً. في الوقت الراهن ينظر العديد من الناس إلى trepanation كطريقة روحانية تساهم في تحسين القوة العقلية، وفي بعض الأحيان تتم ازالة قطع من الجمجمة للتخفيف من الضغط على الدماغ ولتحسين أدائه. في هذا الصدد، تعتبر "اماندا فيلدينغ" من الاشخاص القلائل الذين قرروا طوعاً الاقدام على هذه الخطوة من دون وجود حاجة طبية لذلك، إنما لاعتقادها بأن هذه التقنية تجعل الدماغ أكثر شباباً وتعزز الطاقة النفسية. تكشف "فيلدينغ" عن تجربتها الخاصة لموقع vice، وتشير إلى أنه بعد أن عجزت عن إيجاد طبيبٍ مستعدٍ لاجراء هذه العملية، قررت أن تجريها بنفسها من خلال استخدام مثقابٍ كهربائي ذي قاع مسطح ودواسة قدم، وبعد الانتهاء من عملية ثقب الجمجمة، شعرت باحساسٍ جيد، ولاحظت أن نمط أحلامها قد تغيّر: "أصبحت أحلامي أقل قلقاً"، مشددة على أن ثقب الجمجمة تجعل الناس أكثر سعادةً وأفضل صحةً.
طقوس لاكتساب مهارات فريدة
بمعزل عن استخدام عملية ثقب الجماجم في علاج الحالات الطبية، كان الباحثون يعتريهم شك منذ فترة طويلة في أنّ البشر خضعوا لعملية ثقب الجماجم لسبب مختلف تماماً: نوع من أنواع الطقوس. فمنذ نشر أول الدراسات العلمية حول trepanation في القرن التاسع عشر، استمر العلماء في القول بأنّ البشر القدامى كانوا أحياناً يثقبون الجمجمة للسماح بمرور الأرواح إلى داخل الجسم أو خارجه، أو كجزء من الطقوس الشعائرية. وبالرغم من صعوبة الحصول على أدلةٍ مقنعةٍ حول هذا الموضوع إلا أنه في زاوية صغيرة من روسيا، اكتشف العلماء أفضل الأدلة على الإطلاق لعملية ثقب الجمجمة الشعائرية.كان الباحثون يعتريهم شك منذ فترة طويلة في أنّ البشر خضعوا لعملية ثقب الجماجم كنوع من أنواع الطقوسففي العام 1997، كان علماء الآثار يستكشفون موقع دفن يعود لما قبل التاريخ بالقرب من مدينة روستوف-نا-دونو في أقصى جنوب روسيا، بالقرب من المناطق الشمالية للبحر الأسود. كان الموقع يحتوي على بقايا هياكل عظمية لـ35 شخصاً، موزعة على 20 قبراً منفصلاً، واستناداً إلى أسلوب مراسم الدفن، عرف علماء الآثار أنّها تعود إلى ما يقرب من 5000 إلى 3000 قبل الميلاد، وهي فترة تعرف باسم Chalcolithic أو "العصر النحاسي". واللافت أن إحدى المقابر تضمنت هياكل عظمية تعود لـ5 أشخاص بالغين -امرأتين و3 رجال- ورضيع يراوح عمره بين سنة وسنتين، وفتاة في منتصف سن المراهقة. صحيح أنه لم يكن من الغريب العثور على هياكل عظمية متعددةٍ في قبرٍ واحد يعود لما قبل التاريخ، لكن ما تم فعله في جماجمهم كان أمراً عجيباً: كانت الجماجم التي تعود للمرأتين والرجلين والفتاة المراهقة جميعها مثقوبة. وتحتوي كل جمجمةٍ على ثقبٍ واحد، عرضه عدة سنتيمترات وبشكل بيضاوي تقريباً، مع علامات كشط حول الحواف، أما جمجمة الرضيع فكانت بلا شائبة. وعليه تولت الباحثة في مجال أصل الإنسان "إيلينا باتييفا" مهمة تحليل محتويات القبر، وعلمت على الفور أن هؤلاء الاشخاص خضعوا لعمليات ثقب الجمجمة، غير أنّ هذه الثقوب لم تكن عادية، اذ كانت جميعها تصب في نفس المكان: نقطة على الجمجمة تسمى obelion، وهذا أمر نادر لكون اجراء ثقوب في هذه المنطقة أمراً خطيراً للغاية ويعرض الشخص المعني لخطر نزف كمياتٍ كبيرةٍ من الدماء والموت. وبالتالي اعتبر موقع "بي بي سي" أنه يجب أن يكون هناك سبب وجيه لدى سكان العصر الحجري في روسيا لإجراء عملية ثقب الجمجمة في هذا الموضع بالذات، خاصة أنه لم تظهر على اي من هذه الجماجم علاماتٍ على تعرضها لاصابةٍ أو مرضٍ، قبل أو بعد إجراء عملية ثقب الجماجم، بعبارةٍ أخرى بدا أن جميع هؤلاء الأشخاص تعرضوا للمرض في حين أنّهم كانوا يتمتعون بصحةٍ جيدةٍ، والسؤال الذي يطرح نفسه: هل كان دليلهم على عملية ثقب الجمجمة له علاقة بنوع من الطقوس؟ تعتقد "ماريا ميدنيكوفا"، وهي خبيرة في عمليات ثقب الجمجمة في روسيا، أنّ إجراء ثقب الجمجمة في مناطق محددةٍ وخطيرةٍ من الجمجمة كان بهدف تحقيق "تحولات" من نوع ما، مشيرةً إلى أنه عن طريق ثقب الجمجمة في هذه الأماكن، كان الناس يعتقدون أنّهم يستطيعون اكتساب مهاراتٍ فريدةٍ لا يملكها أفراد المجتمع العاديون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.