منذ بداية القرن التاسع عشر، تزايدت مساهمة اليهود التونسيين في صياغة التاريخ الثقافي والاجتماعي والسياسي للبلاد سلباً وإيجاباً. ومن المجالات التي خلفوا فيها بصمة ظاهرة، مجال الغناء الشعبي.
مساهمة اليهود في كل المجالات
ففي ذاك القرن، تنامى إقبال اليهود في تونس على المشاركة في الشأن العام، خصوصاً مع قدوم جالية كبيرة من المدن الجنوبية في إيطاليا، واستقرارها في العاصمة التونسية. وفي موازاة ذلك، منحت الدولة حقوقاً إضافية للطائفة اليهودية، منها عضوية المجلس الأكبر (البرلمان)، والحقوق الدينية والثقافية والمساواة أمام القانون مع المسلمين في دستور 1861. وطوال تلك الفترة مروراً بحقبة الاستعمار، حتى العشرية الأولى من الاستقلال، ساهم يهود تونس في صوغ تاريخ البلاد.
وقد برز في السياسة نسيم شمامة (1805- 1873)، الذي وصل إلى رتبة وزير المال في عهد البايات، لكنه ما لبث أن فر إلى إيطاليا هارباً بأموال الدولة. وبرز جورج عدة (1916- 2008)، المناضل السياسي والنقابي الذي وقف ضد الاستعمار الفرنسي والحركة الصهيونية، ونشط في التيار اليساري التونسي في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي ضد نظام الحزب الواحد.
وفي السينما، برز ألبير شمامة (1872- 1934)، رائد السينما التونسية، الذي قدم أول عرض سينمائي في البلاد في أكتوبر 1896.
وفي الصحافة ظهرت العشرات من الصحف التي يشرف عليها اليهود بالفرنسية والعبرية. وفي المجال الرياضي، برز العديد من الأسماء، خصوصاً في الملاكمة كسيمون بلعيش وبيريز زفيليكس.
الحضور اليهودي في الغناء والفنون الشعبية
غير أن الحضور اليهودي في الغناء والفنون الشعبية التونسية كان لافتاً. فقد ظهرت في الساحة الفنية المحلية العشرات من الأصوات، لتصوغ طابعاً فنياً مميزاً يسمى "الربايبية" نسبة لآلة الربابة، التي كانت تصاحب هذا النوع من الغناء الخفيف، والذي كان مرتبطاً بالحياة اليومية للتونسي. فهذا النوع الفني دائم الحضور في المناسبات الدينية والاجتماعية للعائلات التونسية، في الأعراس وحفلات الختان وتوديع الحاج واستقباله.
كذلك تميزت الأغاني الشعبية التي كان يؤديها اليهود في تونس بالتحرر من المحرمات والتابوهات، التي كانت سائدة آنذاك في ما يتعلق بالتغزل بالنساء. وقد وصل الأمر في بعض الأغاني إلى الغزل الإباحي الصريح. والطريف أن هذا النوع كان يلقى رواجاً لدى المتلقي التونسي وما زال. في هذا السياق التاريخي والثقافي برزت أصوات يهودية تونسية أهمها:
الشيخ العفريت
يعتبر الشيخ العفريت أشهر فنان يهودي في تونس، اسمه الحقيقي أيسران إسرائيل روزيو. ولد عام 1897 في تونس وفيها توفي عام 1939. تعود أصول والده إلى المغرب الأقصى، أما والدته فهي من أصول ليبية وعنها ورث موهبة الغناء. عرف بأداء الأغاني الشعبية في حفلات الزواج والختان، وتميز بصوته الجميل وأغانيه الغزلية، وبرع في المقامات التونسية.
كانت والدته تشارك في إحياء الحفلات العامة ومنها تعلم الغناء، ثم كون فرقة موسيقية من أبناء طائفته، وسجل العشرات من الأغاني التي كان يكتب معظمها بنفسه. وبعد الانتشار المحلي سافر إلى العاصمة الفرنسية باريس، وشارك في العديد من الحفلات، وبدأ يحقق الشهرة في أوساط الجاليتين التونسية واليهودية، وهناك التقى الفنان المصري اليهودي، زكي مراد، والد الفنانة ليلى مراد، وحصل بينهما تعاون فني. لكن المرض لم يمهل الشيخ العفريت طويلاً، فتوفي متأثراً بداء السل وهو لم يتجاوز الـ42 من العمر.
حبيبة مسيكه
تعدّ حبيبة مسيكه الفنانة اليهودية التونسية الوحيدة التي حققت، إلى نجاحها المحلي، نجاحاً عربياً لافتاً. فقد تنوعت مواهبها بين الغناء والرقص والتمثيل المسرحي. اسمها الحقيقي "مارغريت". ولدت في بلدة تستور التي يسكنها الموريسكيون، الذين قدموا من الأندلس بعد طردهم منها. ثم انتقلت إلى العاصمة برفقة خالتها، التي أشرفت على تعليمها العزف على البيانو والغناء.
وانتسبت لاحقاً إلى مدرسة "العهد الإسرائيلية"، ثم خاضت تجارب مسرحية عدة مع فرقة المستقبل التي أشرف عليها التونسي محمود بورقيبة، ومع فرقة المسرحي العربي جورج أبيض. وقد مثلت في مسرحية "روميو وجوليات" ثم في مسرحية "شهداء الحرية" عام 1928، ورفعت خلالها علم الاستقلال، الأمر الذي أدى إلى اعتقالها من قِبل سلطات الاستعمار.
ثم تفرغت للغناء وتعاونت مع عشرات الموسيقيين العرب المشهورين، كالتونسي خميس ترنان والعراقي محمد القبانجي، وأحيت الحفلات في مصر والشام وغنت باللهجات العربية المختلفة. غير أن رحيلها المبكر في العام 1930 وضع حداً لمسيرتها الناجحة. فليلة العشرين من فبراير قرر عشيقها إيلياهو ميموني أن يقتلها حرقاً بالنار، بعد أن شيد لها قصراً ولكنه لم يجد منها إلا الصد والبعد. وفي العام 1995 قدمت المخرجة التونسية سلمى بكار فيلماً سينمائياً عنوانه "رقصة النار" يخلد حياة مسيكه.
روول جورنو
كغيره من الفنانين اليهود في تونس، بدأت موهبة روول جورنو الغنائية تبرز في الحفلات الاجتماعية، كالأعراس والختان، والحفلات الدينية، كالقداس السنوي أو في "بار متسفا"، وهو حفل ديني يقام عند بلوغ الطفل اليهودي الثالثة عشرة من العمر، أي عندما يـُعتبر مكلفاً بأداء جميع الفرائض المفروضة عليه حسب الشريعة التوراتية.
ركز جورنو في غالبية أغانياته على الثقافة المحلية التونسية، بشقيها العربي واليهودي، وتضمنت بعض أغانيه الصلاة على النبي محمد ومدح الصحابة وبعض الأولياء الصالحين المشهورين في مدينة تونس، كمحرز ابن خلف والسيدة المنوبية.
ولد جورنو في يناير 1911 في تونس وعاش فيها حتى سنة 1965، تاريخ هجرته إلى فرنسا. كان ذا ميول صهيونية وكان يسافر دورياً إلى إسرائيل لإقامة الحفلات للجالية اليهودية المغاربية هناك. وقبل وفاته في نوفمبر 2001، أوصى بأن يدفن في مدينة القدس المحتلة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين