كثيرًا ما أضبط نفسي وأنا موقف المعارضة من الموجات الـtrendy بكل أشكالها منذ أن كانت تسمى صيحات، لا لأسباب معينة، لكنني كنت أرى أنها تتسبب في استهلاك ذهني كامل يعادل العقاب البدني القاسي للمقبل عليها، مهما حاولنا وضعها في إطار تنظيمي عقلاني يمنع الانغماس الكامل بها، لذلك ابتعدت تمامًا عن التعرّض للظواهر بشكل عام حتى ولو بالملاحظة عند أوّل اقتراب فعلي منها.
كان أول اقتراب لي من إحدى الصيحات حين قررت البحث عن موبايل بسعر زهيد للغاية ويكون به "كيبورد" كاملًا لاستعماله في تسجيل ملاحظات العمل. وبعد جولة، اهتديت إلى الخيار الأنسب بمتجر يبيع الهواتف البلاك بيري؛ استغربت كثيرًا لأسعارها شبه المعدومة، وأدهشني أن يتحوّل الخيار الأولى للشباب منذ أعوام قليلة إلى بضاعة راكدة، وأخذت أتذكر ما أحدثته تلك الموجة طفرة في نشاط تبادل الرسائل النصية واستعمال الهاتف الخلوي بشكل مفرط عن طريق الخدمات المختلفة والتي كان أبرزها الـbbm، والتي بلا شك أحدثت تطورًا في فكرة العلاقات الإنسانية بين الشباب، خاصة العاطفية، وأدّت إلى تحوّل كامل في منظومة التواصل خاصة وسط الشباب العربي والمصري تحديدًا، الهستيريا تجاه ظاهرة البلاك بيري لم تكن طبيعية وكذلك الإنهيار التام للشركة وذلك المنتج.
وتذكرت بعد ذلك سريعًا التفسير الذي قرأته في أحد المواقع الاقتصادية والذي أرجع ذلك إلى كون البلاك بيري منتجًا معلومًا مدة صلاحيته قصيرة، لذلك فقد عمل المنتج على تسيير خدماته بشكل أسرع يواكب صعوده السريع لتحقيق أكبر مكسب في أقل وقت، ثم الانسحاب التام من الساحة مع تحمل خسارة معقولة.
هذا النشاط التجاري أسس لسلوكيات جديدة فيما يتعلّق بالتعامل مع الهاتف الذكي، يمكن اعتبارها أول طريق تأسيسي لفكرة إدمان أي نشاط افتراضي جماعي تطرحه الشركات القائمة على برمجة التطبيقات والألعاب إن كان منتجًا استمراريًا أو حتى منتجًا يتعامل معه بمنطق الظاهرة.
و إلى جانب البلاك بيري، وما تركه من أثر بما حواه من تطبيقات تبادل رسائل، أتت الألعاب الشائعة بمواقع التواصل الاجتماعي والتي لا تعتمد على تقنيات متطورة فيما يتعلق بآليات التشغيل؛ مستعملة لنظام تشغيل بسيط ومؤثرات سمعية وبصرية غير مكلفة، تعتمد على فكرة البناء التراتبي أو المواظبة؛ مثال على ذلك: وُجب على لاعبي لعبة youville المرور اليومي على اللعبة لبناء أجزاء من المنزل أو أداء مهمات، أيضًا مع لعبة farmville فقد كان من الضروري حصاد المزروعات بحد أقصى كل أربعة أيام وإعادة تسميد الأرض وزراعتها من جديد وتوسيع الرقعة الزراعية للمستخدم، وكل ذلك يتطلب ساعات من اللعب المتواصل، وهي ألعاب لم تنشأ فقط على فضاء السوشيال ميديا بل لها سوابق، لكنها كانت أقل انتشارًا وتقتصر على مجال المهووسين بالألعاب الإلكترونية، كمكمل للمشهد.
التطبيقات والألعاب المتلاحقة بعد ذلك ومنها ألعاب الأندرويد والآبل الحديثة الأكثر انتشارًا كانت مقدمة تأسيسية منطقية لتفسير الإقبال الهائل على ألعاب الهاتف الخلوي الحالية الإلكترونية والتي تجمع بين خاصية اللعب الجماعي والتواصل عن طريق الرسائل النصية داخلها أو المكالمات كـpubg، والتي أصبحت شبه طقس يومي للعديد من الفئات خاصة الشباب واقتحمت خصوصية جلسات جماعية كجلسات الشباب في المقاهي والاجتماعات العائلية، ووصل الأمر بالبعض إلى قضاء اليوم كاملًا في لعبها دون توقف.
هذا النشاط أدى إلى تضاعف مبيعات الشركة المصممة للعبة التي كانت تقتصر على جمهور المهتمين بتلك النوعية من الألعاب والخروج بمكاسب هائلة تزداد يوميًا مع الازدياد المطرد في الإقبال على اللعبة.
وما يعنينا هنا هو جمهور المستهلكين، بكونه المحرّك الأساسي لمكاسب تلك الشركة، هل بإمكانه استغلال المجهود الذهني المبذول في تلك الألعاب والوقت الكبير المهدور في ممارستها أن يقدّم منتجًا يستطيع به تسيير حركة تبادل تنشىء سوق تبادل داخليًا يمكن من خلاله التربح عن طريق بيع حساباته الخاصة باللعبة؟ هل فرضية وجود مثل ذلك قابلة للتحقيق، ثم بعد ذلك النمو؟ أم يمكن الجزم بأن مثل تلك النشاطات مهما حال بعض المهووسين من مدمني الألعاب الافتراضية تأسيسها فإن مصيرها الفشل الحقيقة الأقرب والأوضح هي الاحتمالية الأكبر لفشل مثل تلك الحركات التبادلية الهادفة للربح لعدة أسباب تتعلق بتقنية تلك الألعاب، والتي سأوضحها في الفقرات التالية.
في البداية ليست تلك هي المرة الأولى التي تثار فيها تلك الفرضية في نطاق تفكيري، فقد أثارتني في بداية الأمر مع متابعة نشاط مجموعة كبيرة من المحيطين من رواد الألعاب الإلكترونية على منصات البلاي ستيشن والإكسبوكس، فهم يقبلون بشكل كبير على تلك الألعاب، وهذا ما تؤكده مكاسب حفلات إطلاق الألعاب في الآونة الأخيرة والتي تصل مكاسب بيعها إلى مئات الملايين من الدولارات في ليلة الافتتاح مع معدل أرباح يعادل عائد بعض أفلام البوكس أوفيس، رغم ذلك الإقبال الشرائي، إلا أن نشاط التبادل بين الحسابات الشخصية لتلك الألعاب في مقابل مادي يقتصر على فئة شديدة الهوس هي في معظم الأحيان من الفئات المرفّهة، في نشاط لا يمكن اعتباره نشاطًا استمراريًا أو سوق تبادل قابلًا للنمو بأجل طويل. وهذا يمكن إرجاعه إلى تركيبة تلك الألعاب وآلية تعامل الجمهور معها، والتي إن حللناها، فسنجد تشابهات كبيرة بينها وبين الألعاب التي تعتمد على الربح السريع وسرعان ما تختفي مثل pubg.
تلك الألعاب التي تستهدف الربح الثابت والاستمرارية يُنفق عليها الملايين لإضافة خاصيات: راوي الأحداث story telling، الجرافيكس، الفويس أوفر، لأنها تعمل على تقديم منتج كامل للمستهلك يغريه بالشراء، كما أنها تبحث دائمًا عن طابع مشترك مع ميول الجمهور العادي كالشغف بكرة القدم، أو غريزة العنف والرغبة في تفريغها، أو الشغف بألعاب رياضية أخرى، أو الرغبة في كسر القوانين الموجودة بالمجتمع كما هو الحال في God of war و Gta، أو الميل العام للحروب بأحداثها، ولذلك فتلك الألعاب تعمل على تشكيل بيئة موازية للواقع يمكن من خلالها للمستخدم التحكم في ما يحدث أو تفريغ الكبت المصدّر من المجتمع. ومعظم تلك الألعاب تعمل بفكرة نظام المحاولة الواحدة، أي أنها تستوجب البداية من أول اللعبة في حالة الإخفاق في المرور من أحد المستويات إلى مستوى آخر أو الفشل في بلوغ الهدف المنشود.
ما يجعل تلك الألعاب لا تقع في نطاق سوق تبادل جاد، هو أن معظم المقبلين عليها هم من غير المهووسين وهم من خلالها يسعون إلى تفريغ كبت أو الراحة أو قضاء وقت سعيد مع العائلة أو الأصدقاء، فألعاب كـ fifa أو ألعاب رياضية أخرى ممكن أن تحل محل الألعاب الجماعية التقليدية اليدوية كالورق والطاولة بنفس الأجواء المرحة ونفس روح المشاركة، أيضًا الكثير منها لا يستوجب مدة كبيرة للمواظبة فقط يمكن التعرّف على القواعد العامة والممارسة لمدة وجيزة لا تحتاج إلى الوصول إلى مرحلة الهوس السلوكي.
التطبيقات والألعاب المتلاحقة بعد ذلك كانت مقدمة تأسيسية منطقية لتفسير الإقبال الهائل على ألعاب الهاتف الخلوي الحالية الإلكترونية والتي تجمع بين خاصية اللعب الجماعي والتواصل عن طريق الرسائل النصية داخلها أو المكالمات.
تبحث هذه الألعاب دائمًا عن طابع مشترك مع ميول الجمهور العادي كالشغف بكرة القدم، أو غريزة العنف والرغبة في تفريغها، أو الشغف بألعاب رياضية أخرى، أو الرغبة في كسر القوانين الموجودة بالمجتمع.
لعبة pubg؛ وهي المثال المتخذ في المقال، نجدها تتخذ القضاء على المنافس المواجه غرضًا أساسيًا لها مستعملة في ذلك كل الطرق العنيفة الممكنة للوصول للغرض.
وفي الوطن العربي ساهم بانتشارها تخوّف العديد من الأجهزة المسؤولة من تأثيرها على المجتمع وفئة الشباب خاصة، الذي زوّد الإقبال على تلك اللعبة لاكتشاف سر القلق منها، والذي يتحوّل بعد ذلك إلى ممارسة متواصلة.
تشبه الألعاب الرائجة حاليًا، والتي يستهدف صانعوها الربح السريع ويتوقع لها العديد من المهتمين الموت سريعاً كـpubg -وهو بالمناسبة سبب من أسباب عدم رواج سوق تبادلي لها- الألعاب ذات النمط الاستمراري في سمة تفريغ الكبت، فلعبة pubg؛ وهي المثال المتخذ في المقال، نجدها تتخذ القضاء على المنافس المواجه غرضًا أساسيًا لها مستعملة في ذلك كل الطرق العنيفة الممكنة للوصول للغرض، لكنها تختلف في كونها لعبة بسيطة، لا تتطلب الكثير من الإمكانات لتشغيلها ويمكن تحميلها على معظم الهواتف الذكية، لا تستهدف توفير منتج كامل للمستهلك أكثر من توفير بيئة عامة تستوعب ميوله العنيفة في نشاط جماعي لا تغيب عنه صفة الجماعية، يمكن فيه لمختلف الأعمار المشاركة.
اكتسبت انتشارها عن طريق الدعايات المختلفة، والتي كان أغلبها مجانية عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، إن كان عن طريق الـmemes أو الفيديوهات والصور الشخصية التي يضعها أشخاص تسجيلًا لإنجازاتهم بها، ومن خلال ذلك الانتشار استطاعت تحقيق أرباح عن طريق الإعلانات وعن طريق توفير مميزات تكميلية items غير مجانية تساهم في تميز اللاعب.
لم تنتشر تلك اللعبة أيضَا إلّا كنشاط جماعي أشبه بالعدوى المنتقلة من فرد إلى آخر، حتى على مستوى الممارسة، فإن أغلب الإقبال عليها يأتي في فئة الفرق الجماعية التي تدخل فيها فرق مختلفة متعددة الأفراد في منافسات بعضها مع بعض. لا تتطلب مكانًا معينًا، فوجودها على الهاتف الخلوي وممارستها التي لا تحتاج إلا لتركيز ذهني معقول.
وفي الوطن العربي ساهم بانتشارها تخوّف العديد من الأجهزة المسؤولة من تأثيرها على المجتمع وفئة الشباب خاصة، الذي زوّد الإقبال على تلك اللعبة لاكتشاف سر القلق منها، والذي يتحوّل بعد ذلك إلى ممارسة متواصلة.
أدّت عوامل الانتشار تلك إلى أن يكون نشاط الممارسين لتلك اللعبة، رغم ضحامته وكثافته وما يقضى فيه من وقت ويبذل فيه كجهود ذهني، هو نشاط عشوائي لا يمكن الوصول إلى صيغة إنتاج منه، بل هو عبارة عن دائرة مفرغة من التسلية التي لا نهاية لها، وهو الذي يجعل الوصول إلى غاية أو هدف أو مركز من تلك اللعبة هو هدف مقتصر على المهووسين الأصليين بتلك اللعبة (قبل موجة انتشارها)، يضاف إليها مجموعة أخرى ممن أصابهم الحظ لمعرفة تلك اللعبة، أما الباقي فهم يمارسون نشاطًا عاديًا.
إن تلك الألعاب وما تمثّله من ظواهر هي أكبر تجسيد لما وصلت إليه التكنولوجيا وتقنيات التواصل الحديثة من تكريس لإمكانات بسيطة منخفضة التكاليف في سبيل الربح من إدخال أكبر قطاع من المستخدمين في دوائر مفرغة متجددة لا يمكنهم الخروج منها، تقوم باستهلاك كل طاقاتهم المفترض إعادة شحنها في فترات الراحة، والعمل أيضًا على زيادة الهوس بحيث يزيد نطاق الفراغ الموضوع للتسلية على حساب الإنتاج.
والإقبال على ذلك النشاط بشكل مستمر دون وجود احتمالية إنتاجية تعود على الفرد بالنفع هو مثار تساؤل مهم، خاصة فيما يتعلّق بالسلوكيات الاجتماعية والنفسية للأفراد ومدى خضوعهم لتلك التقنيات والتطبيقات، هل نحن على مشارف الوصول لمرحلة يخضع فيها العقل بشكل كامل إلى وسائل ترفيه خالية من المضمون بكل أشكاله؟
المؤشرات كلها تثبت أننا في اتجاه عصر أكثر تفاهة يصوّر ارتباكات تطور عقل ما بعد الحداثة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...