أدت أحداث القرن الماضي إلى سيادة مفاهيم ومقولات خاطئة كثيرة، انتشرت بين الناس ولا تزال عالقة في أذهانهم، وبات من الضروري وضعها على طاولة الفحص والمعاينة الموضوعية، بعيداً عن الأدلجة وقولبة الأمور.
ولعل أبرز وأخطر هذه المفاهيم مفهوم "الثورات"، إذ أطلقت صفة الثورات على الانقلابات العسكرية التي جرت في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي في مصر وسوريا والعراق ودول أخرى، رغم أنها كانت في أغلبها مجرّد انقلابات لفئات نخبوية عسكرية محدودة لم تأتِ في معظم الحالات لتجري تغييراً جذرياً أو شبه جذري للمجتمعات العربية.
سمّى منظّر أفكار حزب البعث ميشيل عفلق "ثورة 8 شباط (فبراير) 1963"، أي انقلاب البعثيين الدموي في العراق على حكم عبد الكريم قاسم وإسقاطه، "عروس الثورات" واعتبرها بداية للتاريخ العربي الحديث، رغم أن نائب رئيس الوزراء بعد الانقلاب، وأمين سر القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي علي صالح السعدي قال: "لقد جئنا إلى الحكم بقطار أمريكي"، في قول يدعم فكرة أن الأمريكيين تدخلوا ضد قاسم الذي كان يطالب بزيادة إيرادات العراق من إنتاجه للنفط.
عام 1963 أيضاً، وفي الثامن من مارس منه، وقع انقلاب بعثي آخر في سوريا ضد الرئيس ناظم القدسي وحكومة خالد العظم المنتخبة، وخططت له اللجنة العسكرية لحزب البعث لا قيادته المدنية، إلا أن ميشيل عفلق، زعيم الحزب، وافق عليه.
كان نجوم ذلك الانقلاب أعضاء اللجنة العسكرية محمد عمران، صلاح جديد، حافظ الأسد، وحصلوا على تأييد ناصرييْن وهما راشد القطيني، ومحمد الصوفي، بالإضافة إلى عضو مستقل هو زياد الحريري.
يقول منيف الرزاز، وهو قيادي بعثي قديم وكبير وشغل منصب أمين عام حزب البعث بين عامي 1965 و1966، في كتابه "التجربة المرة" إن حركة 8 مارس 1963 "كانت حركة عسكرية محض، هيأ لها ونفّذها عسكريون متحالفون، بينهم بعثيون وناصريون وضباط قوميون غير ملتزمين بتنظيم".
كتب الرزار نقده المذكور بعد انقلاب 23 فبراير 1966 في سوريا، حين عزلت اللجنة العسكرية لحزب البعث وقيادته القطرية أعضاء القيادة القومية الحاكمة للحزب، في تحرّك قاده صلاح جديد، وأفضى إلى الابتعاد عن التقارب مع العراق والتقرّب من الرئيس المصري جمال عبد الناصر.
وبعد الانقلاب المذكور، فرّ الرزاز، بجانب ميشيل عفلق وصلاح البيطار، من سوريا.
ويعتبر الرزاز في كتابه المذكور أن "حركة 23 شباط (فبراير) 1966 في سوريا نتيجة طبيعية لكل أخطاء الحزب السابقة، والثور الأبيض أُكل يوم 8 آذار (مارس) 1963 يوم رضي الحزب بأن يحالف حركة عسكرية غير تابعة له تنظيمياً ولا عقائدياً، من دون أن يستلم بالمقابل شيئاً أو يعرف أين يقف هو من هذه الحركة، وأين تقف منه".
الثورات "المزيّفة"
قبل هذين الانقلابين، كان قد وقع انقلاب يوليو 1952 في مصر، بقيادة جمال عبد الناصر ومجموعة من الضباط الذين سمّيوا بـ"الأحرار"، على الحكم الملكي، في حدث شاع الحديث عنه تحت مسمّى "ثورة 23 يوليو"، تلك "الثورة" التي حلّت الأحزاب وأوقفت العمل بدستور 1923. [caption id="attachment_180473" align="alignnone" width="700"] قادة ثورة 1952 محمد نجيب وجمال عبد الناصر[/caption] معظم الكتابات أطلقت تعبير الثورة على هذا الانقلاب العسكري، وقليل منها فقط استخدم تعبير الانقلاب. ووقف البعض في موقف وسط مثل المفكر السيد يسين الذي قال: "نقرر بكل وضوح أن ثورة 23 يوليو 1952 كانت في بدايتها انقلاباً عسكرياً قام به الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر ثم تحوّل إلى ثورة بحكم تبني الثوار لمشروع العدالة الاجتماعية الذي وضعته القوى الوطنية المصرية في الفترة من عام 1950 حتى عام 1952 ومن هنا تحوّلت إلى ثورة شعبية". أما الكاتب محمد جلال كشك، فاعتبر في كتابه "ثورة يوليو الأمريكية" أن هناك حقيقة ربما تغيب عن الكثيرين وهي أنه كانت هناك ثورة مصرية تغلي تحت التراب ما استوجب إجهاضها بثورة مضادة فكان انقلاب يوليو. وتحدّث كشك عن اتصالات بين الضباط الأحرار والأمريكيين قبل الثورة، معتبراً أن انقلاب يوليو "لم يكن، في بدايته على الأقل، أكثر من واحد من عشرات الانقلابات العسكرية التي نفّذتها المخابرات الأمريكية في شتى أنحاء العالم الثالث".أدت أحداث القرن الماضي إلى سيادة مفاهيم ومقولات خاطئة كثيرة، ولعل أبرزها وأخطرها مفهوم "الثورات"، إذ أطلقت صفة الثورات على الانقلابات العسكرية التي جرت في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي
أثّرت الانقلابات العسكرية التي سُميت زيفاً وبهتاناً بالثورات في الوعي العربي وغيّبت الشعوب عن المشاركة في القرار السياسي وهمّشتها، وتراكم القمع والاستبداد والقهر الاجتماعي والفساد، وهذا ما خرجت ضده الجماهير في الربيع العربيوحديثاً، كثر مَن يصفون ثورة يوليو بأنها انقلاب. يقول رئيس حزب غد الثورة المعارض والمرشح السابق للرئاسة المصرية أيمن نور إنه "ليس من الحياد والموضوعية ألا نسمي الأشياء بمسمياتها: 23 يوليو انقلاب...". من جهة أخرى، يعتبر الروائي علاء الأسواني أن "23 يوليو 1952 انقلاب عسكري تحوّل إلى ثورة لما دعمه الشعب. حققت إنجازات كبيرة وأنشأت ديكتاتورية رهيبة. تبخرت الإنجازات وبقيت لنا الديكتاتورية".
التباس مفاهيمي
يعتبر الكاتب حسن عباس أنه "تاريخياً، كانت علاقة العرب بفكرتي الثورة والتغيير ملتبسة. كل ما سمّاه العرب ثورات كان مجرّد انقلابات عسكرية نفذّتها مجموعات ضبّاط عسكريين". هناك التباس مفاهيمي واضح وجلي في تحديد طبيعة الحركات الانقلابية التي ظهرت في القرن الماضي. ويحصل هذا الالتباس نتيجة غياب الدقة المصطلحية في تحديد ما جرى. والمفارقة أن الانقلابات تحوّلت إلى ثورات في عرف العسكر ومَن ولاهم ومَن تبعهم من القوم ومن ذوي المصلحة الخاصة والضيقة، دون أي اعتبار للشعب ومدى تضرره من وراء إطلاق هذا المفهوم على حركات لم تكن عسكرية وحسب وإنما قمعية واستبدادية. وتتالت الانقلابات وكان كل انقلاب يسقط الحاكم السابق الذي أتى هو نفسه بانقلاب، وتكرر هذا السيناريو بشكل فاقع في العراق وسوريا، إلى أن ثبّت نظاما صدام حسين وحافظ الأسد نفسيهما وأسسا دكتاتوريتين أفسدتا السياسة والثقافة وكل مقومات الحياة المدنية في كلا البلدين. وقد أدى توارثنا لسياسات الاستبداد إلى محاربة الثورات العربية الحقيقية عندما وقعت، إذ تحالفت القوى الإقليمية والدولية لتشويهها وإجهاضها وإفراغها من محتواها الحقيقي الذي كان يتلخص في رفع المظالم السياسية والاقتصادية والعيش بكرامة وحرية بعيداً عن السجون والقمع والمنافي والتشرد. يقول الفيلسوف الفرنسي كوندورسيه: "إن كلمة الثورة لا تنطبق إلا على الثورات التي يكون هدفها الحرية". وأسفر تداخل تحركات الجيش مع ما سمّي في تاريخ العرب بثورات إلى وضع البعض تعريفات للثورة تستبعد كل تدخّل للعسكر، ومنهم الكاتب والشاعر طريف يوسف آغا الذي يعتبر أن "الثورة هي كل محاولة لتغيير نظام الحكم تأتي من الطبقات المسحوقة من الشعب ودون مساعدة الجيش" أما الانقلاب فهو "كل محاولة لتغيير نظام الحكم تتم بواسطة الجيش". يحتاج الفكر العربي إلى إعادة صياغة عدة مفاهيم ملتبسة، لأن استمرار شيوعها إلى يومنا الراهن دون تدقيق يؤخر اليقظة العربية. أثّرت الانقلابات العسكرية التي سُميت زيفاً وبهتاناً بالثورات في الوعي العربي وغيّبت الشعوب عن المشاركة في القرار السياسي وهمّشتها، وتراكم القمع والاستبداد والقهر الاجتماعي والفساد، وهذا ما خرجت ضده الجماهير في الربيع العربي، في أول ثورات حقيقية في العصر الحديث.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...