شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
رسالةُ حُبّ

رسالةُ حُبّ

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 9 يناير 201903:22 م

لم يعد لديّ أي شيء لأخسره على الإطلاق. أنا مجرّد رقم صغير في هذا العالم اللامتناهي، كيانٌ يتحرك من دون روح، جسمٌ فارغ من المشاعر والأحاسيس، باختصار إن حالتي تشبه حالة أي شيءٍ جامدٍ في هذه الدنيا...

هذا هو الشعور الذي اجتاحني بين ليلةٍ وضحاها بعد أن إنقلبت حياتي رأساً على عقب. بلحظةٍ لم تعد الشمس تشرق بنفس الطريقة ولم يعد الليل يرخي سدوله كما كان يفعل في السابق، والسبب أن "الشجرة" لم تعد متماسكة، فقد هزّتها الرياح القوية وجعلت أوراقها تتساقط الواحدة تلو الأخرى، وهكذا أفرغتها من كل "نبض حياة".

لم تكن سنة 2018 مجرّد سنة عابرة في روزنامة حياتي، فقد كان وقعها قاسياً، أليماً ومخيّبا للآمال لي ولعائلتي، إذ أنها سلبت مني أعزّ شخصين على قلبي وعلمتني معنى أن يكون المرء "يتيماً" في هذا العالم الموحش.

تماماً كما يحصل في القصص والروايات الكلاسيكية وفي الأفلام الرومانسية التي تتناول حياة بطلين ارتشفا كأس الحب حتى الثمالة، رحلت أمي بغمضة عين فوجد أبي نفسه ممزقاً بين حبه لرفيقة دربه التي انفصلت عنه بالجسد وبيننا نحن أولاده، ثمرة هذا الحب الكبير، إلا أن مذاق الحب الأول كان الأقوى، فعلم "ركن البيت" في قرارة نفسه أن حياته على هذه الأرض قد انتهت لحظة فراق عن حبيبته وقرر بدوره الاستسلام لمشيئة الله والعبور من هذه الدنيا، بالطبع بعد أن أوصى الجميع بأولاده، فلذة كبده.

هكذا وجدت نفسي فجأةً أتخبّط في هذه الحياة وحدي من دون كتفٍ قوية لأسند عليها رأسي عندما تضيق بي الدنيا ومن دون قلبٍ حنون قادرٍ على بلسمة كل جروح الدنيا، ومنذ هذه اللحظة انخرطت في معركةٍ جديدةٍ مع نفسي، وبدأت أصارع "وحشاً ضارياً" لا مثيل له: الفراغ الداخلي.

غريبة عن ذاتي

هل سبق أن شعرتم بأنكم فقدتم هويتكم وكيانكم وشرعتم في البحث عن "ذاتكم" كإبرةٍ في كومة قش من دون أن تجدوها؟ هكذا جعلني كأس الموت أتحول إلى كائنٍ غريبٍ عن نفسه، يسير في دروب الحياة من دون أي وجهةٍ محددةٍ.

لا شك أن الغربة على مختلف أشكالها تجربة مؤلمة، ولكن بعد أن اختبرتها بكل جوارحي، أستطيع أن أقول أن الغربة عن الذات هي من أقسى أنواع الغربة على الإطلاق، فالشعور بأن جسدكم قد انفصل عنكم وروحكم لم تعد ملككم هو عذاب نفسي قد يوصل المرء إلى أن يشتهي الموت ألف مرةٍ ومرة في اليوم الواحد.

"انخرطت في معركةٍ جديدةٍ مع نفسي، وبدأت أصارع "وحشاً ضارياً" لا مثيل له: الفراغ الداخلي"

إن الغربة عن الذات تعني الانفصال عن الواقع والشعور بالوحدة القاتلة التي تنهش روحكم وأنفاسكم رغم المحاولات الحثيثة التي يبذلها الأقارب والأصدقاء في سبيل زرع ابتسامةٍ صغيرةٍ على ثغركم، ويصبح السؤال: كيف حالكم؟ من أكثر الأسئلة التي يصعب الإجابة عنها، فتكتفون بهزّ الرأس وتمتمة بعض الكلمات المبهمة التي تجهلون حقيقة معناها، ففي نهاية المطاف هل بوسع المرء الإجابة عن شيءٍ يجهله؟ وهل هناك أمر أصعب من أن تصبح ذاته هي "حقيقة مجهولة" بالنسبة إليه؟

الفوضى الداخلية

بمعزل عن شبح الموت الذي يخطف الأحباء منّا، هناك أسباب كثيرة قد تجعل المرء يشعر بالانفصال عن ذاته وبالفراغ الداخلي، لا سيّما حين يضع توقعاتٍ بعيدة المنال، يكون مصيرها الفشل، أو حين يربط سعادته بالآخرين، فعندها يصاب بخيبة أملٍ كبيرة. والإنسان بطبيعته لا يدرك قيمة الحاجة إلا عندما يفقدها: فلا يقدّر مثلاً قيمة الأصدقاء المقرّبين منه إلا حين يخسرهم، ولا يقدّر قيمة الحبيب إلا بعد أن تنتهي العلاقة العاطفية معه، فيتحّسر حينها على الأيام الجميلة التي قضاها برفقته.
أنتم في الحقيقة لا تعرفون ماذا تريدون من هذه الحياة لأنكم وبكل بساطة لم تجلسوا مع ذاتكم وتسألونها عن حاجاتها.

أما المشكلة الأكبر تكمن في مقاربة للأمور وفي إخفاق البعض في تصحيح مسارهم في الحياة، فيظن هؤلاء أن الانكباب على الشكل الخارجي كصبغ الشعر ووضع الماكياج وارتداء أجمل الملابس واتباع حميةٍ قاسيةٍ لإنقاص الوزن كلها أمور تساعدهم على الخروج من كآبتهم، إلا أنه سرعان ما يكتشفون  أنه مهما حاولوا الاعتناء بمظهرهم الخارجي فإن داخلهم غارقٌ في فوضى عارمة، وبالتالي لا بدّ من ترتيب ما في القلب عوضاً عن الاهتمام بالقشور الخارجية، خاصة في هذا العالم الذي يعلّمنا تقييم الأشياء بصورةٍ خاطئةٍ ويشعل في داخلنا فتيل الرغبة في الأمور "المادية" التي قد تغذي الحاجة المؤقتة إنما لا تغذي الروح، وعليه يصبح الشعور بالاكتفاء من "سابع المستحيلات".

فإذا كنتم تمرون بمثل هذه التجربة، وتجدون أنكم تعيشون في عزلةٍ عن أنفسكم وسط فوضى داخلية عارمة، فعندها يجب أن تعلموا أن هذا الفراغ الداخلي ما هو إلا وليد الإرتباك: أنتم في الحقيقة لا تعرفون ماذا تريدون من هذه الحياة لأنكم وبكل بساطة لم تجلسوا مع ذاتكم وتسألونها عن حاجاتها.

إشباع الفراغ الداخلي

بعدما جرّبت كل ما في هذه الدنيا من أمورٍ تعد النفس بالـ"منّ والسلوى"، أكتشفت أن هناك شيء واحد يمكنه ملء الفراغ الداخلي الذي يعصر قلبي: الحب.

لست أتحدث هنا عن العلاقات العاطفية بين البشر بل عن وجه آخر للحب، نتجاهله أحياناً وهو: حب الذات.

فقد أيقنت أن الفراغ الداخلي الذي لطالما شعرت به ناجم في الكثير من الأحيان عن جلد الذات، بمعنى آخر أدركت أننا كبشر قد نشعر بالفراغ نتيجة التخلي عن ذواتنا واللهاث وراء أمورٍ سطحيةٍ ونزواتٍ عابرةٍ تعرقل تقدمنا في الحياة.

"هناك شيء واحد يمكنه ملء الفراغ الداخلي الذي يعصر قلبي: الحب. حبّ الذات"

من هنا واستعداداً للعام الجديد، قررت التّخلي عن اللائحة الطويلة التي تتضمن الأمنيات والوعود التي أحملها من سنةٍ إلى أخرى كإتباع "ريجيم" صارم والمواظبة على ممارسة الرياضة كل يوم... وغيرها من القرارات التي سرعان ما تذهب مع الريح.

وبدلاً من إغراق نفسي بالوهم الزائف أو بالتحسّر على الأيام الجميلة التي مضت من دون أن تعود يوماً، إرتأيت أن أتّبع نهجاً حياتياً من شأنه إخراجي من محنتي وإشباع الفراغ في داخلي: Seize the moment أي عيش اللحظة الآنية من دون التفكير بالغد وبالمستقبل وهمومه التي لا تنتهي، وبهذه الطريقة أعيد إحياء ذاتي التي فقدتها بسبب خيبات الأمل والأحزان الكثيرة التي حملها العام الماضي.

فوداعاً لسنة 2018 التي كانت عنوان الغصّات والدموع والفراق الصعب وأهلاً بسنة جديدةٍ على أمل أن تحمل بصيص أملٍ لمتعبي القلوب والغارقين في جروحهم وآلامهم النفسية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image