في الخامسة من عمرها رفع والُدها السّلاح في وجهِ والدتِها مهدّداً إيّاها بالقتل، ممّا دفع بالطفلة الصغيرة آسيلي أن تقفزَ من مكانِها لتضعَ يدَها على فوهة البندقية، كي يُخفض الأب سلاحه. ومنذ تلك اللحظة الفارقة خُلق في داخلها الإحساس بضرورة التدخّل لتعديل المصير، وبمرور الوقت وسنوات النضج، لم تجِد الكاتبةُ التركية آسيلي أردوغان سوى هذه اليد لتكون عوناً لها. * * * شوارعُ مدينة إسطنبول في شهر أكتوبر منشغلة بمطرٍ غزير وغير متوقّع بالنسبة لي. عند محطّة "سلطان أحمد"، ألمح أوّل مكتبة تبدأ منها رحلة البحث عن روايات آسيلي أردوغان. في الداخل أنظر للمطر السخيّ عبرَ الزّجاج، وأطرح سؤالاً عن كتب آسيلي أردوغان. تأتي الإجابة لتنفي وجود أي كتب لصاحبة رواية "المدينة ذات العباءة القرمزية". كنت قرأت هذه الرواية منذ عدة أعوام بترجمة عربية مرتبكة، لكن من خلال متابعة حوارات الكاتبة وتجربتها الحياتية مع الاغتراب والكتابة ،سواء في تركيا أو فرنسا، ظللتُ أحسّ برغبة قوية لإعادة اكتشافها بلغة أخرى. أصرّ على مواصلة البحث. أصبح الأمر نوعاً من الإصرار للعثور على مؤلّفاتها.
في السادس عشر من شهر أغسطس عام 2016 قامت الشُرطة التركية بمداهمة صحيفة "أوزغور غوندم"، وتوقيف آسيلي، وفي اليوم التّالي تمّ احتجازها بشكلٍ كامل كونها كاتبةً معارضة، وعضواً في المجلس الاستشاري للصحيفة. وبعد ثلاثة أيام تمّ اعتقالها واحتجازها من أجل العرض على المَحكمة. ثمّ حُكِمت بالسجن.
ربّما السؤال الجائز هنا هو: ماذا يمكن لكاتبة أن تفعله لتهدّد نظاماً كي يتمّ اعتقالها بهذه الطريقة؟ جاءت آسيلي من الاغتراب نفسه، لأنّها لم تجد نفسها ضمن أي انتماء، لا لأبيها الشركسي، ولا لأمّها اليهودية، ولا لوطنِها تركيا.في البداية كان الغرض إيجاد مؤلّفات أردوغان بإحدى اللغتين الإنكليزية أو الفرنسية، لكنّ المفاجأة كانت في عدم معرفة اسم الكاتبة وعدم الاحتفاظ بكتبها حتى باللغة التركية. أسأل عن أسماء الكُتاب الأتراك الموجودة مؤلّفاتهم باللغة الإنكليزية، تأتي الإجابة مستنسخة في جميع المكتبات لتشير نحو اسمين فقط، هما: أورهان باموق، وأليف شفق. "لا أحد آخر؟" أسأل. فأتلقّى إجابة لامبالية، تؤكّد أن لا أحد. في معرضٍ للأشياء التقليدية التركية والمنسوجات والمنحوتات والتحف والأنتيكات في "ميدان تقسيم"، وأمام بائعة كتبٍ مستعملة، أعاود السؤال عن روايات أسيلي أردوغان. تخبرني البائعةُ المثقفة بوجودِ كتبِ آسيلي، لكن بالتركية فقط. أشعر بنوعٍ من التفاؤل في وجود من يعرف آسيلي في بلدها. منذ ما يزيد عن عشرة أعوام، ظهر اسم آسيلي أردوغان ضمن مجموعة أسماء لكاتباتٍ تركيّات أثنى عليهنّ أورهان باموق في أحد حواراته. كان اسم أليف شفق من ضمن الأسماء أيضا. ترّدد اسم آسيلي بعد روايتها "المدينة ذات العباءة القرمزية"، التي كتبتْها عن مدينة ريو دي جينيرو، وكان من المتوقّع لها أن تشقّ طريقَها نحو العالمية، كما حصل مع مواطنتها شفق؛ لكنّ حنكة الاختيارات والظروف الحياتية المناسبة للشهرة وعوامل كثيرة أخرى لم تكن في جانب آسيلي، ولذلك ظلّ اسمُها محصوراً ضمن الأوساط الأدبية، في حين انتشر اسم أليف شفق ليعبر حدود الدوائرِ الثقافية نحو الجمهور العام، على الرغم من تعرّض شفق لتجربة مشابهة نوعاً ما، حين تمّت محاكمتها على رواية "لقيطة إسطنبول" لتناولها الإبادة الجماعية للأرمن عام 1915، لكنّ نجمة الحظّ التي حالفت أليف، لم تصل إلى طريق آسيلي. في السادس عشر من شهر أغسطس عام 2016 قامت الشُرطة التركية بمداهمة صحيفة "أوزغور غوندم"، وتوقيف آسيلي، وفي اليوم التّالي تمّ احتجازها بشكلٍ كامل كونها كاتبةً معارضة، وعضواً في المجلس الاستشاري للصحيفة. وبعد ثلاثة أيام تمّ اعتقالها واحتجازها من أجل العرض على المَحكمة. ثمّ حُكِمت بالسجن، وقضت فترة عقوبتها داخل عنبر صاخب جدّاً، حيث يكتظّ داخله ثمانون امرأة في فضاء ضيّق. ربّما السؤال الجائز هنا هو: ماذا يمكن لكاتبة أن تفعله لتهدّد نظاماً كي يتمّ اعتقالها بهذه الطريقة؟ جاءت آسيلي من الاغتراب نفسه، لأنّها لم تجد نفسها ضمن أي انتماء، لا لأبيها الشركسي، ولا لأمّها اليهودية، ولا لوطنِها تركيا الذي غادرتْه إلى فرنسا، ومنها إلى فرانكفورت؛ ولكلّ هذه الأسباب، من البديهيّ أن تجد نفسها في الكتابة، وأن تختار الانحياز لكتابتها والتشبّث برأيٍ حرّ لا يوارب في انتقاد السلطة. تُرجِمت أعمال آسيلي إلى الإنكليزية والفرنسية، وحصلت على أكثر من جائزة منها جائزة سيمون دوبفوار عام 2018، لهذه الأسباب كلّها كنت أتوقّع أن تكون معروفة أكثر في بلدها، وربّما ساورتني فكرة أن تتوفّر كُتبها بسهولة كونها تعرّضت لتجربة الاعتقال، لأن الجمهور العادي يحبّ أن يُقبل على القراءة للكاتبات بعد أن يدور لغط سياسي أو اجتماعي حولهنّ؛ لكنّ ظنّي لم يكن صائباً أبداً، فقد غادرت إسطنبول من دون العثور على أيٍّ من مؤلّفات آسيلي أردوغان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين