في أحد الأيام سأل أحد الصحفيين المنجمة الألمانية، دوروثي سولل، عن طريقتها في توضيح السعادة لطفل، فأجابت : "لا أوضح له. بل أعطيه كرة ليلعب".
وأنا كأي طفل كنت أركل الكرة لأنتشي، أركض خلفها يومًا كاملًا في فناء منزلنا وحينما أتعب مساءً، أتسمر أمام التلفاز لمشاهدة "الكابتن ماجد" الذي تحول لاحقًا إلى زيدان ورونالدينهو وكاكا ومايكل انيرامو وأسامة الدراجي.
هذان الآخران كانا بيننا، صرخنا باسميهما وبتنا ندعو كل نهاية أسبوع أن نراهما يسجلان، كل أهازيج 2008 و2009 و2010 لنادي "الترجي التونسي"، تغنت بهما وناشدتهما تحقيق الانتصار وتمزيق شبكة "الأعداء"، نعم كان خصوم الترجي أعداء بالنسبة إلينا، وأكثر من حب فريقنا، كرهنا منافسينا وتوعدناهم.
عرفت الترجي قبل أن أعرف الفرق الأخرى. ومنذ سن الخامسة والسادسة كنت أصرخ: "ترجي يا دولة"، وتعلمت أن الترجي "شيخ الأندية التونسية" و"غول أفريقيا"، وهو قلما يخسر ولا ينهار على الاطلاق، مثل أخي الأكبر تمامًا، والذي لقنني حبّ الترجي منذ الطفولة بدغمائية وتعصب وانتماء لفريق بحجم دولة وكيان عابر للأمكنة والأزمة.
لحسن الحظ، كان أصدقائي في المدرسة والمعهد، لاحقًا، من أنصار الترجي كذلك، النادي كان عقيدتنا الجامحة ومحرك تمردنا، كنا نهرب من حصص الدراسة لمشاهدة المباريات في المقهى، وفي لعبنا كنا نسعى لتقليد اختراقات الدراجي وتسديدات مايكل إنرامو. لم يكن رقم 14 غير ذي معنى حتى ارتداه مايكل إنرامو، ليحوّله إلى تميمة في ظهور الصبيان الذين سعوا إلى أن ينادوا في الملاعب باسمه.
قميص الترجي الأصفر والأحمر بات رمزنا ووثيقة هُويّتنا في الحي، ولا رابطة في الشارع أقوى من رابطة "ولاد الجمعية" الذين يذود بعضهم عن بعض في معارك الشوارع والمناوشات الدموية في الأحياء الخلفية.
الخسارة كانت ممنوعة لدينا، لأنها لا تعني الإخفاق بل الإذلال والعار، والمتسبب فيها يدفع الثمن شتمًا وسبابًا، فكان حمدي القصراوي - حارس الترجي- بطلًا في الانتصارات ومنبوذًا مشتومًا في الهزائم والعثرات، كان يتلقى اللعنات والبصقات ولو وصلت إليه أيادي الغاضبين لنتشته.
مشاهدة المباريات كانت عبارة عن "صلاة وثنية" كما يصفها إدواردو غاليانو، فهي حالة من الهستيريا لمتعصبين مجانين ينتفض الواحد منهم مع كل حركة، يشتم، يلعن، يضرب على الطاولة وقد يحطم أي شيء يصادفه في تلك الفورة من الغضب، ولكنه يحدث أن يمتدح بكل عشق وحب، ويصلي حينها للرب إذا ما صعد الفريق إلى النهائي.
كنت مندفعًا جدًا حينها، وكان هدفي أن أصعد مع الشباب الأكبر مني إلى الإستاد الذي يبعد حوالي سبعين كيلومترًا، ولكنني فشلت في ذلك. إذ عجزت عن جمع ثمن التذكرة ونصيبي في السيارة المستأجرة، أكثر من مرة.
أصدقائي الذين يشاهدون الترجي في المدرجات يحدثونني عن "ملحمة، الفوضى والغضب، والنقمة على المنافسين، كانت المدرجات براكين هائجة لساعة ونصف" ومع كل هدف كانت تطير الحمم في الفضاء لتمتد صرخات الجماهير كيلومترات خارج الاستاد فيما تُقلب الطاولات في المقاهي.
في هذه المقاهي لا مجال للتسامح مع مشجعي الخصم، فهم "أعداء يجب قطع ألسنتهم"! الخصم عدو مترصد يجب التهامه قبل أن يلتهمنا، ولا مجال ل أن نسمح له بالاحتفال بهدف فريقه أمامنا أو التصفيق للقطة فنية مبهرة، عندها لا يمكن أن يتماسك المتعصبون عن تحويل المقهى إلى ساحة نزال.
شيئًا فشيئًا بت أرى هذا العنف يتزايد كل يوم، أذكر كيف أمسك أربعة مشجعين بفتى يلبس قميص فريق منافس وأوسعوه ضربًا، وكيف ذهب صديقي مرة للاستاد وعاد بجروح وغرز في رأسه بسبب شجار عنيف نشب بين مجموعات الألتراس. كان صديقي هذا منتميًا لإحدى مجموعات الألتراس الأكثر شغبًا وعنفًا، كان يعقد اجتماعاته معهم دون علم والديه، بسبب أن المجموعة كانت تضم أفرادًا مشبوهين ومنبوذين في مدينتنا.
في بداية الأمر، مثل الدخول إلى هذه المجموعات كانت مغامرة بالنسبة لي خصوصًا قبل الثورة، نظرًا لحرية التعبير التي كانت لديهم وخطاب الحماسة والتحدي الذي يروجونه، حتى عنفهم تجاه "السيستام" كنت أراه شرعيًا بل رسالة واضحة للتعبير عنا كشباب يتوق للثورة.
تتكوّن مجموعات الألتراس من أكثر الشباب تهميشًا وأشدهم نقمة على الأوضاع والبلاد.. كان النادي بالنسبة إليهم المرجعية الأولى ورمز الهويّة الجماعية والرابطة الاجتماعيّة، وهنا لا أتحدث عن الترجي فقط بل عن جميع الأندية الكبرى في تونس.
قبل اندلاع الثورة ببضعة أيام، توفي أخي الأكبر العاشق للترجي في حادث مرور، كانت ليلة قاتمة، وقد تطرف الألم في تعذيبي، انزويت لأيام، لأعود بعد أشهر شخصًا جديدًا.. بت أشعر بحمل ثقيل وحسبت أن لا شيء يربطني بهذا العالم، زهدت في علاقاتي وشغفي وحتى أحلامي.. وتمرست على أن أكون جادًا وموضوعيًا حيال كل ما حولي، حتى بانت لي التناقضات مفضوحة ومستفزة.
في عامنا ذلك، أصبح لدي حاسوبي الشخصي، فبت أقضي معظم وقتي على الإنترنت وهو ما عزز من وحدتي، ففي عزلتي تلك، قضيت معظم وقتي في اكتشاف رابطات المشجعين في إسبانيا وألمانيا وبحثت عن ترجمات لأهازيج الفرق الكبرى هناك، وبدأت أتابع تحليلات معمقة للمباريات، لا تبث على القنوات العربية.
تجاوزت علاقتي الكرة الأوروبية المساحة الخضراء حيث تدور الكرة، واكتشفت كيف تكون كرة القدم خارج الميدان قبل المباراة وبعدها، من "تيفوات" بروسيا دورتموند إلى ليالي "الشامبونيز ليغ" الاوركسترالية في عواصم إيطاليا وإسبانيا وألمانيا.
إزاء كل هذا المجد الأوروبي الذي سيطر على كرة القدم العالمية، بعد أن بات يتحكّم فيها، وحولها إلى صناعة تتطلب الحرفية والالتزام وزخم الحضور الجماهيري، بدا كل شيء في ملاعبنا قبيحًا ومشوهًا، وما كنت أخاله رسالة مُحي في خضم مشاهد العنف والحجارة والقوارير، التي أججتها "جهوية" مقيتة وعنصرية بغيظة.
رأيت أن مبارياتنا ليست إلّا شغب صبيان، إذ لم تكن الكرة تنساب أو تتأرجح، ولم تكن ترسم أي تسلية، كانت تعاني من الركل والضرب، تتحرك ساخطة، مدفوعة دفعًا، و لو تكلمت ستلعننا بلا شك.
شيئًا فشيئًا بت أرى هذا العنف يتزايد كل يوم، أذكر كيف أمسك أربعة مشجعين بفتى يلبس قميص فريق منافس وأوسعوه ضربًا، وكيف ذهب صديقي مرة للاستاد وعاد بجروح وغرز في رأسه بسبب شجار عنيف نشب بين مجموعات الألتراس.
في بداية الأمر، مثل الدخول إلى هذه المجموعات كانت مغامرة بالنسبة لي خصوصًا قبل الثورة، نظرًا لحرية التعبير التي كانت لديهم وخطاب الحماسة والتحدي الذي يروجونه، حتى عنفهم تجاه "السيستام" كنت أراه شرعيًا بل رسالة واضحة للتعبير عنا كشباب يتوق للثورة.
رأيت أن مبارياتنا ليست إلّا شغب صبيان، إذ لم تكن الكرة تنساب أو تتأرجح، ولم تكن ترسم أي تسلية، كانت تعاني من الركل والضرب، تتحرك ساخطة، مدفوعة دفعًا، و لو تكلمت ستلعننا بلا شك.
في المقابل كنا نشهد في تونس انفجار موجة من الانفلات والعنف من قبل البوليس والجماهير، المدربون في البطولة التونسية ضربوا بالحجارة، ولاعبون تم الاعتداء عليهم بالركل والدفع، والمدرجات تحوّلت إلى تهديد لحياة المشجعين، وضع فرض تعقيدات أمنية متطرفة، حتى أن آخر مرة امتلأ فيها ملعب "رادس" الأهم في تونس كانت سنة 2008 في مباراة جمعت النادي الأفريقي والترجي الجرجيسي.
كان رابط الشغف يقل هنا ويكبر في الضفة الأخرى، حتى قررت أن أنفصل عن الترجي إلى الأبد وأن أعتزل متابعة كرة القدم المحلية، فقد بتنا نتحدث عن الحكام أكثر من المدربين وعن الجانب الأمني التنظيمي أكثر من التكتيكي، وعن الفساد في الجامعة والمحاباة في الأندية الكبرى أكثر من الحديث عن المواهب والأهداف.
فوضى داخل الملاعب وخارجها، وسيل من العنف والتعصب لم يعد بالإمكان وقفه، حالة لا تشبه إثارة ديربيات الغضب في أميركا اللاتينية ومستوياتها الفنية، حيث بتنا إزاء معضلة في الشكل والقيمة.
في ختام كتابه "كرة القدم بين الشمس والظل"، يذكرنا إدواردو غاليانو، بما قاله رئيس ريال مدريد في زمن دكتاتورية فرانكو: "إننا نقدم خدمة إلى الأمة.. فمهتنا أن نبقي الناس سعداء"، وما أكده نظيره في أتليتيكو مدريد، بأن "كرة القدم مناسبة لكي لا يفكر الناس بأشياء خطيرة".
ولكن يتضح اليوم في تونس أن كرة القدم ما عادت تضطلع بتلك الوظيفة، طالما يتوجه المشجعون إلى الاستادات حاملين نقمة ذكريات "تعلم عوم" و"تعلم اجري"..
كل مباراة تلعب على ملعب رادس اليوم تذكّر المشجعين بصرخات عمر العبيدي الذي غرق أمام عيون رجال الأمن الذين طاردوه بالعصي حتى أوقعوه في الوادي المحاذي. وستظل عبارة "تعلم عوم" أي (تعلم اسبح) التي قالوا بها استغاثته، مدعاة للنقمة على رجال أمن الملاعب، كما عبارة "تعلم إجري" التي رافقت حادثة مطاردة رجال أمن آخرين لأحد المشجعين والانقضاض عليه بالهراوات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين