لعلّ التغيير الأكثر قوةً في تاريخ البشرية هو انتقال الانسان من "فن" المطاردة وصيد الحيوانات والأسماك إلى الزراعة وهي الممارسة التي أحدثت تغييراً كبيراً في حياة البشر وساهمت في تنظيم المجتمعات كما أنها لعبت دوراً فاعلاً في تغيير طريقة تفكير الانسان بالعالم من حوله. فقد أنتجت الثورة الزراعية فائضاً غذائياً سمحت لبعض الأعضاء في المجتمع بانتاج الطعام ولأعضاء آخرين بالتركيز على أشياءٍ آخرى، والأهم من ذلك أن هذه "النقلة النوعية" سهلت العديد من التغييرات الاجتماعية، كالتمدن والتحضر، تقسيم العمل، تشكيل الطبقات الاجتماعية على أساس توزيع الفائض الغذائي. كيف ساهمت الثورة الزراعية في تغيير طريقة تفكير البشر وترسيخ مبدأ اللامساواة بين الأفراد؟
أهم التحولات في تاريخ البشرية
تحت منحدرٍ صخري في وسط الأردن، تقع بقايا قريةٍ عمرها 10 آلاف سنة، تدعى "عين غزال"، كان سكانها يعيشون في بيوتٍ حجريةٍ ذات أسقفٍ خشبية ويدفنون موتاهم تحت طوابق منازلهم، ولكن بقدر ما كانت هذه الثقافة رائجة كان هناك شيء آخر في هذه القرية يثير فضول علماء الآثار: إذ كانت عين غزال واحدة من طليعة القرى الزراعية التي ظهرت بعد فجر الزراعة. وبحسب صحيفة "نيويورك تايمز"، فإن بعض القرى والمواقع الجغرافية مثل "عين غزال" تقدم لمحةً عن واحد من أهم التحولات في تاريخ البشرية: اللحظة التي استأنس فيها الناس النباتات والحيوانات، وعرفوا الاستقرار وقاموا بتشكيل مجتمعٍ شبيه بما نعيشه اليوم.إن الثورة الزراعية تركت المزارعين يعيشون حياة أكثر صعوبةً وأقل إشباعاً من أولئك الذين يصطادون ويقضون وقتهم في طرق أكثر تنوعاً وتحفيزاً وكانوا اقل عرضةً لخطر المجاعة والمرض... كانت الثورة الزراعية اكبر عملية احتيال في التاريخ
أظهرت الأبحاث الحديثة أن المجتمعات التي لديها فائض غذائي كبير تميل لأن يكون لديها مستويات أعلى من اللامساواة، هذا بالاضافة إلى أن الأدوار تصبح أكثر "جنسانية"
تمثال طيني من عين الغزال
وعليه اعتبرت الصحيفة أن الثورة الزراعية قامت بتغيير النوع البشري والكوكب وبالطبع نمط الحياة، إذ عندما بدأ البشر بتدجين النباتات والحيوانات تخلّوا عن الحياة البدوية وانطلقوا في رحلة بناء القرى والبلدات التي استمرت لآلاف السنين.
الزراعة: أسوأ القرارات البشرية؟
شكل ظهور فجر الزراعة لحظةً فاصلة للجنس البشري، ولكنه ربما كان أكبر خطأ اقترفه البشر. ترجح صحيفة "نيويورك تايمز" أن تكون الزراعة قد انطلقت من الهلال الخصيب، أي المنطقة التي كانت تضم العراق، سوريا، لبنان، فلسطين والأردن، ويشير العديد من العلماء إلى أن البشر تحولوا إلى الزراعة تحت الضغط، إلا أن "اللعب بالموارد" ليس ما يقوم به الناس في أوقات اليأس، وفق ما أكدته عالمة الأبحاث "د.ميليندا زيدر"، مشيرةً إلى أن الزراعة جاءت مع التغييرات المناخية. وبالرغم من رفوف اللحم وأجنحة السلع المعلبة في المتاجر والخس في سوق المزارعين، فإن بعض الباحثين يؤكدون أن قرار الزرع كان من أسوأ القرارات التي اتخذتها البشرية على الاطلاق، لأنه عن طريق الصيد كان الانسان يتمتع بنظامٍ غذائي متنوع يتطلب القليل من الجهد والعمل مقارنةً مع الزراعة.ولكن عندما حدثت الثورة الزراعية، فإن اكتظاظ البشر والحيوانات الأليفة والتحول إلى نظامٍ غذائي قائم على الحبوب، هذه كلها أمور أحدثت مجموعة متنوعة من المشاكل الصحية، إذ من خلال فحص الهياكل العظمية للمزارعين والصيادين، تبيّن أن عظام المزارعين أظهرت علامات أكبر للأمراض كما اتضح أن هؤلاء كانوا يعيشون حياة أقصر من حياة الصيادين. وفي كتابه (Sapiens: A Brief History of Humankind (2015 اعتبر يوفال نوا هاراري أن الزراعة كانت أكبر عملية احتيال في التاريخ، إذ قال:" بدلاً من التبشير بعصرٍ جديدٍ من الحياة السهلة، فإن الثورة الزراعية تركت المزارعين يعيشون حياة أكثر صعوبةً وأقل إشباعاً من أولئك الذين يصطادون ويقضون وقتهم في طرق أكثر تنوعاً وتحفيزاً وكانوا اقل عرضةً لخطر المجاعة والمرض... كانت الثورة الزراعية اكبر عملية احتيال في التاريخ". في المقابل ردّ موقع big think على الأقاويل التي تشير إلى أن الثورة الزراعية كانت قراراً سيئاً بالقول أن هذا "أمرٌ سخيف"، لا سيما أن المجتمع الحديث أصبح حلماً ممكناً بفضل هذه الثورة، كما أن بعض الباحثين سارعوا إلى دعم هذه الفكرة والقول بأن أسلوب الحياة بين الصيادين كان عنيفاً للغاية.
تكريس مبدأ المساواة في مجتمعات الصيد
في الوقت الذي لا يزال فيه الباحثون يتناقشون حول مدى أهمية التحول إلى الزراعة، فإن الثورة الزراعية تطلبت منا التخلي عن شيءٍ ما لم نتمكن بعد من التعافي منه حتى اليوم: المساواة. صحيح أنه ليس بين أيدينا آلات من شأنها أن تعيدنا إلى حوالي 12000 سنة، أي إلى المرحلة التي سبقت الثورة الزراعية، إلا أن هذا لا يعني أنه ليس باستطاعتنا إقامة مقارنةٍ دقيقةٍ بين حياة الصيد وحياة الزراعة. فإذا نظرنا مثلاً إلى مجتمعات الصيد وتحديداً إلى شعب "الكونغ" في صحراء كالاهاري لوجدنا أن هناك حالة من المساواة بين الجنسين لا يتوقع المرء أن تكون موجودة ضمن قبيلة بدوية: ففي حين أن الرجل يميل إلى الصيد والمرأة إلى تجميع الأمور، فإن هذه الأدوار غالباً ما تتداخل، لأن النساء هنّ اللواتي يسيطرن على الطعام الذي يقمن بتجميعه، كما أن مسألة تربية الأطفال تكون على قدم المساواة بين الرجال والنساء. وقد أظهرت الأبحاث التي أجريت على مجتمعات الصيد الأخرى أن هناك أيضاً درجة مماثلة من المساواة بين الجنسين، خاصة أنه يتم تقاسم الموارد بالتساوي بين الرجال والنساء. أما بالنسبة إلى مفهوم الملكية فإنه يتخذ عادةً شكل الارتباط بمكانٍ أو بشيءٍ بدلاً من امتلاكه. يوضح الموقع أيضاً أنه تجري مشاركة الغذاء الذي تم اصطياده بالتساوي بين جميع أفراد القبيلة، وفي بعض الأحيان يكون القائد أو المسنّ هو المسؤول عن تقسيم وتوزيع الطعام. وبالرغم من هذه "السلطة" المعطاة له فإنه يأخذ الحصة نفسها التي يحصل عليها البقية، والمفارقة في هذه المجتمعات أن الأفراد الذين يحاولون فرض سيطرتهم أو توطيد منصبٍ قيادي يتم التهكم عليهم ونبذهم.الزراعة تطيح المساواة
إن الصفات المرتبطة بالمساواة ليست موجودة في المجتمعات الزراعية، وفي حين أن ما يميز الزراعة عن الصيد هو إنتاج الفائض الغذائي إلا أن هذا المجال متقلب، فعندما يكون الطقس غير مناسب أو تصاب النباتات بالأمراض، فإن الصيادين قد يتحولون إلى مصدرٍ غذائي آخر، إلا أن هذا الأمر لا يمكن القيام به في المجتمعات الزراعية التي تعتمد على مجموعةٍ صغيرةٍ من المحاصيل المنتجة على نطاق واسع.ولكن ما علاقة المساواة بهذه المحاصيل؟ وكيف تتم علمية تقسيم الطعام في المجتمعات الزراعية؟ أظهرت الأبحاث الحديثة أن المجتمعات التي لديها فائض غذائي كبير تميل لأن يكون لديها مستويات أعلى من اللامساواة، هذا بالاضافة إلى أن الأدوار تصبح أكثر "جنسانية"، فبشكلٍ عام يقوم الرجال بأغلبية العمل الميداني في حين أن دور النساء ينحصر بتربية الأطفال وبالعمل المنزلي، وبالتالي من دون المساهمة في الطعام وإحكام السيطرة عليه، فإن المرأة تصبح "مواطنة من الدرجة الثانية".
ونظراً لضرورة وجود شخص ما يتحكم بمسألة الفائض في الطعام، من المحتم تقسيم المجتمع إلى أدوار تدعم هذا التسلسل الهرمي، وعليه يتم توزيع الناس بين مسؤولين، خدام، كهنة وجنود، واللافت أن الجندي كان يضطلع بدورٍ مهم لأن الزراعة تعتبر غير مستدامة مقارنةً مع الصيد، كما أن دور العبد كان فعالاً لكون عملية الزراعة تتطلب مجهوداً شاقاً. ويختم الموقع بالقول أنه بالرغم من أن نوعية الحياة قد تحسنت بشكلٍ ملحوظ إلا أن معدل اللامساواة لم يشهد أي تغييراتٍ إيجابية في مجتمعاتنا، لأن الكثير من الناس لا يزالون يعيشون في ظروفٍ حياتيةٍ صعبة وقاسية بشكلٍ لا يصدق رغم مستويات الثراء التي لم يسبق لها مثيل، ولكن هل يعني هذا أنه يجب أن نقوم بما فعلناه في غالبية التاريخ البشري والعودة إلى الأدغال من خلال ترك المقتنيات المادية والعيش خارج الأرض؟ بالطبع لا ولكن هذا يؤكد أن اللامساواة ليست الحالة الطبيعية للإنسانية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...