محرجٌ جِداً ألّا تكون قادراً على تركيب جرّة الغاز الجديدة، واستخدام "المفتاح الإنكليزي" لحلّ العزقة الكبيرة، ثم شدّها والتأكّد من سلامتها، كما هو محرج ألّا تكون قادراً على إصلاح فيش كهربائي، أو فتح مطربان قاس، أو غيرها من "المهمّات" التي من المفترض أن تكون قادراً على القيام بها بوصفك "رجُلاً"، يَمتَلكُ مهارة حلّ المشاكل، التي إن تُركت مُعلّقة، فستُهدّد رُجولتَك، أو تجعلك محطّ الازدراء، بل وقد تتهم بـ"التَأنُّث".
إدارة الرجولة: مؤسسة وهمية
المهماتْ التي يُفترض أن يكون الفرد ذو القضيب قادراً على إنجازها تندرج ضمن اختصاص مؤسسة وهميّة يحاول الرجال أن يكونوا دوماً ضمنها، وهي "إدارة الرجولة" حسب تعبير جايسون بيري، والتي نقدّم فيها طلبات انتساب كي نصبح "رجالاً"، نسعى دوماً للوصول إلى قمّتها لنتنعم بفوائدها القصوى، وما تقدّمه من تسهيلات وهيمنة على الآخرين، مهما كان لونهم أو جنسهم- من ضمنهم الرجال أيضاً-، هي الإدارة المسؤولة عن تكوّن "الأنا الرجوليّة"، بوصفها فعلاً مُستمراً ولياقة وأداء وتمريناً، لخلق فئة من الملتزمين بالدور، أو الـdefault، رجالٌ بيض من الطبقة الوسطى غالباً، الساعين للوصول إلى الواحد بالمئة التي تحتلّ قمة الإدارة. بُمجرد استخدامنا لوصف " default" نشير إلى أن هؤلاء الرجال أدنى، هم الذي لا يريدون دفع النقود للحصول على المزايا الكاملة، ويتنعّمون فقط بما هو متوفر، بصورة أدق، هم لا يبذلون المهارة الكافيّة للتمتّع بكلّ الميزات، مع ذلك يعون "طبيعيّة" دورهم، ويقتنعون كلياً به، هم مُنتِجون وعاملون ذوي مُخطّط واضح، عاطفيون أحياناً، ويبكون مرّات قليلة في حياتهم، وقد يضربون زوجاتهم أو صديقاتهم مرة أو مرتين. هذا الدور الذي تخلقه إدارة الرجولة، يفترضُ مجموعة من الحقائق العقليّة والمهارات الاجتماعيّة والمهنيّة، فعلى "الرجل" أن يبحث عن الربح، والتماسك والاستقرار، والفعاليّة المهنيّة على حساب مشاعره ومشاعر الآخرين، هو أشبه بعتلة ضمن آلة ضخمة، تحرّك عالماً صلباً. هو صياد حين يحتاج ذلك، ومقاتل بانتظار نهاية العالم، وعليه أن يدافع عمّا يمتلكه، هو واحد من قبيلة الرجال حسب جيري ساينفلد في نكتة له، يَقفُ متأملاً صديقه يفشل بتصليح سيارته، يتضامن معه ضمنياً، ويعرض عليه معارف مبتذلة أو خبرة حقيقة، هو دائماً منجذب للعمل، وجزء من أخوية الرجال في المكتب، مردّدي النكات البذيئة سرّاً بجانب برّاد المياه. هو واحد من سربِ رجالٍ خاضعين للإدارة العليا، رجال ذوي رواتب متوسطة يحلمون بأن يصبحوا مدراء في يوم ما، ويريدون دوماً سيارة أسرع، ومسجلات ذات صوت أعلى، ومهارة قتاليّة ما لإنقاذ الجميع ومنافسة الأقران المحتملين.القناع: سحر السلطة الخفيّ
إحدى تمرينات التمثيل التي يقوم بها المؤدي الذي يلعب دوراً ما، تقوم على أساس البدء من الشكل الخارجي، إذ يرتدي الممثل كلّ ثياب الشخصية ولونها وجنسها، ليُعايشها خارجياً، مُتتبعاً النصّكلمة بكلمة و ملتزماً بالتعليمات الإخراجيّة، هذا "القناع" الذي يمكن ارتدائه، يختزن حكايات وعلاقات قوة ومكانة في العالم الدراميّ. ذات الشيء نراه في "الرجولة"، التي يمكن أن يعايشها "الفرد ذو القضيب" متتبعاً تعليماتها الواضحة منذ الصغر، ليكسب القوة التي تحتويها، ويتعلّم الاختلاف عن "البنات". هذه التعليمات نراها في ألعاب "الصبيان"، حتى لو لم تكن مخصصة لهم فقط، كالدراجة، التي تمتلك خصائص تتسلل إلى لا وعيهم، فالزينة التي تحويها مثلاً مموّهة عسكرياً، تُحيل إلى وظيفة ما، لا فقط زخرفة جماليّة كالزهور والأعشاب التي تحملها دراجات "البنات"، وكأن هناك دعوة للرجال إلى حرب ما، وأول "مهارات" الاستعداد لها، تتمثل بإتقان "التخفّي".لديك الحقّ بأن تكون ضعيفاً/ لديك الحق بأن تكون حساساً/ لديك الحق بأن تكون مخطئاً /لديك الحق بأن تتبع حدسك/ لديك الحق بأن لا تعلم/ لديك الحق بأن لا تكون متأكداً/ لديك الحق بأن تكون مرناً/ لديك الحق بأن لا تشعر بالعار مما سبق
تسعى البذلة الرسميّة إلى خلق "التشابه" بين "الرجال"، في ذات الوقت تمويههم، هم مقاتلون في معركة كبرى من أجل السلطة والمالتحافظ إدارة الرجولة على سياسات التخفّي والتمويه، وتحرص على أن يتبناها الرجال، وتتجلى بعد الطفولة بالبذلات الرسميّة، التي يحتكر إثرها الرجال "جماليات الجديّة"، مستدعين قوة الدور الذكوري الذي تمنحه الإدارة وقبيلة الرجال لمرتدي البذلة، وبالرغم من النضال النسوي الهائل، ما زال هذا "الزي" خزاناً للقوة، كما نرى في ثياب أنجيلا ميراكيل وهيلاري كلينتون ومارغريت ثاتشر، والذي يسّمى power dressing، هذا "الزيّ" الذي ظهر في السبعينات إثر انخراط المرأة بشكل كبير في فضاء العمل، يمتلك خصائص رمزيّة، هو يُحافظ على "التأنيث" ويقلّل من "الإثارة"، لكنه في ذات الوقت يستدعي الإدارة السابقة وجدّيتها و قدرتها على التغيير و الإقناع. تسعى البذلة الرسميّة إلى خلق "التشابه" بين "الرجال"، في ذات الوقت تمويههم، هم مقاتلون في معركة كبرى من أجل السلطة والمال، وعمّال المكاتب في الشركات، وخدم للواحد بالمئة، أشبه بمؤدّين يتنافسون على ذات الدور، الذي يحرص على عدم تمييز بعضهم عن بعض ويمنع تلمس فردانيتهم. المثير للاهتمام أن نهضة تكنولوجيا الاتصالات، أدّت إلى ظهور فئة جديدة من "الرجال"، هم ليسوا عاديين/ default ، لكن شكلهم شديد العاديّة، لا يرتدون بذلات، ويمكن أن نصادف أشباههم في الشارع، بل ويمكن أن نرتدي ذات ثيابهم، أولئك يمتلكون قوّة حقيقية، هم رفضوا البذلة لكنهم المدراء الفعليون لواحد من فروع إدارة الذكورة، هم كمارك زوكيربيرغ و بيل غايتس وستيف جوبز، "رجال" العصر الجديد، اللذين تأتي قوتهم من مشابهتهم للجميع في الحياة اليوميّة، بل أن زوكيربيرغ أجاب حين سُئل عن سبب ارتدائه لذات الثياب دوماً، بأن ذلك يعود لرغبته باتخاذ قرارات أقلّ خارج نطاق العمل والتركيز فقط على فايسبوك، وهنا تأتي خطورة هؤلاء "الرجال" الجدد هم يستثمرون في اختلافنا وأشكال "ظهورنا"، لا يحاولون إقناعنا باستثمارات ما أو المراهنة في البورصة، يطلبون منا فقط أن نلعب، ونلتقط الصور، ونحدّد أين نحن في كل لحظة. تتقاطع "رجولة" أصحاب البذلات وأصحاب القمصان القطنيّة عند عصاميتهم، فشلهم ونجاحهم نتاج جهد شخصي، لا يدركون في الكثير من الأحيان قسوة "الدور" الذي يتورّطون فيه، والامتيازات التي يمنحهم إياها، هم يتنافسون ويسعون لإتقانه لأن الحياة "هكذا!"، ويُبرّر غضبهم وعنفهم الزائد بأنهم عاطفيون، يخفون مشاعرهم ويموّهون أشكالهم كأنهم لصوص، يجب أن يكونوا حذرين دوماً، لا يجذبون الانتباه، هم منصاعون صامتون لمخطط إدارة الرجولة القائم على المنافسة بينهم. "القوّة" التي يستدعيها الشكل الخارجي وما يترتب عليها من سلوك، ترسم بدقة حدود الدور المخصّص لكل واحد من أصحاب القضبان، وتمهّد لما هو متوقع منهم، إذ تضبط كلامهم ونكاتهم وحركاتهم وأسلوب حياتهم، وكيفيّة مراقبتهم لسلوك الآخرين من "الرجال"، فالجميع يؤدون أمام إدارة الرجولة ذات الرقابة الدائمة التي يقع الكثيرون ضحاياها، كونها لا تضبط فقط يمارسون الدور، بل تحثّ أيضاً على تعنيف الذين حادوا عن الدور أو هدّدوا حدوده، وكأن "الرجال" هؤلاء أسرى أدوارهم البراغاماتيّة التي تجعل من الرجولة اندفاعاً طبيعياً، لا ندرك أننا نؤديها، بل نمارسها بوصفها جزء منا كما جلودنا وأكبادنا، فهدف الإدارة هو جعلها "حقيقة"، في حين أنها ليست إلا فرضية أداء تفعّلها "لوّ "، التي تبدأ بسؤال متخيّل " لو كنّا رجالاً، ماذا علينا أن نفعل ؟"، ويستمر الجواب بالتكوّن، لطالما هناك "أنا" واعيّة تتشكل.
خطر "الأداء السيء"
تتبنى إدارة الرجولة مجموعة من الاستراتيجيات لإقناعنا بالدور الذكوري، ولا تكتفي بالأزياء، بل تولّد الحكايات والشائعات وتوظف الرياضة والبورنو والأفلام والمسلسلات والكثير من السياقات التي تظهر فيها "الرجولة" كأمر مسلّم به، لكن التحديق بها يكشف أنها ذات شكلّ محدّد، يتطلب جهداً لتحقيقه، فمثلاً، تضاؤل المهن المُتعبة التي تحتاج لبذل جهد العضلي، وتسهيل التكنولوجيا للـ"عمل"، أبرز مفهوم الرجولة الفائقة التي تدعمها الإدارة للحفاظ على الصورة "التقليديّة"، إذ نرى الكثيرين يلجؤون لعميلات التجميل للحصول على العضلات، كون "الحقيقة" منها تحتاج لتفان وجهد دون أن تكون نتاج "وظيفة" ما، وهنا تكمن تناقضات الجسد المذكر، فالجمالي فيه مرتبط دوماً بالوظيفة، والعضلات المنفوخة مجّاناً مكروهة ولا تعكس الرقيّ، بل تلك المتوسطة هي التي تختزن مهارة ما، مهارة بدائيّة تعكس صورة نوستالجية عن الرجل التقليدي، الذي يبني ناطحات السحاب ويعمّر الجسور ويصطاد الفريسة، فما هو جمالي بحت، قد يكون مؤنثاً أو أقل رجولة، ما يزعزع الصورة التي تروج لها إدارة الرجولة والتابعين لها، كون الثقافة الشعبيّة تروج أن ذوي العضلات الكبيرة/ الجماليّة يمتلكون أعضاء جنسية صغيرة، ما يزعزع سطوة الذكور و"قوّتهم". التهديد الدائم للأشكال التقليديّة للرجولة يتجلى في الهبستير والميترو سيكشوال وتنويعات الطيف المثلي وعابري الجنس وعابري الثياب، إذ قلّلت أشكال الظهور التي يتبنونها من وطأة الدور الذكوري، وجعلت حدوده أكثر ميوعة. وما يثير الاهتمام في هذه الأدوار العلنيّة، أن من يتبناها يُعتبر من وجهة نظر رجوليّة تقليديّة مؤدٍّ سيء للدور، كونه أدخل تعديلات لا تنتمي للدور الرسميّ، وظهوره يشكّل تهديدا شخصياً للأنا الرجولية والمسؤولين عنها، وخصوصاً أن هذه "الأدوار الجديدة" أصبحت جديّة، لا تظهر كما السابق ضمن سياق استعراضيّ، ما يهدد مهارات الصلابة والتماسك وإخفاء العواطف، وهذا مثلاً ما نراه في ردود الأفعال العنيفة والعصبيّة تجاه المتحوّلين جنسياً حينما يلعبون أدواراً جدّيّة في السينما أو التلفاز لا تتمحور حول هويتهم الجنسيّة، فهم يسخرون من الدور الرجوليّ ومهارات اكتسابه، إلى جانب فضحهم سذاجة الكثير المواقف المتحيّزة المرتبطة به.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون