الأربعاء من كل أسبوع يعني أن تذهب أمي لزيارة جدتي، أهرب أحيانًا من تلك الزيارة بحكم السفر وفي أحيان أخرى، أحب الذهاب لأني أحبّ جدتي. ما أكرهه هو اختلاف وجهات النظر والأجيال فيما بيننا، فلا تتكيّف جدتي مع اختلافي ولا أطيق أنا أن أشرح لها أن الحياة مختلفة عما عاشته وهي في جيلي.
في أحد أيام الأربعاء، قررت الذهاب لزيارتها، تنعتني جدتي بسلوم، هي الوحيدة التي تنعتني بهذا الدلع وإذ تشاجرت معي لسبب ما تناديني سلمى. أعرف كيف ستسير الأمور بمجرد أن أذهب إليها وتناديني، إذا قالت لي "سلوم"، يعني أن اليوم سيسير بلطافة شديدة مع دلع الجدات الذي لا نمل منه، أما إذا دعتني بـ "سلمى"، فهذا يعني أن اليوم سيسير بصورة غير محبّذة.
كان ذاك الأربعاء من نصيب "سلوم"، سلمت علي بشكل حار للغاية، وسألتني عن أحوالي، خطرت لي فكرة أن أطلب منها مشاهدة صورها القديمة، بلا سبب محدد دفعني لذلك، وبعدما طلبت منها، وافقت، ثم دلتني على مكان الصور، ومنذ أن أحضرتها وشاهدت أوّل صورة، بدأت معي رحلة من الخواطر المختلفة لم أكن أعي أن صور جدتي القديمة ستجلبها!
الكود الأخلاقي عبر الزمن
أفحص الصور بتمعن شديد، صور جدتي وهي شابة وصور خطبتها على جدي وصورها وهي تحمل أبي، ترتدي جدتي فساتين في أغلب الصور، كلها فساتين جميلة وتعبر عن أريحية ما في تعاملها مع جسدها، تلك الأريحية التي تنعكس عليها حتى يومنا هذا، لا تخجل هي من صورها القديمة ولا تغطيها، لا تفسر لأي أحد لماذا يظهر جيب صدرها في الصور ولماذا تنظر نظرات ثابتة غير مهزوزة. أتعجب من اختلاف الكود الأخلاقي داخل نفسي، لا اسألها عن حكمها عن امرأة ترتدي فساتين بنفس الشكل في يومنا هذا، ربما لأنني أعرفه بل حفظته أيضًا من كثرة تكراره أمامي في سن صغيرة.
قضيت فترة في طفولتي كانت "قناة الناس" هي الموسيقى التصويرية لكل شيء، كنت في التاسعة من عمري عندما بدأت القنوات الإسلامية في الظهور، وبدأت جدتي تتابع تلك القنوات أكثر من كل شيء في حياتها، لم يتوقف الموضوع عند جدتي فقط، بل عند كل ما هو حولي، تمتلئ مكتبة بيتنا بشرائط لـعمرو خالد، أتذكر ذات مرة أوقفني رجل بلحية طويلة كنت حينها أبلغ من العمر عشر سنوات؛ أتذكر الأمر كأنه حدث بالأمس لا من خمس عشرة سنة، أوقفني ذلك الرجل وأنا أسير في الشارع مع ابن عمتي الذي كان يكبرني بعام واحد، طلب منه أن يبلغ أهلي أن على التوقف عن ارتداء الفساتين لأنني كبرت.
أما أصدقائي في المدرسة فبدؤوا ينصحوني بمشاهدة مصطفى حسني، وإذا كنت أريد حياة أكثر انفتاحَا، عليّ أن أتابع معز مسعود إذن، كنت أشعر بإختلاف ما عمن حولي، لم أحب ذلك الكلام الذي صدعنا به شيوخ "قناة الناس"، ولا تعليمات عمرو خالد ولا برامج مصطفى حسني، حتى ذلك الذي كان أكثرهم انفتاحًا لم أحبه أيضًا، ظننت حينها أنني لا أحبّ كل ما هو متعلق بالدين إلا أنني عرفت بعدها أن هذه مجرد نظرة عن الدين.
لم أفهم ذلك "الكود الأخلاقي"، ولكني منذ سن صغيرة وأنا أحاول أن أضع له تعريفًا يجعلني أتعامل معه، هل هو العرف؟ أم العادات والتقاليد؟ هل هو تعاليم الدين؟ أم شكل المجتمع؟ أم مجموعة المبادئ تتفق عليها طبقة اجتماعية معينة؟ في سن صغيرة اعتقدتُ أن "الكود الأخلاقي" هو الدين، ولكن حينما كبرت تكوّنت لدي فكرة ما هي أن هذا الكود هو عبارة عن توليفة من كل ما سبق ذكره، يؤكد على تلك التوليفة كبار رجال الدين والحكومات، وإذا حاولت الخروج على ذلك الكود فعليك أن تدفع ثمن ذلك، وتوصلت أيضًا إلى ان هذا الكود غير ثابت بل يتغيّر مع الزمن.
لا أعلم لماذا تحول الكود الأخلاقي الذي يحكم ملابس النساء من فساتين تعكس جمالهن وثقتهن في جسدهن إلى تلك العباءات السوداء الكريهة، لا أعلم لماذا أيضًا أوقفني ذلك الرجل ذو اللحية في عمر صغير ليتحكّم في شكل ملابسي، ولماذا تحوّلت جدتي من المرأة التي تحب جسدها ولا تخجل منه إلى المرأة التي ترتدي الخمار وتنفر من ارتداء الفساتين.
نوستالجيا الفساتين القديمة
هل فشلنا حقًا في خلق عالم يليق بأفكارنا؟ تنهال علينا التصريحات كل فترة بتجديد الخطاب الديني بلا أي تغيير يحدث، كل ما اختلف حقًا هو سيطرة الدولة على الإسلاميين بحجة القضاء على الإرهاب، بلا أي إنتاج لخطاب مضاد يصلح ما أفسده ذلك الخطاب القديم.
الحنين إلى الماضي يكون الحل الأمثل هنا عندما يصبح الفشل هو سيد الموقف، تظهر صيحات الموضة على مواقع التواصل الاجتماعي محاكيةً لتلك القديمة في الستينات، بلا أي مراعاة للكود الأخلاقي الجديد في الشارع، ذلك الذي يمنع أي أنثى من ارتداء تلك الفساتين خوفًا من التحرش، يظهر هذا المثال كنموذج حيّ لحقيقة الأمر مقارنة بالتوقعات.
نتوقع جميعًا أن نرى تلك الفساتين في الشارع في محاولة منا لمحاربة القبح بفساتين مزركشة كلاسيكية ذات ألوان مبهجة لكن الكود الأخلاقي يحكمنا، فنشتري الفساتين ولا نلبسها أو نتحايل عليها حتى تلائم الكود الأخلاقي الحديث.
النوستالجيا هنا غير كافية، لقد نجحت فقط في إعادة إنتاج الفساتين فأصبحت تملأ الفاترينات ولم يصبح البحث عن فستان هو بالأمر الشاق الذي يتطلب الوقت الطويل للتسوق، لكن النوستالجيا نفسها لم تغير الكود الأخلاقي ولم توقف التحرش في الشوارع، نوستالجيا الفساتين القديمة تشبه إلى درجة كبيرة نوستالجيا الثورة؛ لا تغير الواقع ولكنها تشعرك بالراحة المؤقتة، فمنظر الفساتين على المانيكانات يشعرك بالبهجة مثل ذكريات الميدان الممتلئ بالمتظاهرين ولكن سرعان ما يتحول الشعور إلى غصة في الحلق إذا فكرت في الحال اليوم، لا يستطيع أحد التظاهر في الميدان ولا تستطيع فتاة أن ترتدي تلك الفساتين المعروضة بأريحية، لا بدّ أن تفكر في التحرش أو المضايقات التى ستتعرض لها.
أتذكر ذات مرة أوقفني رجل بلحية طويلة كنت حينها أبلغ من العمر عشر سنوات، أوقفني وأنا أسير في الشارع مع ابن عمتي الذي كان يكبرني بعام واحد، طلب منه أن يبلغ أهلي أن على التوقف عن ارتداء الفساتين لأنني كبرت.
لا أعلم لماذا تحوّلت جدتي من المرأة التي تحب جسدها ولا تخجل منه إلى المرأة التي ترتدي الخمار وتنفر من ارتداء الفساتين.
تنهال علينا التصريحات كل فترة بتجديد الخطاب الديني بلا أي تغيير يحدث، كل ما اختلف حقًا هو سيطرة الدولة على الإسلاميين بحجة القضاء على الإرهاب، بلا أي إنتاج لخطاب مضاد يصلح ما أفسده ذلك الخطاب القديم.
نوستالجيا الفساتين القديمة تشبه إلى درجة كبيرة نوستالجيا الثورة؛ لا تغير الواقع ولكنها تشعرك بالراحة المؤقتة، فمنظر الفساتين على المانيكانات يشعرك بالبهجة مثل ذكريات الميدان الممتلئ بالمتظاهرين ولكن سرعان ما يتحول الشعور إلى غصة في الحلق.
ضريبة الفساتين القصيرة
ماذا يحدث إذن إذا قررت أن أرتدي فستانًا قصيرًا؟ تفرض تلك اللذات الطبيعية أن أضحي، إمّا أن أركب سيارة ما حتى أصل إلى المكان المناسب أو أن أتحلى بالشجاعة للرد على من يضايقني في الشارع، هذا يعني الترتيب، فلم يصبح لبس الفساتين بالأمر العادي ولكن لا بد من الأخذ في الاعتبار المكان الذي سأذهب إليه والنقود التي معي، هل تكفي لأستأجر سيارة توصلني إلى مقصدي؟ أجرب الركوب مرة وأجرب لذة أن تتمتع ساقيّ بالهواء الطلق، يفاجأ الناس أحيانا كثيرة بشكل الفساتين في الشارع فيكتفون بالنظر فقط، هذا ما حدث معي في المرة الأولى التى قررت فيها لبس فستان قصير والمشي به في الشارع.
أصبح الآن لبس الفساتين قراراً، يختلف عن ارتداء باقي أنواع الملابس، ربما لأننا غرقنا في النوستالجيا، فأصبحنا نحنّ للثورة التي عشناها - كما أحنّ دائمًا إلى فترة الستينات وفساتين جدتي- ولم نغير في الواقع، أو ربما لأن الكود الأخلاقي الآن أصعب من قدرتنا كنساء على تغييره، ذلك الكود الذي يجعلنا نفكر ألف مرة قبل أن نرتدي فستاناً، ونحسب ألف حساب لما سوف نتلقاه في الشارع المصري أو نقرر ألا نخوضه، فنستأجر سيارة توفيرًا لطاقتنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...