شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
الاحتفالُ بليلة رأس السنة بدون كحول، مثلَ الطّعام بدون الملح!

الاحتفالُ بليلة رأس السنة بدون كحول، مثلَ الطّعام بدون الملح!

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 28 ديسمبر 201807:56 م
كان والدي يذبح ديكاً رومياً احتفالاً بليلة "يناير السنة الفلاحية" التي تتزامن مع أعياد ميلاد السيد المسيح عليه السلام، وفي بعض الأحيان يستضيف بعض أفراد العائلة. ورغم أننا كأطفالٍ لم نفضّل تناول لحم الديك الرومي، إلا أننا وجدنا في هذه المناسبة فرصة للتواصل والضحك واللعب إلى وقت متأخر من الليل. وفي أواسط السبعينيات من القرن الماضي بدأت أحتفل بالعام الجديد مع أبناء جيلي بطريقة مختلفة عن والدي؛ رغم محدودية مصروف الجيب للتلاميذ الذين يدرسون بالتعليم الثانوي، كنا نقتصد، وندّخر لاقتناء بعض زجاجات البيرة ونتناولها بحذرٍ في الحيّ ما بين فترة المساء ومطلع العام الجديد. نشرب وندخّن ونستمع لأغاني "جيل جيلالة"، و"الغيوان"، و"الحاجة الحمداوية"، و"بوب مارلي". أحيانا نذهب إلى "جيليز"؛ نتجول في شارع محمد الخامس، نستمتع بأضواء المتاجر المتلألئة، ونشعر بالحسرة، لانّنا لا نملك ما نحجز به طاولةً لتناول طعام العشاء وحلوى العام الجديد. حتى "بابا نويل" لا نعرف عنه غير طربوشه الطويل، ولحيته البيضاء، ولباسه الأحمر. البوليس يراقب حركة السّير والتجوّل في كلّ الطرقات والأرصفة. تدقّ الساعة الثانية عشرة ليلاً، فتنطفئ الأنوار لحظة، ثمّ ترتفع الأصوات من كلّ جانب. تعود الأضواء إلى البيوت والشوارع والأزقّة مع قدومِ العام الجديد.  لا يتدخّل أيّ فقيه أو داعية ليقول للنّاس بأن ما يفعلونه حرام أو مخالف للشّرع، رغم ظهور بعض الدّعاة القادمين من الشرق (جماعة الدعوة والتبليغ) في الحيّ بين الفينة والأخرى؛ يرتدون زيّاً أبيض، ويطلقون لِحاهم. كان تدخّلهم المباشر يقتصر على دعوة الشّباب إلى المسجد عندما يقترب وقت الصلاة. بعد منتصف الليل، يُعجّل انخفاض درجات الحرارة في هذا الفصل بعودتنا إلى المنازل. ولا نستيقظ إلا في وقت متأخر من صباح السنة الجديدة. لا نعثر على هدايا تحت المِخدّة كما رأينا في بعض الافلام؛ لا يزورنا "بابا نويل"، ربّما لأننا لسنا مسيحيين! نشعر بصداع في الرأس يدوم ساعة أو ساعتين، ولا يزول إلا بعد شرب كأس قهوة سوداء ممزوجة بقطراتٍ من الحامض. بعد الانتقال إلى الجامعة أصبح مرحّباً بي في مجامع مختلفة داخل العائلة وخارجها. أصبح بإمكاني توفير ثمن قنينة خمر من الويسكي (البلاك أند وايت)، وكنا نسمّيها مجازاً "القطيطة"، من السوق السوداء بثمن مناسب (حوالي 60 درهماً، وهو مبلغ يعادل أكثر من نصف مصروف الكراء الشهري لطالب جامعي في هذه الفترة). أذهب إلى بيت "إبراهيم"، خال زوج عمّتي. نشرب وندخّن ونستمتع بالموسيقى إلى درجة قد لا نتذكّر معها ما يحدث في تلك الليلة.
وفي أواسط السبعينيات من القرن الماضي بدأت أحتفل بالعام الجديد مع أبناء جيلي بطريقة مختلفة عن والدي؛ رغم محدودية مصروف الجيب للتلاميذ الذين يدرسون بالتعليم الثانوي، كنا نقتصد، وندّخر لاقتناء بعض زجاجات البيرة ونتناولها بحذرٍ في الحيّ ما بين فترة المساء ومطلع العام الجديد. نشرب وندخّن ونستمع لأغاني "جيل جيلالة"، و"الغيوان"، و"الحاجة الحمداوية"، و"بوب مارلي".
بعد منتصف الليل، يُعجّل انخفاض درجات الحرارة في هذا الفصل بعودتنا إلى المنازل. ولا نستيقظ إلا في وقت متأخر من صباح السنة الجديدة. لا نعثر على هدايا تحت المِخدّة كما رأينا في بعض الافلام؛ لا يزورنا "بابا نويل"، ربّما لأننا لسنا مسيحيين! نشعر بصداع في الرأس يدوم ساعة أو ساعتين، ولا يزول إلا بعد شرب كأس قهوة سوداء ممزوجة بقطراتٍ من الحامض.
تربّينا داخل عائلة محافظة ومتفتّحة، فعلتْ كلّ ما بوسعِها لتربية وتعليم بناتها وأبنائها؛ ولهذا دافعت عمّتي عن حقّنا في الاحتفال داخل البيت، وكانت تبرّر ذلك بشكلٍ منطقيّ لوالدي أو لغيرِه من أفراد العائلة. زارني إبراهيم ذات مساء في أواسط الثمانينيات عشيةَ رأس السنة في حيّ "سيدي عبد العزيز"، وكنت قد أصبحت حينها موظفاً مثله، ولم أعد في حاجة إلى بذل جهدٍ كبير في الادّخار أو الاقتصاد لاقتناء زجاجات من النبيذ. اشترينا قنينتيْ ويسكي من السوق السوداء. أخفينا إحداهما حتى نأخذَها معنا لسهرةِ الليلة، وبدأنا نشرب من الأخرى بعد غروب الشمس، وراء باب الفندق المقابل لمقهى جامع. لا أحبّ الشرب في الحانات، فهو يخلق لي مشاكل مع العديد من الاصدقاء الذين أُعزُّ البعض منهم.  أخبرني إبراهيم بأنّه مدعوّ لتناول وجبة العشاء في أحد بيوت العائلة، وطلب منّي مرافقته. خرج حسن من البيت ووقفنا أمام المقهى. لم أره منذ منتصف النهار، عندما ذهبنا معاً إلى المحطّة الطرقية لاقتناء تذكرتين للسّفر إلى مدينة "ورزازات". التحق بالمجموعة صديقنا حمّودة. اقتنينا زجاجة أخرى. بدأ الوقت ينفذ. اقترحت على حسن الذّهاب معنا، وفي هذه الحالة عليه استعارة درّاجة حمودة النارية على أن يتركها له في البيت بعد العودة من السهرة. صاحب البيت موظّف كبير ورجل طيب. كلمته مسموعة، ولا يتأخّر عن الوقوف بجانب كلّ من احتاجه من العائلة في الأوقات الصعبة. يدخّن سجائر "الكتبية" الطويلة. يشرب أحياناً بعد الانتهاء من صلاة العشاء، شأنه في ذلك شأن بعض الموظّفين الذين بشتغلون في مناصب حسّاسة، يضعون مسافة بينهم وبين الأغراب خاصة في ليلة رأس السنة. وجدنا بعض الضيوف في الصالة، أغلبهم من العائلة. رحّب بنا كعادته وبابتسامته المعتادة. سلّمتُ على نساء العائلة في غرفة مجاورة. وجدتهنّ يهيّئن وجبة عشاء فاخرة تليق بهذه المناسبة، تبدو ألذّ وأجمل من وجبات الأعراس. لم نتناول العشاء إلّا في وقت متأخّر من الليل. قضينا الليل بكاملِه نشرب ونضحك ونتبادل الحديث والنّكت.   مع اقتراب الخامسة صباحاً عدتُ رفقة حسن على الدرّاجة النّارية لحيّ سيدي عبد العزيز. الجوّ باردٌ، وشارع "علال الفاسي"، يغطّيه ضبابٌ خفيف، ويبدو شبهَ فارغ من المارّة. أقود الدرّاجة، وهي تتمايل أو على الأصحّ  نتمايل نحن فتميد بنا يميناً ويساراً، ولم نصل إلى الحيّ إلّا بشقّ الأنفس. رَكَنّا الدرّاجة في فناء البيت، وأخذ حسنٌ حقيبتَه، ووضعها في عربةٍ يدوية وجدناها أمام الدرب. سار الحمّالُ أمامنا وتبعناه، نهرول وندندن ونتمايل. يسبقنا بعشرات الخطوات فندعوه للتخفيف من السرعة. في منتصف الطريق دخلنا درب "عرصة أوزال"؛ فتحتُ باب المنزل وأخرجت حقيبتي، وانطلقنا. كانت دُوّنتْ أسفل تذاكر السفر ملاحظة مخيفة: "اذا لم تحضر في وقت السفر، لن تُقبل منك شكاية"! يضطرّ المسافر أن يصل إلى المحطّة قبل الزّمن المقرّر، رغم أن جلّ الحافلات لا تحترم وقت الانطلاق المُدوّن على صدر الورقة، وقد تتجاوزه بعشرات الدقائق. وضع مساعدُ السائق الحقيبتين مع الأمتعة. صعدنا إلى الحافلة، وجلسنا في المكانين المخصّصين لنا. لم نشعر كالعادة بالضّجر أو القلق. لم نتضايق من المتسوّلين أو من رائحة المازوط. غرقنا في نوم عميق، ولم نستيقظ حتى نُوديَ علينا بأننا وصلنا إلى مدينة ورزازات.  صُداع قويّ في الراس أفسد علينا فرحة النّزول من الحافلة، والوصول بعد ذلك إلى البيت، فأعددنا فنجانيْ قهوة سوداء للتخلّص من الثمالة. مرّت سنوات كثيرة وأنا أحتفل بالعام الجديد بنفس الطريقة. في ربيع 2010، أجريتُ عملية جراحية في الظهر، وأقلعتُ على إثرها عن التدخين، وبعدها عن تناول الكحول خوفاً من العودة إلى التدخين. فبدا لي منذ ذلك الوقت، الاحتفالَ بليلة رأس السنة بدون كحول، مثلَ الطّعام بدون الملح.    

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image