شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
دفاعاً عن الجنس السريع والخيانات والشوق

دفاعاً عن الجنس السريع والخيانات والشوق

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 28 ديسمبر 201803:58 م

بيدين رقيقتين أمسك وجهي. كانت عيناه لامعتين تحت الضوء وهو يقترب من فمي. يقبلني بلهفة. وبمرح مدهش يغني في الفراش. يرقص. جسمه الفارع يتمايل فوقي. ينبهني إلى أنوثته. الجسم الناعم الذي بدا مشدوداً بقسمات رجل وجلد مالس يحتفي بالحياة.

أمد له يدي فيلتهمها بغنج ثم يحدثني عن "مادونا"... أغنياتها التي يحفظها عن ظهر قلب. يترك شفتيه تتمايلان ببطء بين أسناني. أعضهما. تاركاً لعينيه أن تمران على وجهي. يغمضهما. يبتسم لي. أسنان بيضاء ورغبة تخرج من مسام جسمه دبقة. تمتزج رائحة جلده المتعرق برائحة بحر بعيد وعطر مجهول. يحكي كلمات بالإيطالية ثم يترغل بالفرنسية، كأنه يهذي. موزعاً رعشة مبهجة في الفراش. يدخن من سيجارة. يلفها بعناية ويخرج الكلام معها كأنه يتنفسه لا يحكيه. يطبع قبلاً على صدري يمرر لسانه بين شعيراته. يراقص يديه. آسرتين. حالمتين. غمازتين تطويان عالماً بكامله. يتوق للحديث عن عروضه المسرحية. يحب وجدي معوض، والنبيذ الفرنسي واللغات اللاتينية. نحب معاً شخصية: "دونا لوكريثيا" في روايات ماريو بارغاس يوسا. اسميته "دونا". قال لي أريد أن تسجله في قائمة هاتفك الخلوي. ضحكت. قبلة أخيرة. نوم طويل. ساعات من المداعبات. اكتشفنا في اليوم التالي أننا لم نتبادل اسماءنا. لدينا رقمان واسم "دونا".

تذكرت وأنا احتسي قهوتي أغنية لفيروز. رحت أدندنها: "الأسامي كلام. شو خص الكلام. عينينا هني أسامينا".

وداعاً أيها الطريق

في حياتنا نهمل الأسماء والطرق. لدى البوذيين هناك الطريق والمعلم، وفي الأديان كل الطرق تؤدي إلى الله (هكذا يقول الرسل)، وفي الروحانيات الطريق متشعبة للوصول الى الروح.

أحياناً يختار كل منا طريقاً ثم يباغته طريق آخر فيسلكه… يضيع، يبحث، يبدل ويتبدل. يخفق وتصيبه الخيبات. يعاود الكرة. بعضنا يمل الطرق. تعجبه حاله في مسلك واحد تتفرع منه مسالك قليلة. ثم مسدودة. تروقه فكرة الآنية والاستمرار والتجول المسيج. أي أن يجد لطريقه قفلاً وباباً وجدراناً باسقة. تعجبه فكرة الأمان. تسييج يحفظ له رؤية المعابر (المعابر ليست طرقاً).

بعضنا يهيم، تعجبه طرق كثيرة. يسلكها. يغادرها. يحملها معه. ويفرغها في مكان أو زمن، ويتكىء إلى مصير طريق يجده آمناً فيلوذ إلى فكرة الرحلة المنتهية. كأن ينشأ بيتاً وأغراضاً وصداقات ومعارف. يألفها ويظل في دوائرها. فتضيع عنه الطريق.

في حياتنا اليومية مسالك، لكن كثيرها نستدله بالأوهام. فننام مضطربين. مليئين بالغضب. باحثين عن معان لا نجدها. نتحسس أخرى. نفلت بعضها. نتمسك ببعضها. نخنق بعضنا بعضاً. نخنق أنفسنا. ولا نتحرر. لكل منا طريق، هكذا تقول الحكمة. أما الفلسفة، وهي أم للحكمة، فتقول لكل منا نوافذ.

في حياتنا نغلق نوافذ ونفتح أخرى.

في العلاقات، الناس عادة، أي في الغالب، يحبون الأبواب. يقرعونها. الجدران يعيشون فيها (الحقيقية والمجازية). وحين يختنقون يهربون من المنافذ وهي عكس المعابر والمسالك. المنافذ السرية.

في بيوتنا كفقراء، كان هناك منفذ تمر فيه الجرذان والحشرات والهواء الغريب والروائح الصاعدة. يسمى جحراً. في فن الزراعة الجحر يسد، لأنه في ثقافة المزارعين تختبئ فيه الحيوانات القارضة. آكلة المعنى والتربة. في الأبنية في المدن يسمى "منور" أي الذي يشق النور فيه طريقه عنوة. في تاريخ العمارة الإسلامية سميّ بـ"القمرية" في البيوت والشقق.

بعضنا يهرب إلى القمرية، إلى الجحر. يذهب إلى علاقات أخرى، يعدها مسالكه السرية. كالخيانات التي تسمى خيانات، للأسف، كالترك ويسمى انقطاعاً. في الحياة ننسى النوافذ. معنى أن تشرع لجسمك المادي والروحي أن يسافر. يقال أن الرسائل تسافر عبر النوافذ. والأدعية والابتهالات الليلية. تسافر أي أنها لم تهرب ولم تسجن. بل هي سافرت.

في الحب والعلاقات نحتاج إلى السفر. نحتاج لأن نفتح للآخرين نوافذ وأن نفتح نوافذنا. النوافذ مضادة للأحكام المسبقة والتعليب. النوافذ احتمالات وخيارات وحب واسع ووافر. فحين تسمح لشريكك/تك مثلاً أن يخرج من النافذة لا من الباب، فإنك سمحت له بالسفر لا الخروج. لا وداع لا قسوة. السفر آلة الحالمين والراغبين والمعرفيين.

أحب السفر وأمارسه اليوم، في زمان واحد ومكان واحد. سفر في الداخل والخارج، بيني (الحالي والآخر والمجزأ والكلي) وبين آخر (هو أنا وأنواتي الأخريات وتكويناتها). أسافر لأحلم لأفتح نوافذ لآخرين، نوافذ لي. لأطير.

وداعاً أيها الطريق، لم أعد بحاجة اليك.

بيدين رقيقتين أمسك وجهي. كانت عيناه لامعتين تحت الضوء وهو يقترب من فمي. يقبلني بلهفة. وبمرح مدهش يغني في الفراش. يرقص. جسمه الفارع يتمايل فوقي. ينبهني إلى أنوثته. الجسم الناعم الذي بدا مشدوداً بقسمات رجل وجلد مالس يحتفي بالحياة.
في حياتنا نهمل الأسماء والطرق. لدى البوذيين هناك الطريق والمعلم، وفي الأديان كل الطرق تؤدي إلى الله (هكذا يقول الرسل)، وفي الروحانيات الطريق متشعبة للوصول الى الروح.
والناس تستسهل العلاقات وتؤطرها في النظم والسياسات الاجتماعية. في العائلة والأسرة والسرير. شريك واحد أصيل. رغبة واحدة متكررة. يوميات بالغة القسوة والتحمّل.

الخيط السري

حين كبرت بدأت أفهم أن خطاً أبيض غير مرئي يكبر خلف علاقاتنا. وكلما تعلمنا أن نلاحقه عرفنا الحب وفهمنا الآخر الذي يحيطنا. وتبادلنا معه الحرية، التي هي أسمى شكل من أشكال العلاقات حيث الالتزام فيها بداية لا نهاية لها وغير مقودة. التزام يشبه النقاش والحوار الداخلي. شيء من فن المشاركة المنظمة والبعد والغياب الآسر.

قيل أن الغياب هو الحب. لذا نحن نشتاق ونحن ونرغب في الآخر وندعمه.

لقد أخطأت مراراً في حياتي بحق نفسي وبحق آخرين. وتبادلت الصراخ والذم واللوم والإحساس بالذنب. وتبادلت العلاقات المتشابكة من مبدأ المصارحة والمكاشفة وإعلان النوايا. وكل هذا لا يجدي. وكان كل هذا يحصل بشكل فوري ومضمر. لأني كنت أرى الخط الظاهر. الكامن أمام عينيّ.

ذاك الخط الذي نضعه في كل علاقاتنا على أنه دمغتها. هويتها. ومستقبلها أيضاً. بعض الناس يستسهلون. يستدلون بالخط الأسود البارز والرائي، إلى الحب والصداقات والرفقة. الخط الذي يجعلنا نضطهد الآخر ونسجنه. نضعه في حبنا واهتمامنا كقط مسعور وخائف. أو كطير في قفص.

والناس تستسهل العلاقات وتؤطرها في النظم والسياسات الاجتماعية. في العائلة والأسرة والسرير. شريك واحد أصيل. رغبة واحدة متكررة. يوميات بالغة القسوة والتحمّل. الخط الأبيض الذي اكتشفه في حياتي مؤخراً، يقتضي مع وحدتي الداخلية أن أحب الآخر، البعيد والقصي والمتمهل والبطيء والغارق بأشيائه، باحترام الذات لنفسها. باحترام الترتيب والتوازي. باحترام الحب نفسه. التبادل هذا هو حب غير مترفع ولا ينتشي من التعذيب بالذات. بل يعلمها أن تتكوّن. أن تحب وتعيش هذا الحب في فضاء وسماء بلا سقوف أو حدود أو مسميات أو أنشطة.

الحب رفقة مسلية. لا تجدي معها التطلبات والخط الأسود يشكّل مع الوقت مقصلة. مقصلة تؤدي إلى فرط هذا العقد السري بيننا كبشر.

أفضّل الخط الأبيض غير المرئي الذي أحب أن اسميه الوهم؛ وهم الحب والرفقة والصداقة. الوهم الحاصل في كل شيء، مذرر الشكوك والعقبات. مكوّن الذات واللذة. حينها فقط الحضور حين يحدث، هو حضور قوي بكل الأذرع والتماثلات والرغبات والشبق. حضور اسمه الحب... حب ما بعد الخط الوهمي.

 
إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image