أبدأُ عادة المقالات التي أكتبها بحكايةٍ، أو مشهدٍ من فيلم، أو عبارةٍ من رواية، أو خبرٍ أو تقريرٍ صحفيّ، أختار ما يرسم حدود المفهوم أو الفكرة التي أناقشها، مُسلّماً بأن هناك شكلاً "ماضياً" ظهرت به.
فأنزع هذا الشكل من سياقه، ثم أبدأ بمساءلة ما حوله سياسياً وثقافيّاً، وللتأكيد على أن الأشكال الثقافيّة "تحاور" بعضها البعض، أحرّك هذه الموضوعة، وأعيد تكوين الحكايات المحيطة بها والسياسات التي جعلتها تظهر بالشكل التي هي عليه.
ما أفعله بدقة، هو أني أنفي "جدوى" ما اقتبسته من الماضي، وأبني سياقاً وأسلوباً تتحرّك ضمنه الموضوعة عبر الزمن، كمشهد الدماء من فيلم دراكولا حين تحدثت عن جهاز المناعة، أو تقرير صحفيّ عن فضيحة جنسيّة أو دهشة ميشيل فوكو من بورخيس حين كتبتُ عن القوائم.
يسميّ والتر بينجامين من يمارس اللصوصيّة الاحترافيّة -أو شديد السذاجة- للاقتباس بـ"الجامع-collector"، ذاك القادر على الاقتباس ونزع "الموضوعة" من أًصلها، ثم توظيفها ضمن نصّ أو عمل فنيّ جديد، ونقرأ كيف يصف اقتباساته بقوله "الاقتباسات في أعمالي أشبه باللصوص على أطراف الشارع، يقفزون إلى الطريق مسلّحين، بوجه المارّة الخمولين، مخففين عنهم عبء قناعاتهم"، وكأن للاقتباس قدرة حيويّة على زعزعة القارئ ومخاطبة توقعاته ومفاجأته بما لم يكن يتوقعه.
تتجلّى نقديّة الاقتباس في قدرته على استعادة الماضي، لا بشكل كليّ، بل بأسلوب يزعزع الشكل الذي يمتلكه، سواء كان نصّاً عملاً فنياً أو حدثاً، إذ يدّمر الاقتباس السياق السابق وتراتبيته، جاعلاً إياه عرضة للتجزيء، مُهدّداً القدرة على "انتقال الثقافة" بكلّيتها، في ذات الوقت يهدّد المضمون الذي يحويه الاقتباس، نازعاً التاريخانية عنه، وكأنّ تقنيات قصّ وتصيّد الاقتباس وسيلة للتغريب -Alienation، وخلق مسافة بين النصّ الماضي الكليّ والاقتباس الحاضر الجزئيّ.
ما يجعل الجامع أقرب للمهووس الفيتشيّ، ذاك الذي يتصيّد أجزاء من أشكال ثقافيّة مختلفة، وينفي التقاليد التاريخية عنها، مُستحضراً "الجُزء" إلى "الآن"، الجزء الذي لم يعد ذا "جدوى" في لحظة اصطياده، كما يفعل منقّب آثار حين يجد "قطعة أثرية" لا سياق لها، ويترك لخبرته ومعارفه حريّة بناء حكاياتها، أو كما كان يفعل مارسيل دوشامب، الذي اقتبس "مبولة" وجعلها عملاً فنياً بفضل توقيعه.
العمليّة السابقة التي تتمثّل بالاقتباس والتغريب ثم خلق السياق الجديد، تحوّل الجهد الجماليّ أو الأدبي إلى سعي لنفي الأصل وإبعاده، والتركيز على أسلوب ظهور "الاقتباس" في سياقٍ جديد أو ضمن شكل جديد يُهدّد الحكاية الأصليّة/الماضيّة للجزء، والتقاليد التي اختزنها وجعلته مرئيّاً للمرة الأولى. أيّ، كلما ازدادت القدرة على خلق المسافة بين الاقتباس وأصله، ازدادت قدرة الجهد الجماليّ على خلق هالة من نوع ما حول النص "الآن" كونه يُكسب الاقتباس جدوى جديدة.
لكن ترك الاقتباس لوحده، مُعلقاً بالهواء دون جهد يمارس "الآن" ليحقّق له حضوره، يحوّله إلى كيتش قادر على الاستجابة لحاجة آنيّة بالمعرفة أو الإشباع الجمالي التي ما تلبث أن تتلاشى فوراً، كون أسلوب النقل الجديد الجمالي أو الأدبيّ، عجز عن رتق الفراغات في الأصل الماضي أو استبداله بعلاقات جماليّة.
وهنا يمكن النظر إلى الاقتباسات المجّانية والمنتشرة من حولنا دوماً، بأنها حرّة من الفائدة، في ذات الوقت أسيرة الكيتش، هي مُستنسخة دون أن تبني احتمالاً جديداً للمعرفة، وتتحول أحياناً إلى "حكمٍ" واهيّة تُلبّي النزعة الآنيّة للاستهلاك، أشبه بفيلم البورنو الذي يفقد قيمته في اللحظة التي تتمّ فيها الرعشة، سواء حصلت في بدايته أو منتصفه، فما بعدها لا يهمّ.
https://youtu.be/tKoGQpEkpO0
يُشكل الاقتباس نقطة الالتقاء بين تقاليد الماضي وديناميكيّة الآن، تاركاً المتلقي بين الجماليّ وبين التاريخيّ الذي يتلاشى مع تزايد الاقتباسات وتراكمها، لتشكيل نسخةٍ ساخرةٍ من الماضي، تنفي الأخير كلياً في بعض الأحيان.
وهذا ما نراه في المحاكاة الساخر كشكل فنيّ، والتي تقتبس المعروف والمتداول و"الشرعيّ" وتعيد إنتاج إيقاع جديد له، إيقاع لا جدّي يشكّك بشكل الماضي بأكمله لا بمجرّد أجزاء منه، كما في سلسلة أفلام مونتي بايثون مثلاً، أو رواية "الوصفة رقم 7" للمصريّ أحمد مجدي همام، التي تشكّك بـ"التجربة العلميّة" وتجعل جدواها إذهاب العقل عوضاً عن ترسيخه، عبر بطلها مليجي الصغير الذي يصل عبر تجارب علميّة إلى مخدّر ينفي عقله بأكمله.
"الاقتباسات في أعمالي أشبه باللصوص على أطراف الشارع، يقفزون إلى الطريق مسلّحين، بوجه المارّة الخمولين، مخففين عنهم عبء قناعاتهم"، وكأن للاقتباس قدرة حيويّة على زعزعة القارئ ومخاطبة توقعاته ومفاجأته بما لم يكن يتوقعه.
ما أفعله بدقة، هو أني أنفي "جدوى" ما اقتبسته من الماضي، وأبني سياقاً وأسلوباً تتحرّك ضمنه الموضوعة عبر الزمن، كمشهد الدماء من فيلم دراكولا حين تحدثت عن جهاز المناعة، أو تقرير صحفيّ عن فضيحة جنسيّة أو دهشة ميشيل فوكو من بورخيس حين كتبتُ عن القوائم.
يسميّ والتر بينجامين من يمارس اللصوصيّة الاحترافيّة -أو شديد السذاجة- للاقتباس بـ"الجامع-collector"، ذاك القادر على الاقتباس ونزع "الموضوعة" من أًصلها، ثم توظيفها ضمن نصّ أو عمل فنيّ جديد، ونقرأ كيف يصف اقتباساته بقوله "الاقتباسات في أعمالي أشبه باللصوص على أطراف الشارع، يقفزون إلى الطريق مسلّحين، بوجه المارّة الخمولين، مخففين عنهم عبء قناعاتهم"، وكأن للاقتباس قدرة حيويّة على زعزعة القارئ ومخاطبة توقعاته ومفاجأته بما لم يكن يتوقعه.
تتجلّى نقديّة الاقتباس في قدرته على استعادة الماضي، لا بشكل كليّ، بل بأسلوب يزعزع الشكل الذي يمتلكه، سواء كان نصّاً عملاً فنياً أو حدثاً، إذ يدّمر الاقتباس السياق السابق وتراتبيته، جاعلاً إياه عرضة للتجزيء، مُهدّداً القدرة على "انتقال الثقافة" بكلّيتها، في ذات الوقت يهدّد المضمون الذي يحويه الاقتباس، نازعاً التاريخانية عنه، وكأنّ تقنيات قصّ وتصيّد الاقتباس وسيلة للتغريب -Alienation، وخلق مسافة بين النصّ الماضي الكليّ والاقتباس الحاضر الجزئيّ.
ما يجعل الجامع أقرب للمهووس الفيتشيّ، ذاك الذي يتصيّد أجزاء من أشكال ثقافيّة مختلفة، وينفي التقاليد التاريخية عنها، مُستحضراً "الجُزء" إلى "الآن"، الجزء الذي لم يعد ذا "جدوى" في لحظة اصطياده، كما يفعل منقّب آثار حين يجد "قطعة أثرية" لا سياق لها، ويترك لخبرته ومعارفه حريّة بناء حكاياتها، أو كما كان يفعل مارسيل دوشامب، الذي اقتبس "مبولة" وجعلها عملاً فنياً بفضل توقيعه.
العمليّة السابقة التي تتمثّل بالاقتباس والتغريب ثم خلق السياق الجديد، تحوّل الجهد الجماليّ أو الأدبي إلى سعي لنفي الأصل وإبعاده، والتركيز على أسلوب ظهور "الاقتباس" في سياقٍ جديد أو ضمن شكل جديد يُهدّد الحكاية الأصليّة/الماضيّة للجزء، والتقاليد التي اختزنها وجعلته مرئيّاً للمرة الأولى. أيّ، كلما ازدادت القدرة على خلق المسافة بين الاقتباس وأصله، ازدادت قدرة الجهد الجماليّ على خلق هالة من نوع ما حول النص "الآن" كونه يُكسب الاقتباس جدوى جديدة.
لكن ترك الاقتباس لوحده، مُعلقاً بالهواء دون جهد يمارس "الآن" ليحقّق له حضوره، يحوّله إلى كيتش قادر على الاستجابة لحاجة آنيّة بالمعرفة أو الإشباع الجمالي التي ما تلبث أن تتلاشى فوراً، كون أسلوب النقل الجديد الجمالي أو الأدبيّ، عجز عن رتق الفراغات في الأصل الماضي أو استبداله بعلاقات جماليّة.
وهنا يمكن النظر إلى الاقتباسات المجّانية والمنتشرة من حولنا دوماً، بأنها حرّة من الفائدة، في ذات الوقت أسيرة الكيتش، هي مُستنسخة دون أن تبني احتمالاً جديداً للمعرفة، وتتحول أحياناً إلى "حكمٍ" واهيّة تُلبّي النزعة الآنيّة للاستهلاك، أشبه بفيلم البورنو الذي يفقد قيمته في اللحظة التي تتمّ فيها الرعشة، سواء حصلت في بدايته أو منتصفه، فما بعدها لا يهمّ.
https://youtu.be/tKoGQpEkpO0
يُشكل الاقتباس نقطة الالتقاء بين تقاليد الماضي وديناميكيّة الآن، تاركاً المتلقي بين الجماليّ وبين التاريخيّ الذي يتلاشى مع تزايد الاقتباسات وتراكمها، لتشكيل نسخةٍ ساخرةٍ من الماضي، تنفي الأخير كلياً في بعض الأحيان.
وهذا ما نراه في المحاكاة الساخر كشكل فنيّ، والتي تقتبس المعروف والمتداول و"الشرعيّ" وتعيد إنتاج إيقاع جديد له، إيقاع لا جدّي يشكّك بشكل الماضي بأكمله لا بمجرّد أجزاء منه، كما في سلسلة أفلام مونتي بايثون مثلاً، أو رواية "الوصفة رقم 7" للمصريّ أحمد مجدي همام، التي تشكّك بـ"التجربة العلميّة" وتجعل جدواها إذهاب العقل عوضاً عن ترسيخه، عبر بطلها مليجي الصغير الذي يصل عبر تجارب علميّة إلى مخدّر ينفي عقله بأكمله."الاقتباسات في أعمالي أشبه باللصوص": يسميّ والتر بينجامين من يمارس اللصوصيّة الاحترافيّة -أو شديد السذاجة- للاقتباس بـ"الجامع-collector"، ذاك القادر على الاقتباس ونزع "الموضوعة" من أًصلها، ثم توظيفها ضمن نصّ أو عمل فنيّ جديد
يُشكل الاقتباس نقطة الالتقاء بين تقاليد الماضي وديناميكيّة الآن، تاركاً المتلقي بين الجماليّ وبين التاريخيّ الذي يتلاشى مع تزايد الاقتباسات وتراكمها، لتشكيل نسخةٍ ساخرةٍ من الماضي.
شعريات التفاهة
حقّقت ما بعد الحداثة حلماً أناركياً قديماً، بنفي المسافة بين الماضي والحاضر، وحوّلت العمل الفنيّ والأدبيّ إلى مساحة لاقتباس الماضي ورفض تقاليده، والسبب أن الكمّ الثقافي الهائل للماضي أصبح حاضراً "الآن" بدون هالة، ويمكن استنساخه وتبادله، كما تحوّل الجهد الجماليّ إلى حنين ساخر لذاك الماضي ومهارة في تغريب الموضوع عن سياقه. وهنا يحضر المثال الشهير الذي استخدمه فريدريك جيمسون في حديثه عن الفن في ما بعد الحداثة، والفرق بين لوحة "حذائين" لفان كوخ و بين لوحة "أحذية مرصّعة بالألماس" لآندي وارهول، فلوحة كوخ تدعونا للتفسير، وتطوير نزعة تأويليّة للوصول إلى الكمال في العالم تكمن وراء ما نراه، لكن في العمل ما بعد الحداثي كما في أحذية البالية لدى وارهول، لا علاقات تأويليّة يمكن تطويرها، وهذا اللاعمق برأيه، شكل من أشكال السطحيّة التي تتميّز بها ما بعد الحداثة. ساهم الاقتباس في ظل الرأسماليّة بتدمير تقاليد الماضي بأكملها، واستبدل أيقوناته الدينيّة وتلك التي تجسّد الخلاص الرومانسيّ، بأخرى استهلاكيّة، "جديدة" و"عصريّة"، لا أصل لها، وليدة عمليات التجميل والتعديل الرقمي، ليتحوّل الماضي إلى وعاء ساخر لا جديّ، يمكن التلاعب به في الحاضر الذي أصبح سرمدياً وحاضراً على خط الزمن، وكأن كلّ الماضي حاضرٌ الآن. لكن هذا الحضور يمثّل نسخة لا جديّة، تسخر عميقاً من الاستهلاك، ووعود الشهرة، كما في لوحات دايفيد لا شابيل التي نرى فيها مايكل جاكسون تارةً كالمخلّص وتارة كملاك يقضي على الشيطان، أو لوحة ويليام بنهامو "العشاء الأخير" التي تحوي باريس هيلتون وجون لينون ومهرج ماكدونالدز، إذ استُبدلت صنعة التشكيل بالكولاج، والأيقونات الدينيّة بنجوم وسائل التواصل الاجتماعيّ والثقافة الشعبيّة، وتحول الفنّان إلى مدير إنتاج، كجيف كونز ومشغله لصناعة تماثيل عملاقة تشبه تماثيل الكلاب التي يلعب بها الأطفال، فالسياق الجديد لا يحمل أي تأويل، بل تعليق على الماضي وموضوعاته، بأسلوب يجعلها مُنصاعة تماماً لإيقاع الاستهلاك.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...