بعد دخول السلطان العثماني سليم الأول القاهرة عام 1517م، والقضاء على الحكم المملوكي، أصدر فرماناً بجمع أمهر الحرفيين والصناع وإرسالهم إلى إسطنبول، ليشيدوا بها عمراناً يشبه ما رآه في القاهرة، انبهاراً بما شاهده بالعاصمة المصرية، بحسب ما ذكر ابن إياس، في كتابه "بدائع الزهور في وقائع الدهور"، وقد كان معاصراً لتلك الفترة.
ولا تزال المباني المملوكيةُ الكثيرة في القاهرة تشهد على نهضةٍ عمرانيةٍ كبيرة في هذا العهد، تفوق غيرَه من العهود الإسلامية التي مرت على مصر.
والأهمُّ أن القاهرةَ كانت مقراً للخلافة العباسية في تلك الفترة، بعد انهيارها في بغداد، بالتالي كانت أهم عاصمةٍ في العالم الإسلامي، تقول دكتورة العمارة بجامعة عين شمس، صباح السيد سليمان، لرصيف22.
تُكمل أن السببَ الثالث في تلك النهضة، يرجع إلى أن السلطنة المملوكية لم تقم على وراثة الحكم، وانتظار وفاة السلطان ليأتي خَلَفه، إنما قامت على فكرة "الحكم لمن غلبَ"، ومن السلاطين من لم يُكمل عاماً واحداً في الحكم، ونتيجةً لذلك كان هناك تنافسٌ بين السلاطين على البناء، لتخليد ذكراهم وإثبات أفضليتهم عن بعضهم البعض.
توضح صباح لرصيف22 أن العهودَ الإسلامية الأولى (الخلافة الراشدة، ثم الدولتين الأموية والعباسية) لم يتبقَ منها آثارٌ بارزة في القاهرة إلا جامع عمرو بن العاص، وجامع أحمد بن طولون، أما العهد الفاطمي فلم يتبقَ منه إلا الجامع الأزهر ومسجد الحاكم بأمر الله، وبضعة مبانٍ بسيطة، أما الدولة الأيوبية فكان عمرها قصيراً وكانت دائماً في حروبٍ وحملاتٍ عسكرية، ولذلك لم تبنِ إلا 3 مدارسَ على سبيل المثال، مقارنةً بكم المدارس الكبير الذي تركه المماليك.
أقيمت الكتاتيب الخاصة بالجهود الفردية، حيث كان القائمون عليها يتخذون من التعليم حرفةً يتكسبون منها. وبهذا النوع يستطيع أن يلتحق كل راغب في التعليم، بعد دفع المصروفات المقررة للشيخ القائم على الكتّاب.
أما الكتاتيب العامة فكانت تقام من قبل السلاطين والأمراء والعلماء، بهدف التقرب إلى الله، وكان التعليم فيها دون أجرٍ للأيتام والفقراء. وقد روعي موضعُ إنشاء الكتاتيب العامة، إذ أُلحقت بالمؤسسات التعليمية الأخرى، كالمساجد أو المدارس والخانقاوات.
امتاز التعليم الحرفي في هذا العصر بتنظيمٍ دقيقٍ يشبه التعليم الأكاديمي، ووفقاً للدراسة يمكن تقسيمه من خلال التدرج الهرمي لطوائف الحرفيين، يتم فيها تعليم الحِرَفي أصول المهنة، من خلال تلك العملية التدريبية التي هي بالأساس عمليةٌ تعليمية.
1-مرحلة التدريب (صبي المعلم)
تعد المرحلةُ الأولى في تدرج طوائف الحرفيين، وفيها يلتحق الصبي بأحد المُعلّمين في الحرفة التي يريد تعلمها، أو يريدها أهله و"يقيم في بيته". وكان لكل معلمٍ عددٌ من الصبيان لا يجوز له أن يتعداه، وله الحق في رفض أي صبيٍّ ليس لديه استعداد مقبول لممارسة هذه المهنة أو غير أهل لها.
وكانت لكل حرفة مدةٌ يتدرب الصبي خلالها على العمل، قُدرت بحوالي سبع سنواتٍ، ولا يستطيع الصبي الالتحاق بأي معلمٍ آخر إذا ترك مُعلمه، إلا بعد الرجوع إلى شيخ الطائفة التي ينتمي إليها المعلم (النجارين، البنائين... إلخ).
بعد مرحلة التدريب يجري شيخ المهنة امتحاناً للصبي، تمهيداً إلى درجة أعلى في التدرج الحِرفي.
تبدأ مراسم الامتحان – الذي يوضح مدى الإتقان والحفاظ على مستوى المهنة – بعمل احتفالٍ يسمى "العهد مع معلمه" وفيه يحضر أعضاء من الطائفة، وتبدأ المراسم بقراءة الفاتحة، ويلقى المعلم على الصبي بعض الأسئلة التي يجيب عنها، ثم يأخذ المعلم عليه العهد، ويوجه النصح إليه وينتهي الحفل بتلاوة القرآن.
والعهد هو إذنٌ من المعلم لتلميذه بالدخول في المهنة، ويتضمن اختبار الصبي في تعليمه وفهمه وأدبه.
2- مرحلة العامل (الصانع – العَرّيف)
تعد المرحلة الوسط ما بين الصبيان والرؤساء، ويقيم العامل فيها عند رئيسه، الذي يُسكنه ويطعمه وفقاً لعقدٍ متفقٍ عليه، ويأخذ العامل أجراً مقابل عمله، وتتراوح فترة عمله ما بين 3-5 سنوات.
وتبدأ تلك المرحلة بمراسم احتفالية تسمى حفل "الشَد". و"الشد" هو لف حزام من القماش حول وسط أو رأس العامل، بواسطة رئيسه في العمل، في وجود شيخ الطائفة.
ولا يترك العامل رئيسه قبل نهاية الفترة المحددة، إذ يرفض أي رئيس عمل قبوله، إلا بإذن من شيخ المهنة ذاتها.
3- مرحلة المعلم (الأُسطى)
لم يكن الترقي من درجة "العامل" إلى درجة "المعلم" يتم بطريقةٍ عشوائية، إنما بعد اختبار القدرة الفنية لهذا العامل، حفاظاً على الحرفة من التدهور وضعف الجودة.
ويتطلب الانتقال لتلك المرحلة الحصولَ على "الإجازة" أو "الإذن" أو الشهادةِ من شيخ الطائفة الذي شُدّ المعلم على يديه، و"إمضاء القاضي"، ووقتها يُمكنه ممارسة الصنعة، ويعد هذا آخر ما يحصل عليه الحِرَفي ليمارس المهنة منفرداً. وكانت الإجازة تُمنح بعد امتحانٍ خاص يجرى تحت إشراف شيخ المهنة.
على المستوى الأعلى يتم انتخابُ رئيس أو مُحلّف لكل طائفة من خلال مجموعة المُعلمين، بالإضافة إلى وضع اللوائح وقبول أو رفض انضمام أعضاء جدد في هذه المهنة.
وأتيح للحرفي في ذاك الوقت أن يُتم تعليمُه العالي، فلا يقف عند تعلمه أمورَ حرفته من خلال معلميه فقط، ليزداد إتقاناً وعلماً بها، ويؤكد ذلك ما ذكره أحمد تيمور باشا في كتابه "المهندسون في العصر الإسلامي"، عن أبي الفضل المهندس قائلاً:
"كان يُعرف بالمهندس لجودة معرفته بالهندسة وشهرته بها، وأمره عجيبٌ لأنه كان في أوليته نجارًا، وله معرفةٌ بنحت الحجارة أيضاً، وكان تَكَسّبه بصناعة النجارة وله اليد الطولى فيها، وكان للناس رغبةٌ كبيرة في أعماله، وأكثر أبواب البيمارستان الكبير الذي أنشأه الملك نور الدين بن زنكي كان من نجارته وصنعته، ثم قصد أن يتعلم إقليدس (صاحب النظريات الهندسية الشهير) ليزداد في صناعة النجارة جودةً، ويطلع على دقائقها ويتصرف في أعمالها، فقاده ذلك إلى الانصراف إلى الهندسة بكليته، وأخْذِها من علمائها حتى برع فيها واشتهر بها".
شهد إنشاء المدارس طفرةً في العهد المملوكي، مقارنة بالعهود التي سبقته، وتنوعت تبعاً لتخصصها الذي يحدده منشئها أو واقفها، من حيث أنواع العلوم والمذاهب التي تدرس فيها.
ووُجدت – على سبيل المثال – مدارسُ لتدريس الحديث وأخرى لتدريس الفقه وهكذا. وكان معنى التخصصِ في تلك المدارس أن المادةَ الأساسية فيها هي التي أنشئت المدرسة من أجلها، على أن هذا لايمنع من تدريس علومٍ أخرى إلى جانبها.
غير أنه لم يرد ذكر مدرسةٍ قد تخصصت فى تدريس العلوم العقلية في مصر "بخلاف المدرسة المنصورية" التي خُصصت لدراسة الطب، أما الهندسة والحساب وغيرهما من العلوم الهندسية فلم تخصص لها مدرسةٌ، لكن هذا لا يمنع دراستها بتلك المدارس.
إلا أنه كانت هناك مدرسةٌ للهندسة في الشام "التابع للدولة المملوكية"، كما يذكر أحمد بدوي في كتابه "الحياة العقلية في عصر الحروب الصليبية بمصر والشام"، حيث قال إن نجم الدين بن اللبودي، المولود بحلب سنة 706 هـ، الذي اشتغل في دمشقَ بصناعة الطب ودراسة علوم الحكمة من منطق وفلسفة وعلوم رياضية، قد أنشأ في الشام مدرسةً طبية و"داراً للهندسة".
وامتازت المدرسة بالنظام المفتوح في التعليم، بمعنى أنها لم تقصر خدماتِها على الطلاب الملحقين بها، بل كانت تقوم بالخدمات التعليمية إلى العامة، ممن يريدون حضورَ الدروس أو الاطلاع على ما بالمكتبة من المؤلفات والكتب.
لم تقم السلطة المملوكية على وراثة الحكم، إنما قامت على فكرة "الحكم لمن غلبَ"، ومن السلاطين من لم يُكمل عاماً واحداً في الحكم، ونتيجةً لذلك كان هناك تنافسٌ بين السلاطين على البناء، لتخليد ذكراهم وإثبات أفضليتهم عن بعضهم البعض، بحسب د. صباح السيد سليمان
توضح صباح لرصيف22 أن العهودَ الإسلامية الأولى (الخلافة الراشدة، ثم الدولتين الأموية والعباسية) لم يتبقَ منها آثارٌ بارزة في القاهرة إلا جامع عمرو بن العاص، وجامع أحمد بن طولون، أما العهد الفاطمي فلم يتبقَ منه إلا الجامع الأزهر ومسجد الحاكم بأمر الله، وبضعة مبانٍ بسيطة، أما الدولة الأيوبية فكان عمرها قصيراً وكانت دائماً في حروبٍ وحملاتٍ عسكرية، ولذلك لم تبنِ إلا 3 مدارسَ على سبيل المثال، مقارنةً بكم المدارس الكبير الذي تركه المماليك.
كيف قامت تلك النهضة العمرانية المملوكية؟ وهل كانت هناك دراسة للهندسة؟
مجموعة قلاوون ومدرسة السلطان حسن ومدرسة الأشرف برسباي وغيرهم، تراثٌ هائلٌ كماً وكيفاً، لم يكن ليقوم إلا بمجموعةٍ كبيرة من المعمارين، أمثال المهندس شهاب الدين الطولوني منشئ مدرسة وخانقاه الظاهر برقوق، والمعلم ابن السيوفي منشئ المدرسة الإقبغاوية، وبدر الدين بن الكويز الذي ذكر ابن إياس أنه من معماريي عصرِ السلطان الأشرف قايتباي، وقد عينه عام 674هـ في وظيفة "معلم المعلمين". [caption id="attachment_179930" align="alignnone" width="700"] قطعة تنسب للسلطان سيف الدين قايتباي، من مقتنيات متحف المتروبوليتان في نيويورك[/caption] كذلك تشهد الروحُ الواحدة للزخارف التي نلاحظها في المبنى المملوكي، على الأخشاب والنحاسيات والجدران، على أن هناك عقلاً واحداً خطَّط لأن تكون تلك الزخارف بهذا الشكل الذي أنتجه حرفيون من مجالاتٍ مختلفة. نتيجة لذلك أصبح هناك يقينٌ تام بأن هذا المُنتج المعماري لم يكن مجرد نتاج عملٍ عشوائي، إنما نتيجةَ تخطيطٍ هندسي معماري مبني على أسسٍ علمية، نتج عن تعليمٍ منهجي للهندسة، وهذا كان موضوع رسالة دكتوراه بعنوان "التعليم المعماري في العصر المملوكي" للدكتورة صباح السيد سليمان، أشرف عليها الدكتور مراد عبد القادر وناقشها خالد راغب دويدار وأحمد الخطيب، الأساتذة بجامعة عين شمس. لنتعرف أولاً على شكل التعليم في العصر المملوكي: انقسم التعليم في العصر المملوكي إلى "أوَّلي"، ثم "تعليمٍ عالٍ متخصص"، و"تعليمٍ حرفي".الكتاتيب والتعليم الأوَّلي
التعليم الأوليُّ كان يرتكزُ على "الكُتّاب"، وهو موجودٌ في مصر منذ العصور السابقة للمماليك. وفي الكتّاب يدرسُ الطالب مواد أساسيّة (القرآن الكريم مع إعرابه وكتابته وإتقان الهجاء والقراءة الحسنة)، وأخرى اختيارية. وانقسمت الكتاتيب إلى: "الأهلية الخاصة"، و"الكتاتيب العامة"."الخانقاه" مكانٌ لانقطاع الصوفية للعبادة، يشبه مدرسةً عامة للصوفية.. وجود التدريس بجانب التصوف من التطورات الهامة في العصر المملوكي، فقد جمعت الخانقاه بين التهذيب الروحي والعقلي
أقيمت الكتاتيب الخاصة بالجهود الفردية، حيث كان القائمون عليها يتخذون من التعليم حرفةً يتكسبون منها. وبهذا النوع يستطيع أن يلتحق كل راغب في التعليم، بعد دفع المصروفات المقررة للشيخ القائم على الكتّاب.
أما الكتاتيب العامة فكانت تقام من قبل السلاطين والأمراء والعلماء، بهدف التقرب إلى الله، وكان التعليم فيها دون أجرٍ للأيتام والفقراء. وقد روعي موضعُ إنشاء الكتاتيب العامة، إذ أُلحقت بالمؤسسات التعليمية الأخرى، كالمساجد أو المدارس والخانقاوات.المُنتج المعماري في العصر المملوكي كان ثمرة تخطيطٍ هندسي معماري مبني على أسسٍ علمية، نتج عن تعليمٍ منهجي للهندسة.. كيف قامت تلك النهضة العمرانية المملوكية؟ وهل كانت هناك دراسة للهندسة؟
التعليم الحِرَفي (المهني)
امتاز التعليم الحرفي في العصر المملوكي بتنظيمٍ دقيقٍ يشبه التعليم الأكاديمي، ويمكن تقسيمه من خلال التدرج الهرمي لطوائف الحرفيين، التي يتم فيها تعليم الحِرَفي أصول المهنة
امتاز التعليم الحرفي في هذا العصر بتنظيمٍ دقيقٍ يشبه التعليم الأكاديمي، ووفقاً للدراسة يمكن تقسيمه من خلال التدرج الهرمي لطوائف الحرفيين، يتم فيها تعليم الحِرَفي أصول المهنة، من خلال تلك العملية التدريبية التي هي بالأساس عمليةٌ تعليمية.
1-مرحلة التدريب (صبي المعلم)
تعد المرحلةُ الأولى في تدرج طوائف الحرفيين، وفيها يلتحق الصبي بأحد المُعلّمين في الحرفة التي يريد تعلمها، أو يريدها أهله و"يقيم في بيته". وكان لكل معلمٍ عددٌ من الصبيان لا يجوز له أن يتعداه، وله الحق في رفض أي صبيٍّ ليس لديه استعداد مقبول لممارسة هذه المهنة أو غير أهل لها.
وكانت لكل حرفة مدةٌ يتدرب الصبي خلالها على العمل، قُدرت بحوالي سبع سنواتٍ، ولا يستطيع الصبي الالتحاق بأي معلمٍ آخر إذا ترك مُعلمه، إلا بعد الرجوع إلى شيخ الطائفة التي ينتمي إليها المعلم (النجارين، البنائين... إلخ).
بعد مرحلة التدريب يجري شيخ المهنة امتحاناً للصبي، تمهيداً إلى درجة أعلى في التدرج الحِرفي.
تبدأ مراسم الامتحان – الذي يوضح مدى الإتقان والحفاظ على مستوى المهنة – بعمل احتفالٍ يسمى "العهد مع معلمه" وفيه يحضر أعضاء من الطائفة، وتبدأ المراسم بقراءة الفاتحة، ويلقى المعلم على الصبي بعض الأسئلة التي يجيب عنها، ثم يأخذ المعلم عليه العهد، ويوجه النصح إليه وينتهي الحفل بتلاوة القرآن.
والعهد هو إذنٌ من المعلم لتلميذه بالدخول في المهنة، ويتضمن اختبار الصبي في تعليمه وفهمه وأدبه.
2- مرحلة العامل (الصانع – العَرّيف)
تعد المرحلة الوسط ما بين الصبيان والرؤساء، ويقيم العامل فيها عند رئيسه، الذي يُسكنه ويطعمه وفقاً لعقدٍ متفقٍ عليه، ويأخذ العامل أجراً مقابل عمله، وتتراوح فترة عمله ما بين 3-5 سنوات.
وتبدأ تلك المرحلة بمراسم احتفالية تسمى حفل "الشَد". و"الشد" هو لف حزام من القماش حول وسط أو رأس العامل، بواسطة رئيسه في العمل، في وجود شيخ الطائفة.
ولا يترك العامل رئيسه قبل نهاية الفترة المحددة، إذ يرفض أي رئيس عمل قبوله، إلا بإذن من شيخ المهنة ذاتها.
3- مرحلة المعلم (الأُسطى)
لم يكن الترقي من درجة "العامل" إلى درجة "المعلم" يتم بطريقةٍ عشوائية، إنما بعد اختبار القدرة الفنية لهذا العامل، حفاظاً على الحرفة من التدهور وضعف الجودة.
ويتطلب الانتقال لتلك المرحلة الحصولَ على "الإجازة" أو "الإذن" أو الشهادةِ من شيخ الطائفة الذي شُدّ المعلم على يديه، و"إمضاء القاضي"، ووقتها يُمكنه ممارسة الصنعة، ويعد هذا آخر ما يحصل عليه الحِرَفي ليمارس المهنة منفرداً. وكانت الإجازة تُمنح بعد امتحانٍ خاص يجرى تحت إشراف شيخ المهنة.
على المستوى الأعلى يتم انتخابُ رئيس أو مُحلّف لكل طائفة من خلال مجموعة المُعلمين، بالإضافة إلى وضع اللوائح وقبول أو رفض انضمام أعضاء جدد في هذه المهنة.
وأتيح للحرفي في ذاك الوقت أن يُتم تعليمُه العالي، فلا يقف عند تعلمه أمورَ حرفته من خلال معلميه فقط، ليزداد إتقاناً وعلماً بها، ويؤكد ذلك ما ذكره أحمد تيمور باشا في كتابه "المهندسون في العصر الإسلامي"، عن أبي الفضل المهندس قائلاً:
"كان يُعرف بالمهندس لجودة معرفته بالهندسة وشهرته بها، وأمره عجيبٌ لأنه كان في أوليته نجارًا، وله معرفةٌ بنحت الحجارة أيضاً، وكان تَكَسّبه بصناعة النجارة وله اليد الطولى فيها، وكان للناس رغبةٌ كبيرة في أعماله، وأكثر أبواب البيمارستان الكبير الذي أنشأه الملك نور الدين بن زنكي كان من نجارته وصنعته، ثم قصد أن يتعلم إقليدس (صاحب النظريات الهندسية الشهير) ليزداد في صناعة النجارة جودةً، ويطلع على دقائقها ويتصرف في أعمالها، فقاده ذلك إلى الانصراف إلى الهندسة بكليته، وأخْذِها من علمائها حتى برع فيها واشتهر بها".
التعليم العالي
للتعرف على ماهية التعليم العالي في العصر المملوكي، لابد أن نتعرفَ على شيئين رئيسيين، أولهما نظام التعليم، والثاني مصادر هذا التعليم، أو الأماكن التي احتضنته ليُدرس بها. 1-نظام التعليم ربما تشير المعلومات التي ذكرها السخاوي في موسوعته حول بعض المهندسين في القرن التاسع الهجري، إلى أن المهندس كان يدرس مواد التخصص بجانب مواد أخرى، كعلوم اللغة العربية والعلوم الشرعية، فيذكر أن: - أحمد بن عبيد الله الشهاب السجيني المهندس (ولد 608 هـ)، "حفظ الألفية لابن مالك وشذور الذهب واشتغل في الفقه واشتدت عنايتُه بملازمة ابن المجدي في الفقه وأصوله، والعربية، والفرائض، والحساب، والمساحة والجبر والمقابلة والهندسة والميقات (علم تحديد مواقيت الصلاة بدراسة خطوط العرض والطول) وسائر فنونه التي انفرد بها، وقصَر نفسه عليه بحيث تكرر له أخذ كثير من هذه الفنون عنه غير مرةٍ وكان جلّ انتفاعه به". - المهندس ابن الصيرفي (ولد 692 هـ)، "أخذ الفرائض والحساب عن الشهابين الخواص والبوتيجي، كذلك عن المجدي الذي أخذهما عنه مع الجبر والمقابلة وغير ذلك من الحساب المفتوح وغيره. كما أخذ الفلكَ والمقنطراتِ والجبرَ والهندسة والهيئة والحكمة، والعربية عن الخواص والقلقشندي وآخرين من علماء القاهرة. والمعاني والبيان وفن الأدب والتصوف وغيرها عن جماعة من شيوخه، الذين لازمهم في الفقه وأصوله وفي العقليات ونحوها، ومنهم الكافياجي والشرواني". - المهندس محمود الزين بن الدويك (توفي 620 هـ): "أحد رؤساء مباشري حرم القدس، وأجاد الفرائض والحساب". - المهندس مرجان الأشرف برسباي (شاد السواقي): "اشتغل في الحساب والهيئة والهندسة والميقات". أما علوم الهندسة -وفقا لمفاهيم عصرنا- فقد صنفها الفارابي (تـ 339 هـ) في كتابه "إحصاء العلوم"، إلى نوعين، واستمر الأخذُ بها حتى العهد المملوكي، بحسب ما ترجحه د. صباح سليمان: الهندسة العملية: وهي العلوم الهندسية التي تُطبّق عملياً على المواد المستخدمة، كالحائط للبنّاء أو الخشب للنجار، تبعاً لقوله: "هي التي تنظر في خطوطٍ وسطوح.. في جسم خشبٍ إن كان الذي يستعملها نجاراً.. أو في جسم حائطٍ إن كان الذي يستعملها بناءً، وكذلك كل صاحب هندسة عملية فإنه إنما يصور في نفسه خطوطاً وسطوحاً وتربيعاً وتدويراً وتثليثاً، في جسم هو المادة التي هي الموضوعة لتلك الصناعة العملية". أما النوع الثاني فهو الهندسة النظرية: وتُطبق–عموماً- دون تحديد نوع المادة المستخدمة، كما في قوله: "تنظر في خطوط وسطوح أجسام على الإطلاق والعموم، بالوجه العام الذي لا يبالي في أيِّ جسم كان". أجملت دراسة صباح، مصادرَ التعليم العالي في العصر المملوكي في "المدارس، الجوامع، المكتبات، سوق الكتب، الخانقاوات، منازل العلماء، مجالس العلم".المسجد (الجامع)
لم تتوقف رسالةُ المسجد على إقامة الشعائر الدينية بل شرعت المساجد في تدريس المواد العلمية إلى جانب العلوم الدينية. وكثرت المساجد في العصر المملوكي نتيجةَ النشاط الديني، وامتلأت بطلبة العلمِ والعلماءِ الذين كانت لهم الحرية في اختيار مناهجهم، وهو المتبع اليوم في أكبر جامعاتِ العالم "Credit Hour System"، أو "نظام الساعات المعتمدة"، تقول صباح السيد. وقد اشتهرت عدةُ مساجد في العصر المملوكي بتدريس العلوم العقلية كالطب والهندسة وغيرها في القاهرة، منها جامع ابن طولون الذي روى السيوطي، أن دروسَ الطبّ والميقات (علم المواقيت) قد أقيمت به. ومن الدلائل التي تثبت تدريس العلوم الهندسية في الجوامع، ما ذكره السخاوي في "الضوء اللامع"، من أسماء لبعض العلماء الذين درّسوا في بعض الجوامع، منهم على سبيل المثال: محمد بن محمد البدر، المعروف بالمارداني (تـ 698هـ)، وهو من العلماء البارعين في علم الحساب، حيث تصدر جامع ابن طولون وأقام فيه حلقةً علمية، ومحمد بن يوسف أبو الفضل، وهو من العلماء البارعين في علم الفرائض والحساب، الذي أذن له بالتدريس بجامع الأزهر، وجامع الناصرية.المدارس
شهد إنشاء المدارس طفرةً في العهد المملوكي، مقارنة بالعهود التي سبقته، وتنوعت تبعاً لتخصصها الذي يحدده منشئها، من حيث أنواع العلوم والمذاهب التي تدرس فيها.
شهد إنشاء المدارس طفرةً في العهد المملوكي، مقارنة بالعهود التي سبقته، وتنوعت تبعاً لتخصصها الذي يحدده منشئها أو واقفها، من حيث أنواع العلوم والمذاهب التي تدرس فيها.
ووُجدت – على سبيل المثال – مدارسُ لتدريس الحديث وأخرى لتدريس الفقه وهكذا. وكان معنى التخصصِ في تلك المدارس أن المادةَ الأساسية فيها هي التي أنشئت المدرسة من أجلها، على أن هذا لايمنع من تدريس علومٍ أخرى إلى جانبها.
غير أنه لم يرد ذكر مدرسةٍ قد تخصصت فى تدريس العلوم العقلية في مصر "بخلاف المدرسة المنصورية" التي خُصصت لدراسة الطب، أما الهندسة والحساب وغيرهما من العلوم الهندسية فلم تخصص لها مدرسةٌ، لكن هذا لا يمنع دراستها بتلك المدارس.
إلا أنه كانت هناك مدرسةٌ للهندسة في الشام "التابع للدولة المملوكية"، كما يذكر أحمد بدوي في كتابه "الحياة العقلية في عصر الحروب الصليبية بمصر والشام"، حيث قال إن نجم الدين بن اللبودي، المولود بحلب سنة 706 هـ، الذي اشتغل في دمشقَ بصناعة الطب ودراسة علوم الحكمة من منطق وفلسفة وعلوم رياضية، قد أنشأ في الشام مدرسةً طبية و"داراً للهندسة".
وامتازت المدرسة بالنظام المفتوح في التعليم، بمعنى أنها لم تقصر خدماتِها على الطلاب الملحقين بها، بل كانت تقوم بالخدمات التعليمية إلى العامة، ممن يريدون حضورَ الدروس أو الاطلاع على ما بالمكتبة من المؤلفات والكتب.
الخانقاوات
"الخانقاه" كان مكاناً لانقطاع الصوفية للعبادة، لكنه كان يشبه المدرسةَ العامة للصوفية، لذا أضيفت إليها وظيفةُ التدريس، فرتبت بها الدروس كما هو متبعٌ في المدارس، وساعد على هذا وجودُ توافقٍ كبير بين التصميم المعماري للخانقاه والمدرسة. ويعد وجود التدريس بجانب التصوف من التطورات الهامة في تلك المرحلة، فقد جمعت الخانقاه بين التهذيب الروحي والعقلي، بحسب الدراسة. وما يؤكد هذا الجمعَ ما وجد في نصوص الوقفيات التي اشترطت في الصوفية أن يكونوا من المشتغلين بالعلم، بجانب ما يمارسونه من حياة التصوف داخل الخانقاه، ومن تلك الوقفيات وثيقةُ وقف الأشرف برسباي التي تنص على: " أن يرتب بالخانقاة رجلاً من أهل العلم، حنفي المذهب، موصوف بالديانة، يكون شيخا للصوفية...".منازل العلماء
استقبلت منازلُ كثيرٍ من العلماء طلبةَ العلم خاصة راغبي التخصص في العلوم النادرة، وقد استُخدمت المنازلُ كمؤسسةٍ تعليمية لعدة أسباب، منها: -بلوغ العلماء سنَّاً لا تسمح لهم بالذهاب للمدارس لممارسة علمهم. -ازدحام أوقات العلماء، خاصةً أن العديد منهم كانت لهم أشغالٌ أخرى بجانب التدريس، حيث تبين أن كثيراً من العلماء مارسوا حرفاً مختلفة منذ صغرهم، وربما استمروا بممارستها بعد تقدمهم في مراحل العلم المختلفة، ومن أولئك: العالم أبو العز بن اسماعيل الجزري، الذي "كان من مهندسي الحيل الميكانيكية في القرن السابع، بجانب عمله كمدرسٍ وتأليفه للعديد من الكتب"، بحسب د. صباح سليمان. كذلك أبو فضل المهندس، الذي عمل نجاراً.المكتبات
اهتم سلاطين المماليك بالكتب والمؤلفات وجمع المخطوطات النادرة، فأنشؤوا المكتباتِ للمحافظة عليها، فضلاً عن رغبتهم في تحقيق الانتفاع للطلاب والعلماء بها، خاصةً لارتفاع أسعار الكتب في ذاك الوقت – لأنها كانت تنسخ يدوياً – أو لوجود نسخةٍ خطيةٍ واحدة لبعض الكتب. من هنا كانت المكتبات مؤسساتٍ تساعد على زيادة فرص التعليم التلقائي، والبحث في فروع العلوم المختلفة – بصرف النظر عما إذا كانت تدرس للطلاب أو لا – خاصةً لاحتفاظها بالعديد من المؤلفات الصادرة عن هذا العصر أو العصور السابقة له. وأُلحقت المكتبات بالمؤسسات التعليمية الأخرى من المدارس والجوامع والخانقاوات، مثل مكتبات جامع ابن طولون وجامع الحاكم وجامع المؤيد، ومكتبة القبة المنصورية التي أوقفها المنصور قلاوون في أنواع العلوم المختلفة لخدمة فئاتٍ مختلفةِ التخصص من "الفقهاء والعلماء والأدباء والدارسين للفقه وعلوم القرآن والتفسير والحديث والقراءات والتاريخ والأدب والفرائض واللغة والطب والمنطق والهندسة والحساب وغيرها من العلوم"، بحسب تاريخ الكتبات في مصر للسيد السيد النشار الذي تستشره دراسة د. صباح السيّد.سوق الوراقين والكتب
سوق كبيرةٌ تُعرض فيها الكتب للبيع، تعقد بها المناظرات والمناقشات، وكانت مجلساً لأهل العلم يترددون عليه، ولم يكن بائعو الكتب تجاراً فحسب، بل كانوا في الغالب أدباءَ يهدفون من تلك الحرفة الثقافة التي تتيح لهم المطالعة وجذب العلماء والأدباء إليهم.مجالس العلم
شاركت في مجالس العلم مختلفُ الطبقات التي ساهمت في المناظرات والمناقشات الدينية والأدبية المقامة بها، من خلال تشجيع أحد المتناظرين أو استحسان طريقة عرض موضوع المناظرة أو الجدل والمناقشة حول مسائل هذا الموضوع. وقد أدت تلك المجالس إلى تأثيرٍ ثقافيٍّ ومعرفيٍّ ومعلوماتي للطبقات المختلفة عامةً وطبقة الحرفيين بشكلٍ خاص.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع