على خلفية معرض أبو ظبي الذي استضاف المغرب للمرة الثالثة، أثيرت ضجة على وسائل التّواصل الاجتماعي ومختلف القنوات الجزائرية بمقاطع فيديو تندّد بما حدث. وذلك من خلال ما وُصف "بسطو المغرب على التّراث الجزائري وعرضه في أبوظبي".
على مدار أكثر من أسبوع، كان المغرب قد عرض العديد من أوجه الحياة الاجتماعية والثقافية والفنية والمعمارية مرورًا بفنون الطبخ والأزياء. كانت العروض مبهرة، جيّدة الإخراج والاتقان، إذ استطاع المعرض أن ينقل رسالته المعبرة لسكّان الخليج العربي وللعالم، والترويج والتسويق للثقافة المغربية بصورة فعّالة.
بعد هذه الفعاليّة، فجّرت الجزائر قضيّة ما وُصف بسطو المغرب على الترّاث الجزائري، وذلك من خلال اشتعال مواقع التواصل الاجتماعي بمختلف ردود الأفعال من مصمّمي أزياء ومتعاملين مع التّراث باختلاف توجّهاتهم، وانفردت بعض القنوات بمناقشة القضيّة الجزائريّة ومطالبة وزير الثقافة بالتدخّل، وإرباك مؤسّسة الدّيوان الوطني لحقوق المؤلّف والحقوق المجاورة...
مقارنة عجيبة بين إسرائيل والمغرب
المقارنة عجيبة ومذهلة بين سطو إسرائيل على التّراث الفلسطيني ومحاولات تخريب نسيج الذّاكرة الفلسطينيّة وتشويشها والاستيطان الثّقافي والمكاني، وسطو المغرب على التّراث الجزائري. كم نحن فالحون في نعت من نختلف معه بالصّهيوني. هكذا توصل لنا قناة النّهار بما ترصده من سبق صحفي الصّور والعلامات، علامات تهدّد العشرة والجيرة وتزيد من توتّر الحدود الثقافية والجغرافية .في نفس نشرة الأخبار النّهارية تزيد من حلكة الأخبار وسوداويّة المشهد بالخطّ السّاخن المباشر من الاستديوهات النّهارية إلى ناشطات في التّراث بأبو ظبي للاستمتاع بعملية السّطو المغربيّة على المباشر، لا أكذب فهي ليست بمستوى السّطو الهوليوودي لكن حركات سطو خبط عشواء تنمقها الرّقصات الهندية المتناسقة الحركات.
وفي السّنة الماضية بنبرة تعجب ولوم لوزارة الثقافة ولديوان حقوق المؤلف، تطلعنا قناة "دزاير نيوز" على ما يجري من تطاول، كما أسمته على التراث، وبلوم اللّوم من طرف الوصاية، على أنه مبالغة صحافيّة، وأن كلّ الأمور تحت السّيطرة وما يثار من جدل لا مبرّر له، لأن الأغاني محلّ الصّراع محفوظة منذ 1992. و"الراي" هو الملف الذي ما زال معلّقاً بأدراج اليونيسكو نرجو أن لا يفسد أيّ رأي وأيّ مودّة.
تنعكس الصّورة التي أراد المغرب أن يوصلها للعالم وتنعت جهود الأشقّاء بالسّرقات والسّطو... بل هناك من وصفها بالافتراس والاغتصاب. فتصل الأخبار من أبو ظبي أنّ المغاربة لم يتركوا للجزائر شيئًا؛ فقد سطوا على الحايك والكاراكو والشدّة التّلمسانية والبلوزة الوهرانية وكانت العروض الموسيقية عبارة عن سرقات للريبرتوار الموسيقي الجزائري، وسطوا على الطّعام، الكسكسي... ولم يقف السطو والنهب عند هذا الحد بل حتى رأس يوبا الثاني انتقل إلى أبو ظبي وعرض على أنّه ملك مغربي!
أتساءل هل كانت رأسًا بلاستيكياً أم تقليدًا للرأس الموجود بمتاحف الجزائر؟ أيعقل أن يكون يوبا بهذا الغباء وهو المثقف المتشبّع بالثّقافة اللاّتينيّة والذي أعطته روما صلاحيّات السّلطة لضم موريتانيا القيصريّة وموريتانيا الطّنجية، وإن كان مولودًا بمنطقة لم تكن تسمّى وقتها بالجزائر. ألا نصفّق لملك يحكم الشرق والغرب ونتماهى به وبسلطانه؟! أعتقد أنها لعنة "سايكس بيكو" التي حلّت بالمغاربة وبالعرب، لدرجة أنّنا نسينا منطق سير التّاريخ، الذي جعل ابن خلدون حضرميًا تارة، كما أراد أن ينسب انتماءه بنفسه ومغربيًا كما أراد أن يسمّيه أهل المشرق لارتدائه البرنس. ابن خلدون الذي ينسب مرّة للجزائر ومرّة لتونس، لم يكن يعنيه وهم الهويّة الجامد المؤدلج، بل كان يتحرّك بهويّة مرنة. حتى وإن تبنّت المجتمعات العربيّة والمغاربيّة شخصيّة من الشّخصيات لأنّها نمت وترعرعت هنا وهناك فلتفعل، لكن دون شطط.
وهم التراث ووهم الملكيّة الفكريّة
مشاهدة العديد من البرامج المتعّلقة بالتراث على القنوات المغربية، مثل القناة المغربية الأولى، لا يوحي بوجود أي مشكلة في تحديد تراث الجزائر الذي وفد إلى المغرب من خلال بوابة الشرق وجدة، فلا يمكن تجاهل التّاريخ الذي كوّن نسيجًا موحّدًا بمختلف الثّقافات وحتّى الدّيانات. لمجتمع الوجدي لا يمكن تمييزه عن المجتمع الجزائري بمنطقة الغرب أبدًا، فمن يبحث في التاريخ الاجتماعي والثقافي من خلال احتفالات الزّواج بوجدة لا يمكنه أن يتخيّل بأنه سافر إلى بلد آخر وإن كان شقيقًا. هذا ما يوحي به يوتوب عرس وجدي في السّبعينات بالأبيض والأسود. العروس تتصدر المشهد بالشدّة التّلمسانية، والنساء من الحنّايات والراّقصات والموسيقيّات يرتدين البلوزة الوهرانية أو الكراكو العاصمي، وحتى أهازيج النّسوة هي نفسها أهازيج مغنّيات الأفراح وارتجالهن. هل يعني هذا أنه سطو وسرقات، ولماذا لم يفكّر أحد في نهب التّراث قبل هذا الوقت؟
لا يمكن الإجابة هنا لأنه ليس مجالها، فقط أعطي مثالًا عن تصديرة العروس بالجزائر، فالعروس الجزائرية كما تتفنّن في إبراز الأزياء الجزائريّة شمالًا، مثل الكراكو العاصمي والقاط والقويّط والقندورة القسنطينيّة والجبّة القبائلية، فهي تلبس الصّاري الهندي الذي كان رائجًا في الثّمانينات، الذي اختفى لفترة وها هو يعود. هل ستطالب الهند بحقوقها الفكرية، وهل ستسمّيه سطوا على أزيائها الوطنية؟ّ والعمّارية، الهودج الذي تنقل عليه العروس ليلة زفافها، والذي أصبح يتسع للعروس الجزائرية في قاعات الأفراح وتفنّن الشّاب أنور وهوّاري لعوينات في الطّابع المغربي؟ هل يستدعي مثل هذا الكلام؟ هي أوهام التّراث التي تتأسّس بيننا من خلال اتفاقيّات دوّلية، اتفاقية اليونيسكو 2003، التي انتشرت كالنار في الهشيم بين المجتمع بكل فئاته دون فهم مقاصدها، ممّا أبرز تهافت الجماعات على الغيرة بالتّراث وسحبه سحبًا نحوها ونبذ أي تفاعل معه من أي جماعة أخرى. ما تنقله الفضائيّات ومواقع التّواصل الاجتماعي تحت مسمّيات الغيرة والوطنيّة من خلال بوّابة التّراث يقود إلى التّعصّب والصّراع وفتح أبواب جهنّم بيننا نحن بغنى عن كل ذلك، وهذا ما يفسد حقوق البشر ويجعلنا ننساق لأوهام تفضيل تراث على تراث وجماعة على جماعة أخرى وهذا منافٍ للمواثيق الدولية ولاتّفاقيات اليونيسكو ذاتها.
المقارنة عجيبة ومذهلة بين سطو إسرائيل على التّراث الفلسطيني ومحاولات تخريب نسيج الذّاكرة الفلسطينيّة وتشويشها والاستيطان الثّقافي والمكاني، وسطو المغرب على التّراث الجزائري. كم نحن فالحون في نعت من نختلف معه بالصّهيوني.
تنعكس الصّورة التي أراد المغرب أن يوصلها للعالم وتنعت جهود الأشقّاء بالسّرقات والسّطو... بل هناك من وصفها بالافتراس والاغتصاب. فتصل الأخبار من أبو ظبي أنّ المغاربة لم يتركوا للجزائر شيئًا؛ فقد سطوا على الحايك والكاراكو والشدّة التّلمسانية والبلوزة الوهرانية.
كم نحن شطّار في الفتك بعضنا ببعض، دون دراية للأسف، وعن جهل مسبق مطلق، ولا نملك أدوات لفهم ذواتنا ولا لفهم جيراننا، وكم نعطي الفرصة لأن ينهب ما تبقّى من تراثنا ونحن نتمزّق في صراعات أحشائنا.
كم نحن شطّار في الفتك بعضنا ببعض، دون دراية للأسف، وعن جهل مسبق مطلق، ولا نملك أدوات لفهم ذواتنا ولا لفهم جيراننا، وما حدث في أبو ظبي يبيّن كم نجهل ثقافاتنا، وكم نعطي الفرصة لأن ينهب ما تبقّى من تراثنا ونحن نتمزّق في صراعات أحشائنا. يعلم أهل الاختصاص، وليس مصمّمو الأزياء وهواة التّراث، أنّ تراث شعوبنا التي استُعمرت قد نهبت وهي معروضة عرضًا خلابًا في المتاحف الأوروبية والأمريكية والإسرائيلية ومحاطة برعاية البشر وآلهة هذا العصر الخارق والمخترق لكلّ الآفاق، رعاية مشدّدة لتراثنا المسلوب المنهوب. ولا يتاح للأفارقة وللمغاربة إلا السّؤال والشحاذة العلميّة. تراث فقدناه إلى الأبد وليست لنا الجرأة الكافية لاسترجاعه، وهل يمكن استرجاع أدق تفاصيل الحياة بكل روحانياتها وجوانبها المادية؟ وهل نجرؤ على اتّهام هذه المستعمرات بالنّعوت السّلبية كما ننعت ذواتنا؟
ماذا يفقدنا أن يغنّي كلّ المغاربة والعرب أغنية دحمان الحرّاشي "يالرّايح وين مسافر"؟ هل كانت هذه الأغنية لتنتشر لولا الفنان المرحوم رشيد طه الذي أعاد التّوزيع من مرسيليا. وماذا ينقص من كياننا إن غنّى محمد محبوب بمنطقة وادي سوف مبروكة تتبرّى التي أدّتها حبيبة مسيكة اليهودية التونسية، والأمثلة لا حصر لها، وينطبق هذا على كل الأشياء الأخرى. من سيصنّف الملحفة التي زيّنت أجساد آلهة الاغريق وصولًا إلى صحارينا وجبالنا، واللّباس يخفي الكثير من المفاجآت التي ستخرجنا من القمع ومن فوهة الإبريق الضيّقة إلى السّماء مهما يكن لونها.
عندما يختلط التّراث بالسياسة يصبح أخطر من التّطرّف الدّيني في علاقة غير مرغوبة بين الدّين والسّياسة. التّراث مفهوم غامض، هلاميّ متسلّل، يتغلغل في كل مفاصل الحياة، لا يمكنه أن يكون مصدر تنمية لشعوب غير متصالحة مع ذاتها ومتعصّبة لحدودها وكارهة بعضها لبعض. كم كنّا نحلم بمغرب الشّعوب، لكنّنا وصلنا لمغرب العيوب، والله يستر من الآتي إن بقينا متشبثين بالمثل الشّعبي: "فُولْتي وَلاّ نْبُول فَالْكّانُون"، أيّ (فولتي أو أتبوّل في الموقد)... معذرة لكلّ القرّاء، لكنّه من التّراث المتنازع عليه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...