قبل شهرٍ تقريباً شاهدتُ فيلمًا سينمائيًا مصريًا اسمه “تراب الماس” (2018) يصنّف ضمن أفلام "الأكشن" الطويلة، ويتناول قصة قاتل متسلسل، وهو مقعد يحاول أن يحقق العدالة بنفسه من خلال استخدامه مادة تراب الماس السامة لقتل المجرمين المحميين من قبل نظام الدولة الفاسد، الفيلم مختلف عما اعتدناه من الأعمال السينمائية العربية، وفيه اتساع يريح كل من حضره ليسقط عليه ما يريد من أفكار وأبعاد فلسفية وواقعية أيضاً، هذا بالذات ما جعلني أسأل نفسي عن علاقتي مع البطل في الأفلام، وما هي الصورة التي حفظتها له في ذاكرتي؟
في كثير من الأحيان كان البطل هو الأقوى والأقل إنسانية، فقيراً كان أم غنياً، متنفذًا أم مهمّشاً، البطل في ذاكرتي هو شخصية مهيبة وهو الأكثر سلطة في موقعه من خلال مركزه السياسي أو المالي أو لشجاعته وقوته، هو (رخيم الصوت أحياناً، وشهواني غرائزي متحرّش، أو خائن ومتعدد العلاقات، وبنسبة كبيرة غريب حيث لا يُفهم طبعه الحقيقي حتى بعد أن ينتهي الفيلم)، هذه صورة أغلب الأبطال الذين كلما تذكرتهم وجدت لهم مبررات، وساهمت بتوقعاتي في تعزيز الأسباب التي جعلتهم بهذا السوء ومنعتهم من أن يكونوا أسوياء، يتمتعون بأخلاق أقرب لما نصنفه بالجيد والطبيعي.
السؤال إذن: كيف يغيب عن الذاكرة البطل (المتسامح، الحيّ، الرقيق، المرتبك ربما) رغم أننا شاهدناه كثيراً في قاعات السينما العربية، وتأثرنا به أيضاً؟ وما الذي يجعل السوء والشر يحضر في ذاكرتنا الجمعية والفردية بسرعة واستمرارية أطول؟
الأفلام السينمائية نوع من أنواع الفنون التي يقدر المجتمع بكافة طبقاته أن يتابعها، في السينما وفي البيت وفي مواقع الإنترنت، لذا من السهل أن تتدخل بقوة في تشكيل الشخصية المشاهِدة وفي التأثير فيما يحمله واحدنا من قيم ومبادئ، وبما أننا عرب في مجتمعات قمعية مسلوبة الإرادة، تناضل لتتحرر أو لترتقي قليلاً عندما تسمح لها الفرصة بذلك، تتمثل البطولة في نظرنا بالفعل الأكثر شراسة وعدوانية وسوءًا. في السينما، القانون المخترق من القوي هو ذاته الذي اخترقه المحقق في فيلم "تراب الماس"، والقاتل البريء هو ذاته الطفل الذي يحمل قصة قمع وظلم رافقته منذ لحظات حياته الأولى عندما قُتل والدُه حتى أصبح كل ما يفعله مبرراً بالنسبة لنا، مثل دور أحمد السقا في (ابراهيم الأبيض)؛ يقتُل لأن والده قُتل، ويعذّب لأنه تعذّب، ويسرق لأنه سُرق، وتاجر المخدرات هو الشاب المكافح الذي خرج من رحم العشوائيات والفقر محاولاً خلق حياة أفضل، هكذا فعل عمرو سعد في فيلم (حين ميسرة) وهكذا دواليك، تأتي السينما كطقس ترفيهي لتعزز منظومة القهر والسلطة والسرقة وقلة مقومات الحياة عند المواطن العادي، مما يسهل علينا استيعاب فكرة تجاوز القانون والقتل من أجل الحياة، والتساهل مع الوسيلة المرفوضة أخلاقياً ما دامت تبرر الغاية التي نجدها تستحق الفعل الجرمي، ونظل نتابع ونبرر للبطل الذي نحبّه وندافع عن أنفسنا من خلاله، وسنتذكره عند أي قصة واقعية تشبه ما شاهدناه وما يحدث في يومياتنا، ونحدث الأصدقاء عنه أيضاً.
شاهدت مؤخرًا فيلم "تراب الماس"، ما جعلني أسأل نفسي عن علاقتي مع البطل في الأفلام، وما هي الصورة التي حفظتها له في ذاكرتي؟ في كثير من الأحيان كان البطل هو الأقوى والأقل إنسانية، فقيراً كان أم غنياً، متنفذًا أم مهمّشاً، البطل في ذاكرتي هو شخصية مهيبة وهو الأكثر سلطة في موقعه.
السؤال إذن: كيف يغيب عن الذاكرة البطل (المتسامح، الحيّ، الرقيق، المرتبك ربما) رغم أننا شاهدناه كثيراً في قاعات السينما العربية، وتأثرنا به أيضاً؟ وما الذي يجعل السوء والشر يحضر في ذاكرتنا الجمعية والفردية بسرعة واستمرارية أطول؟
الأفلام السينمائية نوع من أنواع الفنون التي يقدر المجتمع بكافة طبقاته أن يتابعها، في السينما وفي البيت وفي مواقع الإنترنت، لذا من السهل أن تتدخل بقوة في تشكيل الشخصية المشاهِدة وفي التأثير فيما يحمله واحدنا من قيم ومبادئ.لست قادرةً على أخذ القضية هذه بسذاجة، وأظن أنها ليست مهمتي، فإن كل ما يحدث في حيواتنا وفي مجتمعاتنا وفي دساتيرنا ليس بريئاً، بل مخطط له ومدروس ومعروفة أبعاده وأثره القريب والبعيد، والسينما هي المرآة التي تعكس واقعنا، من حياتنا نحن يجيء المؤلف بقصته، ومن خيالاتنا نحن وخياله يقرر كيف ستكون حكاية البطل ومن معه، وفي كل مرة يقدم لنا فيلماً يؤثر في قيمنا ونظرتنا للحياة ويتدخل في خلق سيرنا الاجتماعية السلبية والإيجابية، لذا أجد أن التركيز على شخصية البطل السلبية تعود لأسباب سلطوية، إذ إن أحدنا عادة يفضل أن يكون قوياً ومتماسكاً ليؤخذ عنه هذا الانطباع على أن يكون متساهلاً عاطفياً، ونسعى ليعتقد الآخر أننا نملك سلطة ما وقدرات أعلى من غيرنا، وإن كانت في بعض الأمور قليلة الأهمية ليظل الآخر محتفظاً بصورة لنا في ذاكرته تتمثل في القوة والهيبة والتنفذ، وبعضنا الآخر لا يفكر لحظة في إخفاء شروره وسوء طبعه عن الآخرين لما في ذلك من عائد عظيم في نظره يتمثل في جعل الآخر يفكر ملياً قبل أن يتصادم معه أو يقترب من خطوط حياته الحمراء. إذن، في الرجوع لنظرية أن السينما هي مرآة حياتنا يظهر جلياً أننا نميل للشرّ أكثر، إننا نفتتن في البطل المتنفذ القوي الذي يسرق الجميلة من حبيبها الفقير، ويبدع في جعل حياتها أفضل مما تخيّلت هي حتى، ونتذكر دائماً المحامي الطمّاع الذي أخرج القاتل والقوّاد والمغتصب من السجن دون أن يفكر في دمار الضحية، وبصورة التاجر الذي يتجاوز كل القوانين والمعايير لتفوز صفقته، وفي بعض المرات إذا صدقنا في الحديث مع أنفسنا نجد أن البطل الشرير هو الأكثر جاذبية لنا ومن دونه لا ذاكرة سريعة لأبطال السينما ولا افتتان في البطولة كفكرة.لو أن السينما تقدّم أدواراً بطولية غير التي اعتدناها، كيف سنتعامل معها؟ هل سيفتتنا مثلاً أن يكون البطل أستاذ كيمياء، ويحكي الفيلم قصته وما يدور في خياله من أفكار غريبة تتعلق بالعلم فقط، أو أن تكون البطلة امرأة تحاول أن تتمكّن في عملها من خلال أحقيتها بالفرصة التي تريد ضمن قدراتها العالية ومهاراتها من دون سيناريو التنازلات الذي شاهدناه كثيراً، أو أن يكون البطل ملحداً ويظهر الفيلم بوضوح أسئلته وشكّه وانخراطه في دوائره الصغيرة والكبيرة دون أن يقتل في النهاية. كلها سيناريوهات ممكنة لكنها تقنع وتثير المجتمعات التي لا تخاف، فالخوف شكّل علاقتنا بالأساس مع الدولة وتدخل في بنية علاقاتنا مع الأفراد، لذا نحن بحاجة دائمة لسينما تقدّم لنا أبطالاً شرسين يقنعوننا أن خوفنا هو مشكلتنا كأفراد بمعزل عن كل من يصب في مصلحته أن نظلّ خائفين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...