شوارع المنشية تعج بالمارة والمحلات والباعة الجوالين والأبنية القديمة التي تعود إلى بدايات القرن الماضي وما قبلها. أتبع عبد الله ضيف إلى مدخل العمارة التي تستضيف قهوة هندي (أو قهوة خبيني كما يطلق عليها البعض) ومكاتب محاماة لأحد أشهر محامي الإسكندرية.
نصعد للدور الثاني، حيث شركة إنتاج أخوان بهنا التي كانت في ثلاثينيات وأربعينيات وخمسينيات القرن الماضي إحدى أهم شركات إنتاج وتوزيع الأفلام في مصر والمنطقة بأسرها، والتي كانت لها فروع في مدن وبلدان عدة، تشمل الخرطوم بالسودان ولاغوس في نيجيريا.
شمل تأميم عبد الناصر، في ذلك الوقت، شركة أخوان بهنا للإنتاج والتوزيع، ما أدى إلى إفلاسها. بعد رفع أسرة بهنا العديد من القضايا في المحاكم، لاستعادة حقوق ممتلكاتهم، ها هم الورثة، بعد عقود، استطاعوا في بداية 2013 الحصول على حكم قابل للتنفيذ، واستلام عدة مقرات وفروع من ضمنها فرع الاسكندرية بالمنشية.
عند الولوج إلى المكان الذي يحوي اثنتي عشرة حجرة، تشعر أنك في زمن قد ولى: الجدران والأسقف والإضاءة وروح ورائحة المكان تدل على ذلك.
يقول عبد الله ضيف، وهو مدير برامج مؤسسة جدران للفنون والثقافة التي تدير عدة مراكز للفنون البصرية والموسيقى والثقافة بشكل عام في الإسكندرية، إنهم في شراكة مع باسيلي بهنا، وهو أحد الورثة، لتطوير وإدارة المكان، وإنهم ينوون افتتاح المكان رسمياً في آخر شهر أغسطس من العام الحالي. "في شهر مايو المنصرم شرعنا في تنظيف المكان، وإكمال ما بدأناه في يناير عندما قمنا بالاستعانة بـ27 متطوعاً من بلدان مختلفة لمساعدتنا، لأن المكان ظلّ مغلقاً لعدة عقود، ولهذا فهو يحتاج إلى الكثير من العمل. سنقوم ببعض الترميمات، غير أننا سنحافظ على المكان وشكله كما كان".
وعند التحدث مع عبدالله ضيف، وبالرغم من حرص مؤسسته على الحفاظ على ملامح المكان، إلا أن لديهم خططاً ومشروعات تتناسب وتتماشى مع اللحظة الآنية بما تحمله من فرص وإمكانيات وأفكار.
يقول عبد الله بحماس: "سيقوم المكان على ثلاث رؤى وأقسام: أولها هو قسم لمساندة السينما المستقلة عن طريق دعم المخرجين والعاملين في هذا المجال بالأجهزة والإمكانيات مثل وحدة مونتاج وكاميرات وعدسات، واستخدام هذه الأجهزة سيكون بدون مقابل لمن يرغب في الاستفادة منها. ننوي المشاركة في إنتاج ستة أفلام وثائقية قصيرة خلال العامين القادمين، ومعيار اختيار الأفلام التي سنشترك في إنتاجها هو المستوى التقني العالي والمهنية في الأداء، ولن نتدخل على الإطلاق في محتوى الأفلام. كما وضعنا في خطتنا مشروعاً لإقامة عشر ورش عمل على مستوى عالٍ تقوم بتنمية المهارات السينمائية المختلفة بالإضافة إلى وجود برنامج لعرض الأفلام السينمائية وإقامة منتدى سنوي للسينما والنقد السينمائي".
يهدف المشروع بشكل عام إلى إيجاد وخلق مكان ليس فقط لصناعة وإنتاج الأفلام، بل وكذلك لتنشيط الحوار حول هذا الفن ولتقديم المعلومات وتوفير المفردات لإقامة الحوار والنقاش.
أما القسم الثاني فسيكون موجهاً لدعم الفنون البصرية، من خلال طرق عدة، منها تقديم برنامج للتعليم والتدريب والتشبيك بين فنانين من أجيال مختلفة، وكذلك تقديم الفرصة لاستضافة فنانين من دول مختلفة لفترة تترواح ما بين ستة أسابيع وشهرين.
ويقول عبدالله ضيف إنه سيتعيّن على الفنانين المقيمين تقديم عمل في نهاية مدة إقامتهم، ولكن "عملية إبداع وإنتاج العمل هي الأهم وليس العمل الفني في حد ذاته". كما أن التدريب في القسم السينمائي وقسم الفنون البصرية سيكون من خلال قيام الطلاب بدور المساعدين للفنانين وللمخرجين (يُتوقع أن يكون لكل فنان مساعدان) لنقل الخبرات والتعلّم بشكل تطبيقي، وعدم الاكتفاء بالنظري. وقد وقع الاختيار على علياء الجريدي لإدارة برنامج الفنون البصرية وعلى كل من مأمون عزمي وشريف شرقاوي لإدارة البرنامج السينمائي.
نتجول في المكان، فيبدو وكأنه مغارة من كثرة الحجرات والكنوز التي تحويها. أرى أفيشات لأفلام قديمة وجهازاً للمونتاج يرجع تاريخه إلى منتصف القرن الماضي، وخزنة ترجع إلى عام 1900، و سيناريوهات وحوارات مكتوبة، وملفات عديدة بها حسابات ورسائل تخص شركة بهنا في العقد الثالث والرابع والخامس من القرن الماضي، بعدة لغات، منها العربية والفرنسية والإنكليزية.
الغريب أن كل هذه الأشياء بحالة جيدة رغم الإهمال وعدم الاعتناء بها ووجودها في ظروف مناخية غير مواتية للبقاء، حتى أن المتطوعين وجدوا أثناء تنظيف المكان شريطاً لفيلم الهانم، وهو من إنتاج 1947، إخراج هنري بركات وتمثيل آسيا وزكي رستم، والذي ليس هناك وجود لنسخة أخرى منه في أي مكان آخر.
قام القيمون على المشروع بعرض الفيلم في الإفتتاح غير الرسمي للمكان في يناير الماضي. المكان بما يحويه، يقدم فرصة رائعة لإعادة قراءة التاريخ ومعرفة أشياء كثيرة عن تلك الحقبة الممتدة بين ثلاثينيات وسبعينيات القرن الماضي، وعن مجال صناعة السينما آنذاك، وآليات الإنتاج. كما يتيح إلقاء الضوء على جوانب اقتصادية واجتماعية هامة.
لذلك، سيكون القسم الثالث بالمشروع مخصصاً للدراسات السينمائية والبحث. ولأن هذا القسم يحتاج متخصصين، فإن القيمين على المشروع، كما يقول عبد الله، يراسلون جامعات بها أقسام متخصصة للنقد والدراسات السينمائية، ويخططون للقيام بعمل شراكات مع مؤسسات وباحثين في المجال، وهم الآن يتحدثون مع خالد فهمي أستاذ التاريخ في الجامعة الأميركية في القاهرة لمساعدتهم، إذ يشتهر الرجل بمهنجيته في قراءة الوثائق والمراسلات والبلاغات والسجلات لإعادة قراءة التاريخ وفهم جوانبه الخفية. إن تحويل تلك السجلات والمراسلات لنسخ رقمية يسهّل على المهتمين البحث فيها دون إتلافها، وهو ما سيوفر الاطلاع عليها حتى لو كان عن بعد، وهذا واحد من أحلام مؤسسة جدران.
"بما أننا نؤمن، في كل مشاريعنا بإدارة الأماكن الثقافية، بأن نكون قريبين من الشارع والناس، لذا، غالباً ما لن يكون مدخل هذا المكان عبر الأدراج داخل العمارة، إنما سيكون عبر دُكانين تابعين للمكان ومساحة كل منهما 80 متراً مربعاً، وهما يطلان مباشرة على الشارع"، يقول ضيف، قبل الخروج مرة أخرى إلى شوارع المنشية المزدحمة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...