شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
الطمأنينة غايةٌ بحدِّ ذاتها

الطمأنينة غايةٌ بحدِّ ذاتها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 1 ديسمبر 201802:32 م
رسمت وطناً كاملاً هنا، أشجاراً على الشبابيك وسريراً وشراباً وسجائرَ وأحلاماً رخيصة، قلباً وليلاً يكفي لأقول أنه لي وحدي. باختصار رسمتُ فيه كُلَّ شيء، حتى صانعي شرابٍ وسجائر، في زاويتهِ مقهىً صغيراً يطلُّ على بركةِ ماءٍ صغيرة، بعدَ بعض الوقت بدأت تُمطر بقسوةٍ في الخارج، وبدأ الماءُ يتسلل عبر الجدارِ المهترئ، اختفى كُلَّ شيءٍ والبركةُ أصبحت بحراً، فيضاناً جعلني لا أُصدق أن كل شيء أصبحَ رمادياً، بقايا حبرٍ فقط، عدتُ ورسمتُ من جديد كل شيء، بنفس التفاصيل، أعطيتُ الجميع أطواقَ نجاة هذه المرة، لا أريد طوفانا آخر. بعد أيامٍ، أدور في هذا الوطن مرتجفاً من البرد الذي أنهكَ جسدي، يتسلل كالماء ذاك عبرَ الجدار ثم يُهاجم العظم، المياه كادت تُغرقني بكلِّ الأحلام المتبقيّة هنا، أمطرت من جديد، لم تنفع أطواقُ النجاةِ تلك في هذا الطوفان، الجدرانُ أصبحت رطبةً وعفِنة بفعلِ المياه التي عششتْ داخِلها، مُحيَّ كل شيءٍ، ونفذَ مني الحبر، أصبحَ البردُ مملاً والجوعُ قاتلٌ، لم أهتمُ فعلا بالوحدةِ التي حلّت خلالَ جوعٍ وبردٍ كهذا، تشبثت بأمل ما حينها، حتى أنني لم أرسم مخرجاً آمناً.
لا يمكنني الكذب بأن أظهرَ محباً للحياة
بعد تفكيرٍ مليٍّ لأيام، خطرتْ ليَّ فكرة تستحقُ التجرُبة، أحرقتُ بعضاً من خشب السرير وأصبح بحوزتي فحم، رسمتُ بسرعة مخرجاً، رسمتُ أكلاً أعدتهُ أُماً، رسمتُ واحدةً وعانقتُها. بدأتُ الرسمَ من جديد، تمسّكتُ بتفاصيلَ حاولتُ رسمها بأظافري حتى لِتبقى، غفوتُ مطمئناً وأنا أحدقُ بهم جميعاً، لم أصدق أن كل شيء بات حقيقياً مرةً أخرى، موجوداً، استيقظت بعدها والباب كانَ مفتوحاً، لا يوجدُ أحد هنا، يرحل الجميع مبتعدين بلا مرثياتٍ أو ابتذالاتِ محطاتِ القطار، بلا انتظاراتٍ وشبابيك. لم يكن بجواريَّ سوى قارباً صغيراً بلا مجداف، رماديُّ اللون، رُسِمَ على ضفتي. ليس لدي نية لأعرف الوقت الآن، أستطيع فقط التوقع  أنها تقارب الرابعة أو الخامسة صباحاً، هدوء كل شيء وبرد أول الشتاء الخفيف يقول هذا، يرسو قلق في عجزي عن النوم بينما يهطل الوقت ببطء قطرة تلو الأخرى، تصير السماء كلها مجردة، عارية وواضحة، حقيقية، شهية، أحاول الغوص بها في كآبة أقل من الوقت، أذكر أن إنعكاسي في المرآة كان كما الآن تماماً، أعتلي قمة قاربي وأنظر بارتجاف إلى الحياة، بينما أًبحِر في هذا الرماديّ، أحلُم لو أنني لا أملك شيئاً سوى بضعةُ أوراقٍ وقلمْ، أفكر بهول وصولي لبساطةِ هذا الحلمٍ، أن اطمئن بأنني استطيع أن أكون ما أريد في هذه الأوراق، أستطيع أن أكون موجوداً، لازمني حلم بهذه البساطة وهذا السخف، بهذه الطمأنينة، مجموعة أوراق أستطيع أن املؤها بما شئت من لغو، أفكر بأن الطمأنينة غايةٌ بحدِّ ذاتها، منها خلق العقل البشري ألوهية البقاء، منذُ بدءِ الخيالات في العقل التي صارت أول محاولة وعي لمجهوليّة الموت، عتمته التي أصبحت محفزاً للعيش، محفزا للفضول، عينٌ هُنا وأُخرى في ذلك السواد المجهول، عندما تكوّنَ صدىً في ازدحامِ العقل من أجل العتمة تلك، المُمكنِ هنا بالفعل أن تكونَ عتمة كهذه مكاناً مليئاً بالمُغريات، مليئاً بالمُستحيلِ الشهيّ، ومن المحتمل أن تكون مليئة باللاشيء، مجهولة نتلاشى فيها باطمئنان فقط. بينما أبتعد في قاربي الرمادي، تذكرت أنني لطالما حلمتُ بالإبتعاد بالزمن مثلي  مثلَ ملايين الأشخاصِ غيري، إلّا أنني يمكنني الجزم بأن هدفي من هذا الإبتعاد ليس كهدف هؤلاء، و لكي لا أظلُمَ أحداً سأقولُ الغالبيّة الساحقة سيكون سببَ إبتعادهم هذا هو بقصد المُتعة والتسلية، أما أنا فلا، فسببي هو الإبتعادُ البحتْ، الإبتعادُ لأجل الإبتعادْ، الإبتعادُ والعيش فوق إحدى التلالِ البعيدة في عصر حجري أو بجزيرةٍ ما في مستقبل بعيد، في زمنٍ آخرَ، أو أن أعود للصفر وألتقطُ نجمةً ما لأعيشَ فيها، بهذا السياق أوّدُ القول أنني لست طوباوياً، لا أريدُ الإبتعادَ بسببِ نقمةً فلسفيّة على مجتمعاتكم، فلست من هواة المجتمع والمدينة الفاضلة، أحب الفوضى بنظرتي الخاصة لها، لذلك يسبب أحياناً الوجودَ بحدِّ ذاتهِ ألماً، فمُجتمعيّاً مثلاً، يجب أن أذكُرَ هنا أيضا أنني أبعدُ ما يُمكن من أن أندَرِج تحتَ صفةِ الإنسان الرئيسيّة بأنهُ كائِنٌ اجتماعيٌ بطبعهِ، فإنني أعتبر التمسك بهذه الصفة أفضلُ سبيلٍ للشعورِ بالوحدة، لذلك يغريني القول بأنني لستُ مؤهلاً بالمطلق للعيشِ في المُجتمع، فكما ذكرت قبلا لطالما أردتُ الابتعادَ قدرَ المُستطاع، حتى أنني حاولت مراراً الإبتعادَ والخروج من جسدي، لأتفرجَ كيف أدورُ في مكاني وأسقطَ أخيراً، أُفكرُ مليا بصدى العتمة تلك، لذا، قد لا أملكُ الوقتْ، وقد لا أملكُ الجُهدَ حينها لأقولُ ما سأقوله، سأكتب بعضاً مما كنت سأقوله على تلك الأوراق، هنا، على هذه الأرضية، لذا احتملوا، أرجوكم، أنني كنت موجوداً حتى السطر الأخير. كنت على تلك الأوراق، سأعترف أنني وقحٌ بعضَ الشيء، أستلذُ بوضعِ يدي على جرح ما في ما أكتبه، مع أنني لم أطمح يوماُ لأصير مؤذياً، فلم أجد يوماً شعورا عميقا بالراحة سوى أن أحاول كتابة نصوصاً رديئةً بحزن سخيف، فقط ليغمرني شعور طفيف بالرضى بعدها، لأقدر على أخذِ نفسٍ عميق، لذلك قد اتصف بالحقارة أيضاً. إذن أعترفُ أنني حقير، فمثلا، كُلما وقعتُ في الحب، أعصره كليمونة حتى يجف ويتحول قلقاً وكُرهاً، عبثاً أحاول البقاء بعدها، أتمسك بقشرة الليمونة تلك، أنتظر وبسذاجةٍ غريبة أحكي، أُصبحُ هزيلاً كأن عظاميَّ اختفتْ، أحاول سرقةَ الدفءَ كاملاً، احتكارَهُ، أمتصُّ كبعوضة ما استطيع من حُبِهن وقلقِهن، لم أقصد يوماً سوى أن أظهر القليلَ القليل من هذا الحزن ليرموه بعيداً، سوى أن أفتح البابَ ليقمن بحرق شيئاً من هذهِ الكآبة، لا يمكنني الكذب بأن أظهرَ محباً للحياة، أحاول أن أكون حقيقياً بقدرٍ كاف من الحزن الذي أخزنه.
بعد تفكيرٍ مليٍّ لأيام، خطرتْ ليَّ فكرة تستحقُ التجرُبة، أحرقتُ بعضاً من خشب السرير وأصبح بحوزتي فحم، رسمتُ بسرعة مخرجاً، رسمتُ أكلاً أعدتهُ أُماً، رسمتُ واحدةً وعانقتُها.
سأعترف أنني وقحٌ بعضَ الشيء، أستلذُ بوضعِ يدي على جرح ما في ما أكتبه، مع أنني لم أطمح يوماُ لأصير مؤذياً، فلم أجد يوماً شعورا عميقا بالراحة سوى أن أحاول كتابة نصوصاً رديئةً بحزن سخيف، فقط ليغمرني شعور طفيف بالرضى بعدها، لأقدر على أخذِ نفسٍ عميق، لذلك قد اتصف بالحقارة أيضاً.
قد يعتقد البعضُ أنني أهوى جلد الذات نتيجةً لطريقة الحكي هذه، سأقول في هذه الحال لا، أنا أبعدُ ما يُمكن من هذا الأمر، أعشقُ عيشَ الحياةَ كاملة بكل ما فيها، إلا أنني لا أجيد سوى العزلة وصف أسطر كهذه من اللغو.
قد يعتقد البعضُ أنني أهوى جلد الذات نتيجةً لطريقة الحكي هذه، سأقول في هذه الحال لا، أنا أبعدُ ما يُمكن من هذا الأمر، أعشقُ عيشَ الحياةَ كاملة بكل ما فيها، إلا أنني لا أجيد سوى العزلة وصف أسطر كهذه من اللغو، بجميع الأحوال أظن أنني سأقف مدافعاً وأقول أن العُزلة ليستْ عجزاً عن الحياة أو فُقداناً للروح، هي فُقاعةٌ قاسية من الخيالِ والوِحشة، ابتعدتْ بيَّ رويّداً إلى التوقف عن عبوديّةِ الوقت، عن انتظارِ الوقت، هي محاولة للإبتعاد عن كل ما يثير الوحدة، إنها جوع مناسب للحياة، شهوة مرضية للعيش، اختصاراً للوقت هنا سأقول بالتالي أنني شخصٌ مريض، لم يقوَ أحدٌ على علاجي، لا يوجدُ اسمٌ لمرضي، أنا فقط شخصٌ مريض، فأقلُّ ما يمكن أن أذكر أن رأسي يلتهم الصداع كفريسةٍ سهلة، أظُنني أُهشم رئتاي بعشراتِ السجائر كُلَّ يوم، طحنت كبدي بزجاجات سمومي اليومية المفضلة. يوحي هذا أنهُ حُزناً مُبتذلاً، أرجوكم أن تحتملوا للمرةِ الأخيرة، سأحاول ألّا أُطيل الأمرَ عليكم. كل ما في الأمر هُنا أنني سأحاول أن أكون صريحاً، فكما قلت سابقاً، هذا كُله لغو، لن أعتذرَ عن هذا طبعاً، فلست شخصا أخلاقياً، فأنا وقحٌ وأُحب ما أفعَلهُ الآن، دعوني أكون سعيداً لمرةٍ أخيرةٍ وحسب، أُريدكم جميعاً أن تعرفوا بوجوديَّ في وقت ما، أريدُ أن أشعُرَ قليلاً أنني بقيتُ ما استطعتْ. لذا... *** اشتريتُ كتاباً من سوقٍ للبضائع المُستعملة، بداخلهِ ورقةٌ كُتِبَ فيها ما قرأتموه، برأس الورقة وبملاحظة صغيرة ذُكِرَ أنَّ هذا الكلام قد كُتِبَ بالفحمِ في أرضيّةِ قاربٍ رسىْ على ضِفةِ من كتب الورقة، بلا توقيع، بلا تتمة، رسى عنده كما رست عندي الآن، بلا أيِّ دلالة توحي بأنَّ كاتبُ هذا اللغو، كما أسماه، قد كانَ، فقط حبراً أزرقاً وخطُ يدٍ لابأسَ به، احتفظت بها لوقت كاف، لذا، من المُمكن أنه قد أقدمَ على ابتعاده، استكشف العتمة تلك التي أثارتْ فُضولَهُ، مستحيلة الشهي ذاك، أو رُبما أنهُ الآنَ مُستلقٍ في شواطئِ إحدى الجزر اللاتينية يستمتع بهدوء ضوء الشمس.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image