كان من عادة ملوك الفرس إذا أرادوا إنجاب "ذكر" أن يُحضِروا منجّماً للحظة إنزال الملك مَنيّه، ليأخذ طالع اللحظة، فيُحكم من خلال الطالع كيف سيكون المولود المتوقّع من هذه العلاقة الجنسية، وما إذا كان سيرث العرش من أبيه أم لا، بحسب ما ذكر رضيّ الدين علي بن موسى بن طاووس (تـ664هـ - 1266م)، في مؤلفه "فرج الهموم في تاريخ علم النجوم".
تأثّرت الثقافة العربية بعادات ومعتقدات المنطقة، ومن بيها، إلى حد كبير، الثقافة الفارسية، وضمن تلك التأثيرات كان التنجيم الذي اختفى في العهد النبوي وعهد الخلفاء الراشدين، وبدأ يعود في عهد معاوية، ومؤسّس الدولة الأموية (41-132هـ/ 662-750م).
عاد التنجيم بيد معاوية نفسه، ثم نما واستفحل في العصر العبّاسي، خاصّة في عهد أبو جعفر المنصور، حتى أنه صار يتحكّم في أعظم أمور الحكم، ومستقبلِ الإمبراطوريّة الإسلاميّة، بل وصل المُنجّمُ إلى درجة وزير.
ما سبق عن تأثّر العرب بالتنجيم وكيفيّة استخدامه كان موضوع دراسة بعنوان "الخليفة والمنجّم: سياسة التنجيم الحكمي في بدايات العصر العبّاسي - الخليفة المنصور وتحفيز ثقافة التنبؤات" للدكتورة عبير عبد الله عبد الوهاب العباسي، الباحثة بكلية الأداب والعلوم الإنسانية بجامعة الملك عبد العزيز، بالسعودية، والتي أثبتتْ من خلاله أن السياسة أو بمعنى أدق التأثير على أذهان الشعب، لتمرير ممارسات سياسيّة، كانت هي المحفّز الأساسي للتنجيم الإسلامي.
كيف استعان الخلفاء المسلمين بالتنجيم؟ وفيم استخدموه؟ وكيف انتهى؟ وكيف عاد العرب إلى التنجيم؟ هذا ما تتناوله السطور التالية.
منع الإسلام أي نوع من علوم العِرَافَة، ومنها التنجيم، وفقا لآيات قرآنيّة وأحاديث نبويّة كثيرة، تحصر علم الغيب عند الله فقط، ولكن يخبرنا ابن طاووس أن معاويّة هو أوّل من حاول استعادة علم التنجيم، كعودة إلى "قاعدة الأكاسرة" و"سنن الجبابرة" و"إعراض عما يصحّ منه علوم الدنيا والآخرة"، بحسب نصّ ابن طاووس.
ويذكر الزمخشري (تـ 583هـ - 1134م) في كتابه "ربيع الأبرار ونصوص الأخبار" أن معاوية أمر دغفل بن حنظلة (تـ 65هـ - 685م) نسّابة العرب، أن يعلّم ابنه يزيد (ثاني خلفاء بني أمية) 3 علوم وهي: العربية والأنساب و"النجوم".
ورغم محاولة معاوية، إلّا أن التنجيم ظلّ صوته ضعيفاً طيلة العهد الأموي، لقرب الناس بعهد النبي - إذ قامت الدولة الأمويّة عام 41 هجرية- ولم يبرز بقوّة إلا في عهد أبوجعفر المنصور (95 هـ / 714 ــ 158 هـ / 775)، الخليفة العباسي الثاني، والمؤسّس الحقيقي للدولة العباسية.
وبحسب تاريخ الطبري، شاع بين الناس أن المنصور كان لديه مرآة، يرى فيها عدوّه من صديقه، وكانت هذه المرآة جزءاً من مرآة كبيرة امتلكها الخليفة الأموي مروان بن محمد وكان يرى فيها ما يكرهه فكسرها، وحين تولى المنصور بحث عن قطعة منها واقتناها.
وتعود المرآة في الأصل إلى آدم (أبو البشر)، الذي خلقت له المرآة عوضاً عن حساب النجوم التي أرهقه دراستها لمعرفة الغيب، فكان يستخدم تلك المرآة ليرى فيها مايريد، بحسب الطبري. وهذه الرواية توضّح أن المنصور لم يأت بجديد في الاهتمام بالتنجيم، بل أن للأمر حضوراً في المخيّلة الإسلامية، واستثمر المنصور ذلك باحترافية لتوطيد حكمه كما سنرى.
في عهد المعتصم ابن الرشيد (833- 842م/ 218-227هـ) شهد التنجيم ضربةً قوية أنزلته من عليائه، وذلك بعد ما حققه المعتصم من انتصارات في فتح عمورية الشهير (838م)، على خلاف رأي المنجّمين الذين حذّروه من خوض المعركة في الشتاء، لأن - بحسب نبوءاتهم- انتصاره لن يحدث إلا بموافقة موسم حصاد التين والعنب (الصيف). وهو ما لم يستمع له المعتصم وعمل بخلافه، ثم جعل من منجّمي البلاد أضحوكة العصر، فلم تقم لهم من بعده قائمة.
لعل تلك النهاية جاءت مدعومة بميل الثقافة الإسلامية إلى مزاج معرفي مختلف، لم يعد يجد ما يرضيه في النتجيم.
ووثّق ذلك شعراء وأدباء، منهم أبو تمام في قصيدته الشهيرة، التي توضّح أن سيف المعتصم أصدق من إنباء المنجمين وكتبهم، والتي تبدأ بـ:
السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ في حدّهِ الحدُّ بينَ الجِدِّ واللَّعبِ
وفيها أيضاً:
أَيْنَ الروايَة بَلْ أَيْنَ النُّجُومُ وَمَا صَاغُوه مِنْ زُخْرُفٍ فيها ومنْ كَذِبِ
المنصور وبداية معرفته بالتنجيم
يروي ابن كثير في "البداية والنهاية"، أن معرفة أبوجعفر المنصور بمنجّمه الأول "نُوبَخْت المجوسي"، كانت في أحد سجون بني أمية، وأن الأخير توسّم في المنصور الرئاسة أول ما رآه، وقال له مستفسراً: ممن تكون؟ فقال: من بني العباس. فلما عرف منه نسبه وكنيته قال له: أنت الخليفة الذي تلي الأرض. فردّ المنصور: ويحك، ماذا تقول؟ فرد المنجّم واثقاً: هو ما أقول لك، فضع لي خطّك في هذه الرقعة أن تعطيني شيئاً إذا وُليت. فكتب له المنصور، فلما تولّى الخلافة أعطاه المنصور ما خطّه في الرقعة من وعود. ويذكر ابن كثير أن نُوبَخْت أسلم على يدي المنصور، ثم كان من أخصّ أصحابه. وفي رواية أخرى على لسان نُوبَخْت نفسه، يقول فيها إنه حين كان مسجوناً في سجن الأهواز مع المنصور، أخبره يوماً أنه "رأى في الأحكام النجوميّة" أن المنصور سيملك "ما في هذا البلد حتى فارس وخراسان والجبال". وتوضح الدكتورة عبير أن الرواية الثانية أكثر إحكاماً من رواية ابن كثير، لأنها توضّح أن نُوبَخْت عَلِم بخلافة المنصور المستقبليّة من خلال ما قرأه مسبقاً في "الأحكام النجومية"، أما الرواية الأولى فلم تذكر كيف نَجّم نُوبَخْت وهو في الزنزانة محبوساً، بلا جهاز الإسطرلاب الذي يكشف حركة الأجرام السماويّة، أو أي أدوات تنجيميّة. كان للعبّاسيين خصوم كثر حين اعتلوا كرسي الخلافة، وأهمّهم الأمويون، الذين ورث العباسيون الحكم منهم، والعلويون الذين اعتبروا العباسيين خائنين للعهد معهم، إذ كانوا حلفاء للعباسيين وأبناء عمومتهم، وجميعهم ينتمون لبني هاشم، وكانوا في خندق واحد في الدعوة المضادة للأمويين، لتمكين بني هاشم (قبيلة النبي) من الحكم، تحت شعار "الرضا من آل محمد"، ولكن العبّاسيين نقضوا العهد، وأقصوا الفرع العلوي، لينفردوا بالحكم. لم يمكث الخليفة العباسي الأوّل أبوالعباس السفّاح في الحكم سوى 4 سنوات، وترك الدولة للمنصور في حالة اضطراب، حبلى بثورات وتمرّد، وكان التنجيم أداةً مهمّة للتواصل بين المنصور وبين شعبه، ولم يكن حقيقة يؤمن به - حسبما ترى عبير عبدالله- ولكنه خلق مناخاً ثقافياً قابلاً له، واستخدمه ليجعل الناس يقبلون بقراراته ويطيعونه، بل يقبلون بجرائمه، كما سيتضح. كان المنصور، والعباسيون عموماً في بداياتهم، يريدون بكلّ السبل توطيد حكمهم وإعطائه مشروعية، وجعْل الخلافة العباسية "شرعيّة، حتميّة، أبدية" كما تصوروا. فتارة يستخدمون تفسيرات معينة ويلوون عنق نصوص القرآن والأحاديث، وأخرى يوظفون كل المعارف الغيبية، خاصّة ذات الهدف التنبؤي أو التي تميل للسحر كـ"الكهانة، العرافة، علوم الخواص، الميتافيزيقا" تقول عبير عبدالله. ويدعم ذلك ما عُرف عن المنصور، بأنه اهتمَّ بترجمة كتب التنجيم. وتشير عبير إلى قصة متداولة في كتب التراث، عن وفد هندي قَدِم على المنصور عام (154هـ - 771 م)، وفيهم رجل ماهر في معرفة حركة الكواكب وحسابها على مذهب كتاب اسمه باللغة السنسكريتية "براهْماسْبُهُطسِدْهانت"، فكلّفه المنصور بكتابة مختصر لهذا الكتاب، ثم أمر بترجمته واستخراج كتاب منه يتخذه العرب أصلاً في حساب الكواكب، وما يتعلّق بها من أعمال، وبالفعل خرج الكتاب وشاع بين العوام باسم "سِدْهانت"، ثم حرف إلى "السند هند". ويذكر المسعودي في "مروج الذهب" أن المنصور كان أول خليفة يقرب المنجّمين ويعمل بأحكام النجوم، وكان المنجّمون القريبون منه هم: "نُوبَخْت المجوسي"، و"إبراهيم الفرازي"، و"علي بن عيسى الإسطرلابي".شاع بين الناس، بحسب الطبري، أن الخليفة العباسي المنصور كان لديه قطعة من مرآة يرى فيها عدوّه من صديقه، وأنها تعود لآدم أبو البشر، خُلقت له عوضاً عن حساب النجوم التي أرهقه دراستها لمعرفة الغيب
وبحسب تاريخ الطبري، شاع بين الناس أن المنصور كان لديه مرآة، يرى فيها عدوّه من صديقه، وكانت هذه المرآة جزءاً من مرآة كبيرة امتلكها الخليفة الأموي مروان بن محمد وكان يرى فيها ما يكرهه فكسرها، وحين تولى المنصور بحث عن قطعة منها واقتناها.
وتعود المرآة في الأصل إلى آدم (أبو البشر)، الذي خلقت له المرآة عوضاً عن حساب النجوم التي أرهقه دراستها لمعرفة الغيب، فكان يستخدم تلك المرآة ليرى فيها مايريد، بحسب الطبري. وهذه الرواية توضّح أن المنصور لم يأت بجديد في الاهتمام بالتنجيم، بل أن للأمر حضوراً في المخيّلة الإسلامية، واستثمر المنصور ذلك باحترافية لتوطيد حكمه كما سنرى.كيف استعان الخلفاء المسلمين بالتنجيم؟ وفيم استخدموه؟ وكيف انتهى؟ وكيف عاد العرب إلى التنجيم؟
كان المنصور، والعباسيون عموماً في بداياتهم، يريدون بكلّ السبل توطيد حكمهم، وجعْل الخلافة العباسية "شرعيّة، حتميّة، أبدية"
كيف أثر التنجيم في تأسيس بغداد، المدينة التي "لا يموت فيها خليفة من الخلفاء أبداً"؟
الدولة العباسية: مباركة إلهية تدعمها الطبيعة
تفسير الظواهر الطبيعية كحقائق تدعم حكم العباسيين، كانت من الأمور التي استُخدم التنجيم فيها، فالمُنجّم الشهير ماشاء الله ابن الأثري اليهودي (توفي تقريبا عام 199هـ - 815م) فسّر تحويل التثليث الذي حصل في 19 مارس 571، بأنه يُنبئ ببزوغ فجر الإسلام وهيمنة العرب على غيرهم من الأمم، ويوضح أن الاقتران الذي حدث بين كوكبي المشترى وزحل في تاريخ التثليث (19-3-571) ما هو إلا دلالةً على نهاية دولة الأموييّن وابتداء العهد العباسي، بحسب مخطوطة عن "ماشاء الله" تناولتها دراسة لباحثين من جامعة هارفارد. رصدت نفس الدراسة تكرار نفس الظاهرة الفلكية في الانقلاب الربيعي لعام 749م، وفسّرها المنجم أبو الفضل أحمد بن طاهر طيفور (تـ280هـ - 893م) بأنها كانت نبوءة بتولّي الأئمة من بني هاشم الحكم، وهو انقلاب وصفه طيفور بـ"الانقلاب الكلّي في الدين والمُلْك".التنجيم والاغتيال السياسي
ويخبرنا الحميري في كتابه "الروض المعطار في خبر الأقطار"، أن نبوءة سَرَت في الآفاق تفيد بمكانة قياديّة مرموقة لأبي مسلم الخراساني (745-718 /137- 100)، يستحق عليها لقب "مُمِيت دولة ومُحيى دولة أخرى". وكان أبومسلم هو القائد الأهمّ على الإطلاق للجيوش العباسية، حيث حقّق الانتصارات التي أوصلت بني العباس للحكم. بناءً على النبوءة استشعر المنصور الخطر على عرشه، فأشاع نبوءة أخرى بأن أبو مسلم سيُقتل في أرض الروم، تصادفت مع نبوءة قديمة تفيد بأن أبو مسلم سيُقتل فعلاً في أرض الروم، ما جعل أبو مسلم يصدّق النبوءة الجديدة. بعدها توجّه المنصور مع أعوان له من الأنبار إلى مكان يقارب في مسماه الموقع المُتَنَبّأ لأبي مسلم أن يموت فيه، حيث توجّه إلى "روميّة المدائن" التي تبعد عن بغداد مسيرة يوم، وهناك كتب إلى أبومسلم أن يسير إليه. وعند وصول أبومسلم، أمر المنصور بقتله، ليبدو الأمر وكأنه تَحَقُق للنبوءة السابقة، خوفاً من غضب الفرس، ويبرّر المنصور الأمر على أنه قدر.التنجيم وحروب العباسيين
في أوقات الحروب كان للتنجيم دوراً هامّاً، ويذكر ابن مسكويه في كتابه "تجارب الأمم"، ما ينبّه إلى أن التنجيم كان من أسباب ثبوت المنصور عند مجابهة ثورة محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، الشهير بـ"النفس الزكية"، وأخيه إبراهيم، حيث أخبره المنجّم "الحارثي" عندما استشعر جزعه: يا أمير المؤمنين ما يجزعك منه؟ فوالله لو ملك الأرض ما لبث إلا تسعين يوماً". وبالفعل قُتِل "النفس الزكية" بعد خروجه على المنصور بأقل من 90 يوماً. ويذكر ابن مسكويه أن نُوبَخْت المنجّم أَثبَت المنصور في قتال إبراهيم (الأخ الأصغر للنفس الزكية)، حين همّ المنصور بالعدول عن قتاله، بعد أن التحم الفريقان، فقال له: يا أمير المؤمنين، الظفر لك، وستقتل إبراهيم! فيرفض المنصور ابتداءً تصديق الخبر، فيحاول المنجّم جعل المنصور يصدّقه، فيقول: "احبسني عندك، فإذا لم يكن الأمر كما قلت، اقتلني" فبينما الأمر كذلك، إذ جاءت الأخبار بهزيمة إبراهيم ومقتله. وكان المنصور قد استعان بالتنجيم في تقوية عزيمة قائده "عيسى بن موسى" حين أرسله لقتال إبراهيم، حيث ذكر له قبل توجهه للمعركة، أن المنجّمين تنبؤوا بانهزام جيشه ابتداءً، وانتصاره أخيراً، حيث يقول له: إن هؤلاء الجبناء - يقصد المنجمين - يزعمون أنك لاقٍ الرجل - أي إبراهيم- وإن لك جولة حين تلقاه ثم تفيء إليك أصحابك، وتكون العاقبة لك. تشير المصادر التاريخية إلى أن المنصور لم يرسل عيسى للقاء إبراهيم إلا ليتخلّص منه، فقد كان عيسى وليّاً لعهده، حسبما أوصى الخليفة العباسي الأول "السفاح"، وكان المنصور يريد أن يجعل ولاية العهد لابنه "المهدي"، وسبق وحاول المنصور قتل عيسى بالسم ولكنه نجى، تقول عبير عبدالله. وتستدلّ عبير من ذلك، على أن المنصور لم يكن يؤمن بالتنجيم أو النبوءات فعلياً، وكان يختلق بعضها هو أو معاونيه ليستخدمها في تحقيق أهدافه.تأسيس بغداد: المدينة التي "لا يموت فيها خليفة من الخلفاء أبداً"
نَقْلُ عاصمة الدولة العباسية من مدينة هاشمية إلى أخرى، وتأسيس بغداد، لم يتمّ إلا بعد استشارة المنجمين، ليخبروا المنصور عن أفضل الأماكن وأنسب الأوقات لرمي أساسات مدينته الجديدة. وعن ذلك يخبرنا البيروني في كتابه "الآثار الباقية عن القرون الخالية" أن رئيس منجّمي القصر وقتها (نُوبَخْت)، أمر أن يكون البناء ابتداءً من الثالث والعشرين من تموز من سنة ألف وأربع وسبعين للإسكندر، الموافق 26 ربيع الثاني 145هـ، 23 يوليو من عام 762م. وبعد بناء بغداد يسترشد المنصور بمنجّميه في معرفة طالع المدينة، فإذا طالعها كما يخبره المنجمون يُظهر المُشتَري في برج القوس، ما يُثبت طول زمانها وكثرة عمارتها وانصباب الدنيا إليها، ويزيد أحد المنجّمين: وأبشر يا أمير المؤمنين - أكرمك الله - بخلّة أخرى من دلائل النجوم: "لا يموت فيها خليفة من الخلفاء أبداً". فيبتسم الخليفة لهذه النبوءة الضامنة لثبات واستمرارية حكم العبّاسييّن، ويَرُدّ بما يوحي بأن هذه الدلالات النجومية هي تأيّيد ربّاني لملكه وملك أولاده، أحفاد العباس عمّ النبي، فيقول: "الحمد لله، ذلك فضل من الله يؤتيه من يشاء والله ذو فضل عظيم". وأشاع المنصور حين بدأ في بناء بغداد، أنه التقى راهباً فناداه وسأله: "تجدون في كتبكم أنه تبنى هاهنا مدينة؟ فأجابه الراهب: نعم، يبنيها مِقْلاصٌ، فيردّ "المنصور": أنا كنت أُدعى مِقلاصاً في حداثتي"، فيرد الراهب: "أنت إذاً صاحبها"، بحسب ما جاء في تاريخ الطبري. وفي قصّة أخرى رواها الطبري عن بناء مدينة الرافقة في أرض الروم (تقع بالقرب من الرقة السورية)، حيث اعترض أهل الرقة على بناء المدينة الجديدة، وأرادوا محاربة المنصور، وقالوا: "تُعطّل علينا أسواقنا، وتذهب بمعاشنا، وتضيق منازلنا!" فَهَمّ المنصور بمحاربتهم، وأشاع أنه بعث إلى راهب في صومعة، فحين أتاه قال له: "هل عندك علم أنه يُبْنى هاهنا مدينة؟ فقال: "بلغني أن رجلاً يقال له مِقْلاص يبنيها"، فقال: "أنا مِقْلاص". وبناها. النبوءات إذاً على اختلاف مصادرها، تلعب دور الوسيط بين المنصور وشعبه، لإقناعهم بأوامره، ويتفادى بها مواجهة معهم.التنجيم بعد المنصور.. كيف حصل المنجم على لقب وزير؟
في عهد المهدي الذي أتى بعد المنصور لم يحقق التنجيم توسّعاً، لأن المهدي كان يريد أن يظهرَ بمظهر الرجل التقيّ، إلا أن هناك إشارات توضّح أنه كان يؤمن به، ولكنه لم يحب أن يُظهر ذلك، بحسب عبير عبد الله. أما عهد الهادي الذي خلف المهدي فقد كان قصيراً، وكان عُمر الهادي عموماً قصيراً، وكان المُنجّمون قد تنبئوا بذلك، وفقاً لحساب النجوم وما أنبأت به وقت ميلاده. واستُخدمتْ نبوءة قِصَر حياة الهادي في وقت لاحق، للترتيب لتولّي أخيه هارون الرشيد الحكم؛ فقد كان موسى الهادي يريد أن يخلع أخيه هارون من ولاية العهد ويجعلها في ابنه جعفر بن موسى، وهنا لعب يحيى بن خالد بن برمك دوراً هاماً. كان ابن برمك هو راعي الرشيد ومربيه، وكان حريصاً على إيصاله للحكم، فأوصى الرشيد بعدم مواجهة أخيه الهادي، والسعي وراء اللهو والصيد وإبداء عدم الاكتراث بأمر الحُكم، مؤكدا له أن أيام أخيه في الحكم قليلة، وفقا لنبوءة قِصَر عمره. وفي الوقت نفسه همس ابن برمك إلى موسى الهادي بأن لا يوصي لابنه بولاية العهد، لأن ابنه لا زال صغيراً (لم يبلغ الحلم)، وإذا ولّاه سيثور الناس على الهادي نفسه، والأفضل الإبقاء على الرشيد ولياً للعهد ولو بشكل مؤقّت، وفي كل الأحوال فإن الرشيد ليس مشغولاً بأمر الحكم، ومهتمٌّ باللهو.. وبالفعل انخدع الهادي واقتنع. نجح تخطيط البرمكي، وصدقت النبوءة ولم يبق الهادي في الحكم إلا عام و3 أشهر، وتولّى الرشيد، بحسب ما ذكر المسعودي في "مروج الذهب". وصول الرشيد للحكم، بدعم وتخطيط البرمكي، جعل لأسرة البرامكة نفوذاً شديداً في عهد الرشيد، وفي ظلّ ما عُرف عنهم من معرفة بالتنجيم وممارسته، ارتقى معهم منصب المُنجّم إلى رتبة وزير. ورغم ما حصل للمنجّمين من نكبة في أواخر عهد الرشيد، مع نكبة البرامكة، عادت مكانتهم من جديد في عهد المأمون بن الرشيد، لما كان لهم من مواقف ناصروه فيها ضد أخيه الأمين، بحسب ما ذكر الجهيشاري في كتابه "الوزراء والكتاب". ويذكر ابن خلدون في مقدمته: "أن ملك زابلستان بعث إلى المأمون بحكيمه ذوبان، أتحفه به في هدية، وتصرف للمأمون في الاختيارات بحروب أخيه الأمين، وبعقد اللواء لطاهر، وأن المأمون أعظم حكمته فسأله عن مدة ملكهم، فأخبره لانقطاع الملك من عقبه واتصاله في ولد أخيه، فسأله: من أين لك هذا؟ فقال: من كتب الحكماء ومن أحكام صصة بن داهر الهندي الذي وضع الشطرنج". وتُبين الحكاية كيف أن المنجّمين أصبحوا مفردة هامّة في قائمة الهدايا بين الملوك خلال هذا العصر، ويكشف عن المكانة المهمّة التي تبوّأها المنجمون في قصر المأمون. ومن المعروف أن حركة الترجمة بلغتْ أوجها في عهد المأمون، وأَثْرت بالطبع علمَ التنجيم عند العرب بالكثير من المؤلّفات. كذلك فقد صاهر المأمون أسرة بني سهل التي اشتهرتْ بالتنجيم، وتقلّد أفرادها الكثير من المناصب الوزارية في عهده.كيف انتهى التنجيم في البلاط العباسي؟
أَيْنَ الروايَة بَلْ أَيْنَ النُّجُومُ وَمَا صَاغُوه مِنْ زُخْرُفٍ فيها ومنْ كَذِبِ
" بيت جاء رداً على المنجمين ترافقاً مع انحسار شعبيتهم في المجتمع الإسلامي
في عهد المعتصم ابن الرشيد (833- 842م/ 218-227هـ) شهد التنجيم ضربةً قوية أنزلته من عليائه، وذلك بعد ما حققه المعتصم من انتصارات في فتح عمورية الشهير (838م)، على خلاف رأي المنجّمين الذين حذّروه من خوض المعركة في الشتاء، لأن - بحسب نبوءاتهم- انتصاره لن يحدث إلا بموافقة موسم حصاد التين والعنب (الصيف). وهو ما لم يستمع له المعتصم وعمل بخلافه، ثم جعل من منجّمي البلاد أضحوكة العصر، فلم تقم لهم من بعده قائمة.
لعل تلك النهاية جاءت مدعومة بميل الثقافة الإسلامية إلى مزاج معرفي مختلف، لم يعد يجد ما يرضيه في النتجيم.
ووثّق ذلك شعراء وأدباء، منهم أبو تمام في قصيدته الشهيرة، التي توضّح أن سيف المعتصم أصدق من إنباء المنجمين وكتبهم، والتي تبدأ بـ:
السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ في حدّهِ الحدُّ بينَ الجِدِّ واللَّعبِ
وفيها أيضاً:
أَيْنَ الروايَة بَلْ أَيْنَ النُّجُومُ وَمَا صَاغُوه مِنْ زُخْرُفٍ فيها ومنْ كَذِبِ
[blockquote]
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...