"السترات الصفراء" حراكٌ احتجاجيّ شعبيّ تعيش على وقعه فرنسا منذ منتصف نوفمبر، الهدف منه الضغط على الحكومة حتى تتراجع عن زيادة الرسوم على المحروقات وكبح الضرائب المرتفعة ورفع المقدرة الشرائيّة التي توشك على الانهيار.
يعود أصل التسمية “السترات الصفراء” Les gilets jaunes بالفرنسيّة إلى السترات التي يرتديها العمال وكذلك السائقون عند معاينة سياراتهم بعد الحوادث، حتى يتبيّن لونها الفوسفوري في جنح الظلام، تلك السترات ارتداها بالفعل المحتجّون في فرنسا وأطلقوا اسمها على احتجاجهم، ورغم وضوح مطالبهم، الفرنسية بامتياز، والتي شابت مظاهر التعبير عنها أعمال عنف، إلا أن بعض وسائل الإعلام العربية صمّمت على إقحام عناصر عربية منبوذة في مجتمعاتهم في هذا الحراك الأصفر، وحمّلتها دوراً في المظاهرات.
بعض وسائل الإعلام العربية ورجالها المقرّبين من الأنظمة الحاكمة، استغلّوا فرصة المظاهرات في فرنسا لتصفية الحسابات مع تنظيمات معارضة في بلادهم، فخرج بعضهم ليتحدّث بكثير من الجديّة عن "أيادي الإخوان في حراك السترات الصفراء"، معتقدين أن الجمهور لا يفهم أو ربما لأن جزءاً منه لا يُتقن الفرنسيّة فسهل الضحك عليه "بأي كلام" وبتغيير الوقائع، هذا التدليس لم يشارك فيه الإعلام فقط بل بعض الناشطين العرب في مواقع التواصل الاجتماعي الموالين للحكومات المناهضة للثورات العربية، وقد عمد الصنف الثاني إلى إجراء مقارنة بين إجراءات القمع التي تقوم بها بلدانهم وتجاوزات الشرطة الفرنسيّة لإثبات شرعيّتها في كبح جماح المظاهرات وتبرير الانتهاكات العديدة التي تحصل في دول الضفّة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، بمنطق "هل رأيتم؟ ليست بلادنا فقط من تمارس القمع، حتى فرنسا تفعل ذلك".
من هم محتجّو السترات الصفراء؟
السترات الصفراء التي ارتداها المحتجّون، وحملت اسم حراكهم، تتعلّق بالسترات الفوسفورية المضيئة التي يتوجّب على كل سائق سيارة ارتداؤها إذا ما تعرّض لحادث، وعلى سائقي الدراجات في بعض الدول الأوروبية ارتداؤها لحمايتهم على الطرقات، هي عموماً سترات الهدف منها تنبيه اللابسِ للناظر: هل تراني؟ وربما هذه هي الرسالة القوية للنظام: أنا هنا هل تراني؟ بلغ عدد المشاركين في الاحتجاجات عشرات الآلاف، من الطبقة المتوسطة ودونها لكن هناك كذلك بعض المشاركين من مديري المؤسسات (وهذا لافت) إلى جانب دخول عنصر جديد هم أنصار اليمين المتطرف.استغلت بعض وسائل الإعلام العربية فرصة المظاهرات في فرنسا لتصفية الحسابات مع تنظيمات معارضة في بلادهم، فخرج بعضهم ليتحدّث بكثير من الجديّة عن "أيادي الإخوان في حراك السترات الصفراء" معتقدين أن الجمهور لا يفهم أو ربما لأن جزءاً منه لا يُتقن الفرنسيّة فسهل الضحك عليه "بأي كلام" وبتغيير الوقائع
عمد البعض إلى إجراء مقارنة بين إجراءات القمع التي تقوم بها بلدانهم وتجاوزات الشرطة الفرنسيّة لإثبات شرعيّتها في كبح جماح المظاهرات وتبرير الانتهاكات العديدة التي تحصل في دول الضفّة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، بمنطق "هل رأيتم؟ ليست بلادنا فقط من تمارس القمع، حتى فرنسا تفعل ذلك".لم تخلُ المظاهرات من صدامات بين المحتجّين والشرطة التي استخدمت الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه لتفريقهم واعتقلت أعداداً منهم، وخلال الاشتباكات بين المحتجّين وقوات الأمن رشق المتظاهرون عناصر الشرطة بمقذوفات مختلفة وتحصّنوا خلف متاريس بنوها بشكل بدائي، في حين ردّت عليهم عناصر الدرك وشرطة مكافحة الشغب بقنابل الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه. وكان وزير الداخلية الفرنسي كريستوف كاستانير قد أكّد أن من بين المتظاهرين أعضاء من اليمين المتطرف يرغبون في مهاجمة المؤسسات، كما شوهد متظاهرون ينزعون حجارة الأرصفة. رغم وجود مظاهر عنف، إلا أن الحراك لم يكن برمّته عنيفاً، سلوك العديد من المتظاهرين كان سلمياً على مدى أيام، وقالت إحدى المتحدثات باسم السترات الصفراء ليتيسيا ديوالي (37 عاماً) لوكالة الصحافة الفرنسية "لسنا هنا للاعتداء على الشرطة، لقد جئنا من أجل أن تستمع الشرطة إلينا، من أجل أن تستمع إلى الشعب، نحن لسنا بصدد تحرّك سياسيّ أو نقابيّ، نحن نستنكر عنف المتظاهرين المزيّفين". هذا الحراك استمدّ شرعية شعبية، إذ كشف استطلاع للرأي أجراه معهد "بي في آ" أن 72 ٪ من الفرنسيين يؤيّدون مطالب السترات الصفراء.
علاقة الإخوان وعرب شمال إفريقيا بالسترات الصفراء
رغم وضوح “ فرنسيّة” الحراك وارتباطه بالخصوصيّة الفرنسيّة، تصرّ وسائل إعلام عربية وإعلاميون وناشطون على إقحام حركات مثل الإخوان المسلمين أو فئة سكّانية مثل مواطني شمال إفريقيا في الاحتجاجات الفرنسية. في مصر على سبيل المثال خرج الإعلامي والصحافي محمد الباز في حلقة تلفزيونية من برنامجه "90 دقيقة" المُذاع على فضائية "المحور" قائلاً إن التظاهرات التي وصلت حدّ المطالبة برحيل الرئيس الفرنسي ماكرون، تقف خلفها جماعات في هذا العالم تسعى لعدم استقرار الدول ومنها جماعة الإخوان "الإرهابية" مضيفاً بثقة شديدة أن التنظيم الدولي للإخوان يقف بقوّة خلف أحداث فرنسا. وتعتبر مصر جماعةَ الإخوان جماعةً إرهابيّة، منذ أن عزل الجيش المصري الرئيسَ المنتمي للجماعة محمد مرسي في العام 2013، والباز واحد من الإعلاميين المصريين المقرّبين من النظام الحاكم ويتبنّى وجهة نظره. لم يفت الباز أن يؤكّد في حلقته أيضاً أن التجمّع الإخواني المشارك في أحداث فرنسا مدعوم من الدوحة. الإعلامي المصري ليس الوحيد، حيث خرجت تقارير من وسائل إعلام عربيّة عديدة خصوصاً المصريّة والإماراتيّة تتبنى نفس وجهة النظر، وهي أن الإخوان ومن خلفهم الدوحة يلعبون دوراً في دعم "عدم استقرار فرنسا". و نشرت صحيفة المصري اليوم تقريراً نقلاً عمن أسمتهم "الخبراء والمتخصّصين في شؤون الحركات الإسلامية"، تزعم فيه أن بعض "العناصر السريّة" التي تنتمي للتنظيم الدولي لجماعة الإخوان، ضالعون في المظاهرات والاحتجاجات التي تجتاح فرنسا منذ أيام. الكثير من الفرنسيين المشاركين في الاحتجاجات ربما لا يعلمون أصلاً ما هي جماعة الإخوان أو ربما لم يسمعوا عن الدوحة من قبل، ربما يضحكون إذا علموا أن هناك وسائل إعلام عربيّة تتهمهم بأن بينهم إخوان ومدعومين من دول أخرى لتخريب بلدهم. وكان لمواطني شمال إفريقيا نصيب من الاتهامات، حيث كتب الصحافي السعودي محمد يحيى القحطاني عبر حسابه على تويتر تغريدة اعتبر فيها أن "المجنّسين من تونس والمغرب والجزائر، هم الصداع النصفي المزمن في فرنسا" في تلميح إلى أن الفرنسيين ذوي الأصول المغاربية هم السبب في الاحتجاجات الأخيرة، بسبب أنهم "جزء من مشكلة البطالة والجريمة والإرهاب والمخالفات القانونية"، بحسب تغريدته. وقد فاته أن هؤلاء مواطنون فرنسيون كاملي الحقوق. حديث القحطاني الذي وصفه مستخدمون للموقع بالعنصري كان مشابهاً لتغريدات أخرى تحمل المعنى نفسه، لكن في المقابل ظهرت تغريدات ساخرة من الأمر ومن محاولة الترويج لفكرة عنصريّة، واعتبر بعض العرب في مواقع التواصل أن القريبين من السلطة يظنون أنهم يعلمون كواليس ما يدور في فرنسا أكثر من الفرنسيين أنفسهم. ويظهر تعاطي بعض المواقع والمستخدمين العرب مع الأزمة الفرنسية أن نظرية "المؤامرة" جزء مهم من تفكير البعض، فلا يصدّق أن شعباً يمكنه التحرّك بمفرده والاعتراض على بعض القرارات الحكومية دون حاجته لأيادٍ خارجيّة للقيام بذلك، فقانون التظاهر يكفل حرية التظاهر للمواطنين في الأنظمة الديمقراطية، فيما يقبع مواطنون في دول الضفة الجنوبية من المتوسط في السجون دون محاكمة ودون توجيه تهمة وفي ظلّ صمت جزء كبير من إعلام بلادهم الذي اشتبه عليه صاحب السترة الصفراء بصاحب الجلباب فأصبح يرى الإخوان في كل مكان.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...