أستيقظ صباحًا ورغبتي في الحياة تكاد تكون معدومة. أعاني فقر دمٍ حادًّا، هكذا وصّفت طبيبتي حالتي بعد مرور شهر ونصف على إحساسي بالخمول والخدر طوال الوقت. لست في سريري، أنظر حولي عساني أجد تفصيلاً واحدًا أعرفه في هذه الغرفة. نومٌ عميقٌ يسرقني من الصحوة، يرنّ جرس المنبّه من جديد، للمرّة العاشرة، تقول لي "أميمة": "يارا، لازم انوضوا" (نستيقظ باللهجة الليبيّة).
إنّها الساعة السابعة والنصف صباحًا في توقيت عمّان، اليوم مشابه لأمس، لا جديد سوى ذاك الوجع الذي يجتاح قلبي، يعتصره.
لا يتراءى أمامي سوى سؤال واحد، أعيده لنفسي في محاولة النهوض من السرير: كيف أتجاوز كلّ هذا الحزن؟هل أعدّ أحدكم لائحةً للحزن من قبل؟ لاحظت للمرة الأولى أنّ لي أنشطة تتكرّر في حالات الهلع وفقدان الأمل والخيبة. حين توجّهت اليوم إلى شيرين، مصففة شعري، فتحتُ باب "صالون الحلاقة" سريعًا دون أن ألقي السلام، وقلت لها: "شيرين بدّي غيّر لون شعري". ضحكت شيرين، نظرت إليّ وأجابت سريعًا: أصلًا صار وقت الصبغة!!"، وقلت لها: "بس بدّي هيدا اللون!".فتحت هاتفي الذي ما زلت أصرّ على حمله منذ سنتين تقريبًا، رغم كلّ المشاكل التي يعانيها، وأشرت الى الصورة: "هيدا اللون شيرين"، فقالت: " لا يارا مش رح أعملّك شعرك أحمر، ما صدّقت فتّحلك ياه من شهر ونصّ، شو قصتك؟".كدت أبكي، لا أمزح، كادت الدموع تسبق أيّ كلمة يودّ فمي أن ينطقها، سارعت: "طيّب، منغمّق شوي، وقبل رأس السنة بعملّك ياه purple بس لون حلو، بيكون تغيير على السنة الجديدة".
لم أكن حتى تلك اللحظة أفكّر بالسنة الجديدة، ولا ليلة رأس السنة، كنت أحاول خلال الأيّام الأخيرة تفادي الغوص في عقلي والعاصفة التي تجتاحه. اكتفيت بالجلوس على كرسيّ الاعتراف، لا أريد القتال حتى على لون أرغب في رميه على رأسي علّه يتوهّج فرحًا بشيء ما.
طوال حياتي، كان شعري ملاذي الأوّل في الحزن، يتماهى مع قلبي بألوانه، يمسي قوس قزح في أيّامي الماطرة. وكلّما اشتدّ المطر، أزيح طبقات منه كمن يزيل غمامة عن قلبه ببضعة سنتيمترات من الشعر. ليصبح أقصر فأقصر، وتكبر الابتسامة شيئًا فشيئًا بالتغيير.
بداية جديدة ربما أو قطع أوصال عمّا مضى، لا أعلم. كلّ ما أدركته عند شيرين، أنّ باب حزني الأوّل هو الشعر الذي للمرة الأولى أجاهد في إقناع عاطفتي بالتخلّي عنه ويأبى القلب هذا الفعل.
لا أفقه ما هو التفسير لكلّ هذه الأفعال الاّ أنّني عقرب، والعقرب برجٌ عاطفيّ لأبعد الحدود، وأضيف إلى هذه الصفة أنّ ذاكرته من حديد، فلم تخنّي يومًا في استحضار ما فات من الماضي. نحن العقارب نعيش على الذكريات، تفاصيلها، حتى الأدقّ منها. وهنا لا بدّ لي أن أعود الى سلسلة علاقاتي، وهي ليست كثيرة، مرّت أمامي كومضات سريعة تتباطأ مع دنوّي من الأحزان، خاصة أكثرها وجعًا وأسى. ولكنّ المتشابه في كلّ تلك العلاقات، حاجتي للشراء، شراء الكثير من الثياب والأحذية والحقائب. موجة فائضة تنقضّ على محفظتي لإلباس روحي العارية والجوف الفارغ الذي لا يشبعه طعام.
باب حزني الثاني يحمله باعة في شوارع الحمراء في بيروت، وبضاعة مكدّسة على الرفوف، اقتلع منها أطرافًا كي أحشو بها جذوري.
بابٌ لم أُجِد حتى هذه اللحظة فتحه في أسواق عمّان المزدحمة بالمولات والأسواق التجارية.
لمن يتساءل عن نصّي الداكن اليوم، ألقي أمامكم باب حزني الثالث، هنا على هذه الأوراق أو في هذه الصفحات المنشورة، كلمات لا تعبّر عمّا كنت أعتزم كتابته منذ أسبوعين تقريبًا. المخططات تغيّرت، سريع هذا الزمن، يحمل لنا المفاجآت كهدايا ليلة الميلاد تحت الشجرة الخضراء التي لم أعلّق عليها أيّ أضواء حتى الآن. هذا النصّ الذي كان من المفترض أن يُنشر بعد ميلاد فيروز وصوتها الصادح بالحبّ والوفاء والجنون والغياب، والذكرى، خانته التعابير صبيحة الخميس في أغنيتها: "إذا رجعت بجنّ وان تركتك بشقى"، اغتالته مشاعر كنت أودّ نكرانها ثلاثًا كفعل "بطرس" بمعلّمه المسيح، لكنّي اعتزمت بدلًا من ذلك فعل ما تصفني به جدّتي دومًا:
انت متل "توما" (القديس) ما بتصدّقي لتدقري (تلمسي).
لا أعلم إذا كنت حقًا توما لحبّ بالتجربة أو ضعف ثقة بالإحساس ولكن ما أعلمه حقًا أنّ نصّا كاملًا عن أهميّة التواصل في العلاقات، تركته طوعاً لا مجبرة، إيمانًا منّي بأن الكلام أحيانا قد يقتل الفعل.
إنّها الساعة السابعة والنصف صباحًا في توقيت عمّان، اليوم مشابه لأمس، لا جديد سوى ذاك الوجع الذي يجتاح قلبي، يعتصره. لا يتراءى أمامي سوى سؤال واحد، أعيده لنفسي في محاولة النهوض من السرير: كيف أتجاوز كلّ هذا الحزن؟
باب حزني الآخر يحمله باعة في شوارع الحمراء في بيروت، وبضاعة مكدّسة على الرفوف، اقتلع منها أطرافًا كي أحشو بها جذوري. بابٌ لم أُجِد حتى هذه اللحظة فتحه في أسواق عمّان المزدحمة بالمولات والأسواق التجارية.
أنا التي أبحرت في كلّ الأغاني التي تدمي القلب، واكتسيت بكلّ الأغطية الثقيلة علّها تمنع برد الشتاء من التسرّب إلى أطرافي. أنا التي مشيت طويلًا في شوارع لا أعرفها، بكيت حين سألني السائق كيف هي حالي؟7% شحن بطارية حاسوبي المحمول، القطرات الأخيرة أريقها في هذا النصّ محاولة استعادة الفكرة الأولى. كيف أتجاوز كلّ هذا الحزن؟ فأجاوبكم ليس من باب خبرة ولا من طول باع في الحب، ولا في العلاقات بل في صبر وشغف زرعتهما طويلًا في الأمنيات: نعم، أنا التي أبحرت في كلّ الأغاني التي تدمي القلب، واكتسيت بكلّ الأغطية الثقيلة علّها تمنع برد الشتاء من التسرّب إلى أطرافي. أنا التي مشيت طويلًا في شوارع لا أعرفها، بكيت حين سألني السائق كيف هي حالي؟ خبأت خوفي من المستقبل في مرضي، في سعالي ووجهي الشاحب، وبحتُ بالشوق قبلًا لاهثة منحتها لقطّي "طبوش". أنا التي لا أجيد التعامل مع الحزن إلاّ بعيشه، لا أهرب منه، لا أخذله، صديقة وفية، مطيعة لما يحتاج من وقت ومساحة. ولكن ما لا أجيده تمامًا في هذه اللحظات، كيف أدفع كلّ هذا الصمت عنّي، صمتُ قلبٍ محبّ رفعته السنين كالنسائم على جدائلي القصيرة، صمت بات كالصقيع يرمي بأذياله على أنفاسي. ولكنّي أخيرًا، أسمع الطلقة قادمة، صراخٌ يعلو، ورصاصات الرحمة تنطلق اتجاهي. أغمض عينيّ، أسمع صوته في الخلفية، يخسر معركته ويساعد أصدقاءه في اللعبة المنشودة على الهاتف. تسيل الدمعة، وأتمنّى فقط، لو أنّه لا يخسر كلّ الحرب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين