أنجبت أختي طفلاً، وهي تعيش في العاصمة الألمانية برلين. فكرت أختي (اللبنانية) وزوجها (الفلسطيني) مليًا قبل اختيار اسم المولود الجديد، وانتظرا إلى حين ولادته كي يعطوه الاسم. وبعد جولات كثيرة، استقر الخيار على الاسم: تيمور- شمس. كان من ضمن الاعتبارات التي حاولت أختي وزوجها التفكير بها أن يكون الاسم عربيًا، لأن ذلك من الأمور التي قد تربط المولود بثقافته، دون أن يكون للاسم دلالات دينية وأن تكون أحرفه سهلة النطق في اللغات المختلفة نظرًا لأنهما لا يعيشان في لبنان أو أي بلد عربي آخر.
ليس الاسم وحده كافيًا لاعطاء الهوية، فبعد الولادة ببضعة أعوام يجب أن يفكرا ببطاقة الهويّة التي على الطفل أن يأخذها؟ بمعنى، أي أوراق ثبوتية سيحملها. لكن ابن اختي اللبنانية، لا يمكن أن يكون لبنانيًا.
يحلو لي أن اعتقد أننا عائلة من المواطنين الصالحين، غير أننا ابنتان وابن لوالديْن لبنانيين، فبالتالي لا نملك غير جواز سفرنا اللبناني. عاش أهلي في هذا البلد كل حياتهم، ورفضوا السفر عندما سنحت الفرصة لإيمانهم بقضية الوطن وبنائه وضرورة خوض كل المعارك من أجل ذلك. كبرنا في نفس السياق وانحزنا إلى قضية الوطن، غير أن وقتنا كان وقت المعارك الصغيرة التي منيت بالخسارة في معظمها. رغم تشبثنا بحقنا كمواطنين ومواطنات.
كل ذلك ونحن نعتقد أننا مواطنات بحق، إلى أن قررت إحدانا أن تُمارس حقها الطبيعيّ بأن تصبح أمًا، عندها، يُصبح من غير الطبيعي أن تمنح طفلها هويّتها. عندها، تعود لأن تكون امرأة فقط، لا مواطنة. رغم أننا كنساء، نعمل ونمارس الحياة يوميًا، غير معفيات من الضرائب أو رسوم تجديد جوازات السفر، كما أننا لا ندفع نصف القيمة في أي من المعاملات الرسمية!
لكن ذلك غير كافٍ لإثبات أهليتنا بمنح حق طبيعي آخر لمن نلده، وكأن الحق في ذلك يُمنح فقط للرجل، كما لصاحب البذرة اللبنانية، وليس للأرض الحاضنة مهما كانت لبنانية.
كالكثير من العائلات، نحن أيضًا هاجر جزء منا منذ الحرب إلى بلاد مختلفة، كان حظ أخوالي في استراليا، تزوجوا وأنجبوا في بلاد بعيدة، وحصل أبناؤهم بطبيعة الحال على الجنسية اللبنانية.
لا بل أيضًا، حتى أحفادهم من أم استراليّة، حصلوا على الجنسية اللبنانية. لكن أختي، ونساء لبنانيات كثيرات، وُلدن وعشن في لبنان، يحملن هوية البلد والإقامة فيه لأكثر من عشر سنوات، يدفعن الرسوم المطلوبة لتجديد جواز سفرهن كل مرة، ولاستخراج بيان قيد في كل معاملة، كل ذلك غير كافٍ بنظر القانون لأن تمنح أوراق هويّتها لمن سيحمل هويّتها رغمًا عن أنف كل الأوراق الرسمية.
عشتُ فترة خارج لبنان، واقترن تعريفي عن نفسي بأني لبنانية، بكثير من المرات، بأن وضعي كامرأة في المجتمع أفضل من وضع النساء في الدول المجاورة. حاولت مرارًا أن أصحح هذا اللغط، فاعتبار أن لدي من الحرية في الحركة في لبنان، أو حتّى حرية اللباس غير مقترنة البتة بطريقة التعامل القانوني معي. لا بل قد يكون في الكثير من الأحيان، أسوأ من الدول المجاورة، نظرًا لغياب قانون مدني للأحوال الشخصية، وخوضنا لمعارك كثيرة في المحاكم الدينية للحصول على عدل في المسائل الشخصية. فبالتالي ليست المسألة مرتبطة بالجنسية فقط، بل بحجم أكبر لإذلالنا كنساء في منظومة قوانينا. لا بل كيف تطورت المنظومة الأبوية لإيهامنا بأننا حائزات على مركز مميز في مجتمعنا دون أن يرتبط ذلك بوضعنا القانوني.
ينادى عليه باسم أمّه فقط عندما يكون مجرمًا، أو متهمًا أو عند موته، كأن في تلك السياقات فقط يثبت أن الأمّ جزء من كيان هويّة ابنها، وبالتالي لا يصح أن تكون جزءًا من هويّتها إلا إذا كنت موضع اتهام أو ميتًا.
ليس الاسم وحده كافيًا لاعطاء الهوية، فبعد الولادة ببضعة أعوام يجب أن يفكرا ببطاقة الهويّة التي على الطفل أن يأخذها؟ بمعنى، أي أوراق ثبوتية سيحملها. لكن ابن اختي اللبنانية، لا يمكن أن يكون لبنانيًا.
رغم أننا كنساء، نعمل ونمارس الحياة يوميًا، غير معفيات من الضرائب أو رسوم تجديد جوازات السفر، كما أننا لا ندفع نصف القيمة في أي من المعاملات الرسمية!
ينادى عليه باسم أمّه فقط عندما يكون مجرمًا، أو متهمًا أو عند موته، كأن في تلك السياقات فقط يثبت أن الأمّ جزء من كيان هويّة ابنها، وبالتالي لا يصح أن تكون جزءًا من هويّتها إلا إذا كنت موضع اتهام أو ميتًا.لم ولن يحصل ابن اختي، تيمور-شمس على بطاقة هويّة لبنانية، بل حصل على بطاقة تعريف على أنّه لاجئ فلسطيني في لبنان. وبذلك أصبح له هوية عربية، وحقًا بالعودة إلى فلسطين مكفولًا من الأمم المتحدة. حتى أختي، وبما أنّها أمّ للاجئ، يُمنح لها حق العودة مع عائلتنا. أصبح في عائلتنا لاجئ صغير يحمل من الهويّة الثقافيّة والسياسيّة الكثير قبل أن يفقه الحروف. لكن ذلك لن يلغي، أننا رغم كل شيء، غير مؤهلات لأن نُمارس حقنا بامتلاكنا هويّة ومنحها لمن نمنحه الحياة. وليس هذا الموضع ذلًا للنساء في بلدي فقط، بل لرجالها أيضًا على حد سواء، فإن قبلنا به كنساء نظرًا لأن واقعنا القانوني عمومًا مغلوب على أمره، فكيف يرضى به الأبناء الرجال - أصحاب الحظية في القانون - لأمهاتهم؟إن أختي وزوجها وابنهما محظوظون لأنهم يعيشون في بلاد بعيدة، وبحصولهم على أوراق ثبوتية أجنبية تشملهم بقوانينها التي تحترم المواطنين وتتعامل معهم على هذا الأساس. لكني لا أستطيع سوى أن أفكر بآلاف الذين لا يملكون هذا الامتياز. ولا أستطيع سوى أن أفكر بالقوانين التي تطالني وتعاملني كنصف كيان.لن نستطيع أن نخوض معارك تغيير كل القوانين المجحفة بحقنا كنساء، من قضية الحضانة، والعنف والاغتصاب، ونحن بنظر القانون أنصاف مواطنات، ولن تستقيم الأمور قبل أن يُنظر للمرأة في القانون اللبناني على أنها كيان مكتمل. أقول قولي هذا وأنا أدرك أننا أصلًا في خضم معارك للحفاظ على مواطنيتنا في شبه الدولة التي نعيش فيها، وأن اختلال موازين القانون يطالنا ذكورًا وإناثًا على السواء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...