بدأت نيتفليكس بعرض الموسم الثاني من مسلسل " American vandal"، الذي يشبه تحقيقاً استقصائياً طويلاً، أو وثائقياً من عدة حلقات، ونشاهد في الموسم الأول فيه طالبان في مدرسة ثانويّة يبحثان عن مخرّب قام برسم قضبان ذكريّة على سيارات المدرسين.
الوثائقي أشبه بـmockumentary، يتبنى الصيغة شديدة الجديّة (الشكل) التي تميز الوثائقي التقليدي ويحاكي قدرتها على الإقناع عبر أسلوب إجراء المقابلات، وكيفية صياغتها، وآلية التصوير والانتقال بين أجزاء الحكاية، وينسحب ذلك على طبيعة الوثائق المستخدمة (المضمون) سواء كانت صوراً أو تسجيلات فيديو أو سجلات شرطة.
المثير للاهتمام أن كل ما نراه متخيل ووهمي، سواء الطلاب أو القضبان الذكريّة أو المدرسين، لكنه يقّدم بأسلوب جدي يسعى للإقناع، ويحاكي إطاراً معروفاً نصدّق عادة محتواه، فالمسلسل أشبه ببارودي-Parody، يسخر وينتقد آلية تكوين "الحقيقة" الوثائقيّة، عبر تبني أسلوب "ظهورها"، ثم إنتاج نسخة متخيّلة ساخرة، تخلق الشك بين اليقين والوهم.
تكمن خطورة الباورديّ في قدرتها على خلخلة أشكال وتمثيلات الماضي، هي تعيد إنتاجها وآليات تكوينها، كاقتباس غير جديّ، أو لهو ولعب يفكك المثاليّة التي تحتويها الأشكال الثقافيّة والفنيّة السابقة، هي تراهن على الانحرافات عن "الأصل" وتراكُمها لنفي الأصل ذاته. فالجهود الجماليّة التي تتبنى المفارقة الساخرة، تحرر الحاضر من سطوة ما مضى من جهة، ومن أساليب الإنتاج التي تراكمت وتشرعنت بحكم الاعتراف الذي نالته من جهة أخرى.
تلاشي هالة العمل الفنيّ بسبب القدرة على النسخ والتبادل اللامتناهيين، جعل للمحاكاة دوراً في زعزعة المتخيّلات المثاليّة والنوستالجيّة عن تاريخنا البشرّي، ذاك المتخيل الذي تحاول الأشكال الثقافيّة الآن أن تستحضره أو أن تحتفي بالمنتجات التي كانت تُمثله، والتي تُواجَهُ بعدد لا متناه من النسخ الساخرة، التي تنفي كل واحدة منها قيمة ما عن الأصل، جماليّة كانت أوسياسيّة.
فالنسخ الساخرة تقتبس الأصل، وتعيد اقتباسه، وتنسخه وتكرره مُحررة أياه من الشروط التي أنتجته، وتضعه بمواجهة شروط جديدة، وهنا تكمن "خطورة" المحاكاة، فهي تحول الجهد الجمالي والفنيّ، إلى وسيلة لفضح الشروط المحيطة بالأصل، تلك التي سببت بنيله اعترافاً ما، سواء كان راقياً أو مبتذلاً، وتفكك أحكام القيمة المرتبطة بالأصل والتي تتلاشى مع كل تكرار.
فكل محاكاة جديدة تلتقط لحظة من الزمن، وتخلخل الإيقاع، وتنحرف على الأصل وتنزاح عنه، هي تسلم به لكنها تسائله، فهي ليست فقط أسلوباً للنفي، بل نفياً للأسلوب، للطريقة والتقنية المُشرعنة، وتجعل من النسخة وسيلة لتفكيك الأصل واكتشاف خفاياه، كنسخ البوسترات الكثيرة التي أنتجها رومان سيزلوفيتش للموناليزا، فهي مرة تشبه ماو تسي تونغ، ومرة مشوشة كأنها ضمن شريط سينمائيّ، فكل واحدة منها تسائل قيمة البورترية الشهيرة وسياسات المتحف التي تقدّسها.
أمام عدد لا متناه من النُسخ، الفنية والبورنوغرافية والثقافيّة، يفقدُ التاريخ تاريخانيته، أي أن "الحقيقة" و"الوثيقة" وأساليب إنتاجهما أًصبحت محط الشك، فالاستعراض والتسليع حوّلا الحقيقة إلى سلعة ثقافيّة يُمكن شرائها، لتأتي النسخ الساخرة والتراجيديّة للتشكيك بهذه السلع، خصوصاً أن التاريخ و"جديته" أصبحا مشابهين للثقافة الشعبيّة الهزليّة، والأحاديث اليوميةّ والصور المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعيّ التي يمكن إنتاجها فرديّاً.
تسفّه المحاكاة أساليب إنتاج المعرفة، وتستغلُ جديتها شكلاً أو مضموناً، وتضحك بوجه السلطة التي تتبنى القدرة على إنتاج الحقيقة، لنصبح وكأننا في مرحلة استُبدل فيها التاريخ والماضي بنسخة ساخرة منه أو نسخة لا جديّة، ذات أثر نقديّ يفتح التساؤلات على الشكل القائم للمعرفة، خصوصاً أن النسخ متفاوتة الجديّة للحقيقة أصبحت كالإعلانات وأشكال الترفيه، استعراض لا متناه للقدرة على خلق المعنى، والأهم أن البعض يتداول هذه "الإعلانات" على أنها معارف وحقائق.
هذه المواجهة مع سلطة التاريخّ بأسلحة جماليّة لا جديّة نراها في "مؤسسة أطلس" التي أنشأها الفنان اللبناني وليد رعد، وهي مؤسسة وهمية تبحث في تاريخ التصوير أثناء الحرب الأهلية اللبنانيّة، وتُنتج مجموعة من الوثائق والصور والشخصيات المتخيلة لدراسة تاريخ التصوير وآليات إنتاج الوثيقة، في مزج للواقعي مع المتخيل، وكأن رعد يلعب جدياً بأشكال تمثيل التاريخ.
https://vernissage.tv/2007/10/15/the-atlas-group-1989-2004-a-project-by-walid-raad-culturgest-lisbon-portugal/
أصبح التاريخ و"جديته" مشابهين للثقافة الشعبيّة الهزليّة، والأحاديث اليوميةّ والصور المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعيّ التي يمكن إنتاجها فرديّا
"مؤسسة أطلس" التي أنشأها الفنان اللبناني وليد رعد، وهي مؤسسة وهمية تبحث في تاريخ التصوير أثناء الحرب الأهلية اللبنانيّة، وتُنتج مجموعة من الوثائق والصور والشخصيات المتخيلة لدراسة تاريخ التصوير وآليات إنتاج الوثيقة، في مزج للواقعي مع المتخيل، وكأن رعد يلعب جدياً بأشكال تمثيل التاريختعكس المحاكة الساخرة بعمق أزمة ما بعد الحداثة، وتشكل واحدة من أعراضها، بوصفها تمييعاً علنيّاً للـ"حقيقة الماضيّة" وانتقاداً لقدسيتها، سواء كانت حكاية مقدسة، أو عملاً فنياً أو نصاً صحفياً أو وثيقة قانونيّة. فكما ينتقد فيلم "حياة براين" الحكاية المسيحيّة ويفكك قداسة مكوناتها، يفتضح غوميز بينيا شكل المتحف وحكاياته في عرض الأداء الشهير "زوجان في قفص" حيث يستعرض نفسه وشريكة له في قفص في عدد من المتاحف، بوصفهما آخر الناجين من قبيلة وهميّة. تشكك المحاكاة بأشكال ظهور "المُنتَج" الفني أو الثقافيّ، والمكونات التي تجعله ناقلاً للمعرفة، وتوظّف التذوق الجماليّ والسخرية كوسيلة للتشكيك بهذه المعرفة، هي تعيد إنتاج "أصل" ما، لا لتشكك فقط بأصالته، بل بما يجعله على هذا الشكل. هنا نذكر تجربة الكندي كنت مونكمان الذي يعيد إنتاج أشهر اللوحات الأوربيّة مغيراً مكوناتها الداخليّة، ومُسائلاً التاريخ الاستعماريّ الذي تحويه، وكيفية تصوير الآخر سابقاً، في سبيل الإضاءة على آثار هذه النظرة الفوقيّة التي مازالت مستمرة حتى الآن، محاوراً طرح أساليب لتجاوزها، وكيفية تفكيك القيم التي رسختها في عقولنا ومخيلتنا. تزعزع المحاكاة كما في لوحات مونكمان العلاقات الداخليّة ضمن المنتج الثقافيّ، وتضيء على مكوناته "الجماليّة" التي تعكس علاقات القوة الخارجيّة، كتلك التي تجعل يسوع وسوبر مان أبيضاً في أغلب التمثيلات الثقافيّة، كما أنها تستبدل الجدي بالمضحك أو "المُختلف"، وتسعى لفهم القيمة التي تحويها "التمثيلات الأصليّة" ومصدر هذه القيمة، جاعلة السياسات الخفية وراء "الظاهر الجماليّ" محط جهود الفنان الذي يحاول أن يجعلها لا فقط مرئيّة، بل جزء من التكوين الجمالي للمنتج الذي يتبنى المحاكاة، أي ينقل علاقات القوة من خارج الإطار إلى داخله. مثال آخر هو المصورة الأمريكيّة إينانا جاكسون، التي أعادت إنتاج الصور الفوتوغرافيّة الاستعمارية التي التقطت في القرن التاسع عشر-تلك التي ناقشناها في مقالات سابقة-، وجعلت من صورها الجديدة وسيلة لمسائلة التاريخ السابق، و خصوصاً فيما يتعلق بالعريّ، الذي نراه مباحاً في الصورة الطبية الاستعماريّة وفي صور حدائق الحيوان البشريّة لكنه يثير الجدل في الصور المعاصرة التي تتبنى ذات "الأسلوب" مع اختلاف في المكونات الداخلية التي تظهر المرأة السوداء بشكل جماليّ، لا دوني شبقيّ. https://cast.mg.co.za/vod/Ayana_final.mp4
أمام عدد لا متناه من النُسخ، الفنية والبورنوغرافية والثقافيّة، يفقدُ التاريخ تاريخانيته، أي أن "الحقيقة" و"الوثيقة" وأساليب إنتاجهما تصبح محط الشك
تلاشي هالة العمل الفنيّ بسبب القدرة على النسخ والتبادل اللامتناهيين، جعل للمحاكاة دوراً في زعزعة المتخيّلات المثاليّة والنوستالجيّة عن تاريخنا البشرّي، ذاك المتخيل الذي تحاول الأشكال الثقافيّة الآن أن تستحضره أو أن تحتفي بالمنتجات التي كانت تُمثله، والتي تُواجَهُ بعدد لا متناه من النسخ الساخرة، التي تنفي كل واحدة منها قيمة ما عن الأصل، جماليّة كانت أوسياسيّة.
فالنسخ الساخرة تقتبس الأصل، وتعيد اقتباسه، وتنسخه وتكرره مُحررة أياه من الشروط التي أنتجته، وتضعه بمواجهة شروط جديدة، وهنا تكمن "خطورة" المحاكاة، فهي تحول الجهد الجمالي والفنيّ، إلى وسيلة لفضح الشروط المحيطة بالأصل، تلك التي سببت بنيله اعترافاً ما، سواء كان راقياً أو مبتذلاً، وتفكك أحكام القيمة المرتبطة بالأصل والتي تتلاشى مع كل تكرار.
فكل محاكاة جديدة تلتقط لحظة من الزمن، وتخلخل الإيقاع، وتنحرف على الأصل وتنزاح عنه، هي تسلم به لكنها تسائله، فهي ليست فقط أسلوباً للنفي، بل نفياً للأسلوب، للطريقة والتقنية المُشرعنة، وتجعل من النسخة وسيلة لتفكيك الأصل واكتشاف خفاياه، كنسخ البوسترات الكثيرة التي أنتجها رومان سيزلوفيتش للموناليزا، فهي مرة تشبه ماو تسي تونغ، ومرة مشوشة كأنها ضمن شريط سينمائيّ، فكل واحدة منها تسائل قيمة البورترية الشهيرة وسياسات المتحف التي تقدّسها.
أمام عدد لا متناه من النُسخ، الفنية والبورنوغرافية والثقافيّة، يفقدُ التاريخ تاريخانيته، أي أن "الحقيقة" و"الوثيقة" وأساليب إنتاجهما أًصبحت محط الشك، فالاستعراض والتسليع حوّلا الحقيقة إلى سلعة ثقافيّة يُمكن شرائها، لتأتي النسخ الساخرة والتراجيديّة للتشكيك بهذه السلع، خصوصاً أن التاريخ و"جديته" أصبحا مشابهين للثقافة الشعبيّة الهزليّة، والأحاديث اليوميةّ والصور المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعيّ التي يمكن إنتاجها فرديّاً.
تسفّه المحاكاة أساليب إنتاج المعرفة، وتستغلُ جديتها شكلاً أو مضموناً، وتضحك بوجه السلطة التي تتبنى القدرة على إنتاج الحقيقة
تسفّه المحاكاة أساليب إنتاج المعرفة، وتستغلُ جديتها شكلاً أو مضموناً، وتضحك بوجه السلطة التي تتبنى القدرة على إنتاج الحقيقة، لنصبح وكأننا في مرحلة استُبدل فيها التاريخ والماضي بنسخة ساخرة منه أو نسخة لا جديّة، ذات أثر نقديّ يفتح التساؤلات على الشكل القائم للمعرفة، خصوصاً أن النسخ متفاوتة الجديّة للحقيقة أصبحت كالإعلانات وأشكال الترفيه، استعراض لا متناه للقدرة على خلق المعنى، والأهم أن البعض يتداول هذه "الإعلانات" على أنها معارف وحقائق.
هذه المواجهة مع سلطة التاريخّ بأسلحة جماليّة لا جديّة نراها في "مؤسسة أطلس" التي أنشأها الفنان اللبناني وليد رعد، وهي مؤسسة وهمية تبحث في تاريخ التصوير أثناء الحرب الأهلية اللبنانيّة، وتُنتج مجموعة من الوثائق والصور والشخصيات المتخيلة لدراسة تاريخ التصوير وآليات إنتاج الوثيقة، في مزج للواقعي مع المتخيل، وكأن رعد يلعب جدياً بأشكال تمثيل التاريخ.
https://vernissage.tv/2007/10/15/the-atlas-group-1989-2004-a-project-by-walid-raad-culturgest-lisbon-portugal/
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...