في ظل الأزمات التي يعاني منها اليمن، يظهر على السطح بين حين وآخر نقاش ساخن بين الداعين إلى يمن علمانية، بعيداً عن سيطرة القوى الدينية والقبلية التقليدية، وبين معارضي الفكرة.
أحد آخر السجالات افتتحته الناشطة اليمنية الحاصلة على جائزة نوبل للسلام توكل كرمان حين دعت، في سلسلة تغريدات على حسابها على تويتر في أغسطس الماضي، إلى دولة علمانية في اليمن تُنهي سيطرة القوى الدينية.
كانت هذه الدعوة غريبة كونها صادرة عن شخص مثل كرمان، المحسوبة على حزب التجمع اليمني للإصلاح، فرع الإخوان المسلمين في اليمن، وأثارت جدلاً كبيراً بين العلمانيين ومناهضي العلمانية.
أحد أول ردود الافعال أتى من محمد عبد المجيد الزنداني، نجل عالم الدين وعضو شورى الإصلاح عبد المجيد الزنداني، الذي قال إن العلمانية تجلب الفقر لبلاد المسلمين وإنها نبتة خبيثة في أرض طيبة.
هذا الكلام أثار الناشطة ماجدة الحداد فردّت عليه عبر تويتر بسؤال ساخر: "لماذا تعيش أنت وعائلتك في تركيا؟ عد إلى اليمن حيث الغنى والرخاء والتقدم".
وأصدرت هيئة علماء اليمن بياناً قالت فيه إن "العلمانية نظام وضعي يقوم على أساسٍ من الإلحاد يناقض الإسلام في جملته وتفصيله، وتلتقي مع الصهيونية العالمية والدعوات الإباحية والهدامة، لهذا فهي مذهب إلحادي يأباه الله ورسوله والمؤمنون"، داعيةً شعب اليمن المسلم إلى الحذر من مقولات العلمانيين المخادعة والمضللة باعتبار ذلك استدراجاً لهم ليبدّلوا دينهم ويسقطوا في الكفر.
تاريخ العلمانية في اليمن
الخطاب العلماني في اليمن ليس حديثاً، فقد كانت هناك أصوات تطالب بالعلمانية بعد قيام الوحدة اليمنية عام 1990، وبأن تكون "دولة الوحدة" الوليدة علمانية، باعتبار أن الحزب الاشتراكي كان شريكاً فيها. وقبل الوحدة، كان نظام الدولة في اليمن الجنوبي ماركسياً، وكانت سلطته موالية للاتحاد السوفياتي، وكانت قوانين الدولة مدنية ونص بعضها على منع تعدد الزوجات، كما كانت النساء في الجنوب متحررات من النقاب بعكس النساء في الشمال. لذلك، كان اليمن الجنوبي الدولة العلمانية الوحيدة في شبه الجزيرة العربية. أما في اليمن الشمالي، فكان الوضع مختلفاً كثيراً. فإنْ كان فيه بعض القوى التي تؤمن بالعلمانية، مثل الحزب الاشتراكي والناصريين والقوميين، "إلا أن هذه المطالبات كانت محدودة بسبب نفوذ القوى الدينية والقبلية التي سيطرت على الشمال بعد 1970، خصوصاً بعد تعرّض الدكتور والباحث حمود العودي لمحاولة اغتيال في تلك الفترة بسبب كلمات محدودة دعا فيها للدولة المدنية"، كما يقول لرصيف22 الباحث خالد قاسم. فرض هذا الواقع نفسه في شمال اليمن رغم أن ثورة 26 سبتمبر 1962 التي أسقطت الحكم المتوكلي (الزيدي) في شمال اليمن كانت "تجسّد ذروة العلمانية"، حسبما يصفها الدكتور عبد الكريم غانم. ويقول غانم لرصيف22 إن تلك الثورة "أطاحت بنظام ثيوقراطي يزعم أن شرعيته مرتبطة بالدين، وأتت لتفصل بين الدين والدولة وإنْ لم تعلن ذلك، فما يعني اليمنيين من الرئيس ليس تقواه أو حسن عبادته لله بل مدى قدرته على النجاح في الوظائف الدنيوية للدولة وفي خدمة الشعب". وظهرت في بداية دولة الوحدة أصوات تنادي بالعلمانية، من أبرزها صوت الأديب اليمني الدكتور عمر الجاوي، أحد مؤسسي اتحاد الأدباء اليمنيين، إلا أن صوته لم يكن مسموعاً، كما تسببت ميوله بمحاولة اغتياله عام 1992، لكنه نجا. وكان ضعف الأصوات المنادية بالعلمانية في دولة الوحدة نتيجة طبيعية لتزايد نفوذ القوى الإسلامية في اليمن والتي كانت شريكاً في الحكم حتى عام 1997، ممثلة بحزب التجمع اليمني للإصلاح، خصوصاً بعد حرب صيف 1993 وحملات التكفير الكبرى التي قادتها قوى الشمال، ومنها الإصلاح، ضد الجنوبيين الاشتراكيين. فقد اتجهت القبائل الشمالية المؤيدة لحزب الإصلاح لتقاتل في جنوب اليمن، بعد صدور فتوى من علمائه تقول إن محاربة الاشتراكيين الماركسيين ودعاة العلمانية واجب وفرض ديني وليست فقط للحفاظ على الوحدة اليمنية الناشئة. انتصرت القوى الدينية والقبلية وخفت تأثير الأحزاب اليسارية فلم تعد تتحدث عن العلمانية بجرأة ووضوح، إلا أن بعض القيادات الاشتراكية ظلت تنادي بضرورة علمنة اليمن وفرض سيادة القانون والعدالة والمساواة. وكان أبرز هذه الأصوات صوت القيادي الاشتراكي الأكثر شهرة جار الله عمر، الأمين العام للحزب الاشتراكي وأحد القيادات المعارضة للرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح. ولكن عمر اغتيل عام 2002، أثناء مشاركته في المؤتمر العام الثالث لحزب الإصلاح في العاصمة صنعاء. وقتها، اتهم المؤتمر الشعبي العام (الحزب الحاكم) حزب الإصلاح بتدبير حادثة الاغتيال باعتباره كان ضيفاً في مؤتمره، بينما اتهم الأخير الذي كان في مرحلة خلاف مع صالح ووسائل إعلامه النظام اليمني بتدبير الحادثة، لمنع التقارب بين معارضيه. كان التوجه ضد العلمانية توجهاً رسمياً في دولة الوحدة، فقد تم اعتماد مناهج دراسية تصنّف العلمانية بأنها معادية للإسلام. فمنذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، بدأ تدريس العلمانية باعتبارها فكراً مضادَّ للإسلام ولقيم المجتمع ويستهدف تضليل الشباب، في منهج الثقافة الإسلامية في السنة الأولى من الدراسة الجامعية في جميع الجامعات اليمنية الخاصة والحكومية. ساهم ذلك في تنشئة جيل شبابي معادٍ لفكرة العلمانية. ويقول الشاب الناشط مصطفى حسن لرصيف22 إن القوى التقليدية حاولت من خلال فرض هذه المواد "صناعة جيل منغلق وغير طموح إلى دولة القانون والعدالة التي تنازع هذه القوى". ولكنه يضيف أنهم لم يتمكنوا من ذلك، "فنصف مَن يطالبون بالعلمانية هم شباب جامعيون درسوا هذه المواد إلا أنهم لم يقتنعوا بما درسوه في ظل تأخر بلادهم الثقافي والعلمي والاقتصادي، وهو ما ظهر جلياً عام 2011 وبعده".خطاب العلمانية بعد الثورة
مع بدء الاحتجاجات المطالبة بتنحي صالح عن الحكم مطلع عام 2011، عادت تظهر بعض الأصوات المطالبة بالعلمانية، إلا أنها لم تكن عالية، مع سيطرة القوى التقليدية على ساحات الاعتصامات في صنعاء وغيرها من المدن اليمنية. ومن أبرز هذه الأصوات التحالف المدني لدعم ثورة الشباب والذي تكوّن من مجموعة كبيرة من الشباب اليمنيين المنادين بدولة علمانية. وبالرغم من أن خيمة هذا التحالف كانت قرب خيام التجمع اليمني للإصلاح، إلا أن شباب التحالف كانوا ينادون، عبر ندوات واجتماعات، إلى أن يكون اليمن دولة علمانية. ومن أبرزها أيضاً تجمع شباب اليسار المكوّن من مجموعة شباب ينتمون إلى أحزاب اليسار كالبعث والاشتراكي والناصريين، واعتبروا أن الثورة يجب أن تؤدي إلى دولة علمانية وسيادة القوانين لا الأحكام القبلية أو أحكام رجال الدين. ولكن بالرغم من وصول مجموعة من هؤلاء الشباب إلى مؤتمر الحوار الوطني (2013-2014)، إلا أنهم لم يتمكنوا من طرح أفكارهم تلك. ويقول الناشط الشبابي وعضو مؤتمر الحوار الوطني طارق الباشا لرصيف22 إن مؤتمر الحوار الوطني الذي انعقد في اليمن وضم جميع أطياف المجتمع اليمني والأطراف السياسية كان فرصة حقيقية لطرح جميع الآراء والمواقف بدون خوف أو خجل. ولكنّه يضيف أن موضوع العلمانية لم يُطرح بشكل رسمي نظراً إلى "حساسية الموضوع ولوجود القوى التقليدية الرافضة حتى لطرح علمانية الدولة على طاولة الحوار"."نبتة خبيثة في أرض طيبة" و"نظام وضعي يقوم على أساسٍ من الإلحاد يناقض الإسلام في جملته وتفصيله"؟ أم "آلیة لتحقيق الحریة والمساواة ومنع الاستبداد باسم الدین أو الإیدیولوجیا"؟... سجالات العلمانية في اليمن
تبنى اليمن بعد الوحدة توجهاً رسمياً ضد العلمانية. ومنذ منتصف التسعينيات، بدأ تدريسها باعتبارها فكراً مضادَّ للإسلام ولقيم المجتمع ويستهدف تضليل الشباب، في منهج الثقافة الإسلامية في السنة الأولى من الدراسة الجامعيةوبقيت أصوات مدنية تطرح موضوع العلمانية بجرأة ولكن بشكل فردي بعيداً عن أية تنظيمات سياسية وحزبية حتى لا يُحسَب موقفها على تلك الجهات.
تهديد العلمانيين
في 14 مايو 2016، اغتيل الطالب أمجد عبد الرحمن على يد متشددين في مدينة عدن جنوب اليمن، وكان إسلاميون قد هددوه بسبب مشاركته في إدارة حلقات نقاش تدعو إلى تحرير المرأة وإلى دولة علمانية. ومع إطلاق توكل كرمان دعوتها إلى العلمانية، وردّ هيئة علماء اليمن الحاد عليها، قدّمت مجموعة شباب علمانيين بلاغاً إلى النائب العام ضد الهيئة، وعلى رأسها محمد عبد المجيد الزنداني، بسبب بيانها الذي وصفوه بأنه يحرّض ضدّهم. طالب هؤلاء الشباب الذين أطلقوا على أنفسهم اسم "نشطاء الفكر في اليمن" النائب العام في بيان بالقيام بمسؤولياته في حماية أبناء الشعب محذّرين من أن التقاعس عن ضبط المحرضين قد يجعل مصيرهم مثل مصير أمجد عبد الرحمن وغيره. ومع أن هذا النقاش كان ساخناً ووصل إلى حد التكفير والتهديد إلا أنه ظل مقتصراً على شريحة محددة من الكتاب والمثقفين وعلماء الدين، ولم يشارك فيه عامة الناس الذين طحنتهم الحرب ولا يضعون العلمانية في قائمة أولوياتهم. وكتب الكاتب جلال الحلال، عبر سلسلة منشورات على صفحته على فيسبوك: "نحن في الیمن مسلمون ویھود (كان لدینا یھود)، سنة وشیعة. في السنة، بعضنا شوافع وإخوان مسلمون (عابرون للمذاهب حسب زعمھم)، وفینا سلفيون. وفي الشیعة ھناك الزيود والإسماعيليون والإثناعشریون الجدد. وھناك الأحباب الصوفيون. ومن هؤلاء تتشظى الكثیر من الفرق والجماعات". وأضاف: "الجمیع تعرّض للاضطهاد في لحظة تاريخية ما، ومنھم مَن مارس الاضطهاد في لحظة أخرى. ولكي نعیش سویاً لا بد لنا من أن نتفق على طبیعة العقد الاجتماعي، وعلى ماھیة شكل الدولة التي یمكن فیھا معایشة الاختلافات دون التخلي عن قواسم العیش المشترك، وھذا ھو السؤال الرئيسي الذي یجب أن تجیب علیه العلمانية الیمنیة في البدء". وتابع: "یجب أن یكون بیّناً للجمیع أن العلمانية، كما الديمقراطية، لیست شكلاً واحداً أو وصفة متفق علیھا یسھل تطبیقھا. ھي آلیة لتحقيق الحریة والمساواة ومنع الاستبداد باسم الدین أو الإیدیولوجیا من خلال نقاش یفضي إلى اتفاق عام على العقد الاجتماعي"، مؤكداً أن العلمانية في فلسفتها العامة تضمن خيارات الفرد الروحية وممارسته لها. في المقابل، يعتبر المفكر والكاتب محمد العمراني أن العلمانية "لا تناسب اليمن فالشعب اليمني مسلم 100%، والشريعة الإسلامية لم تحكم في اليمن حتى يُقال إنها فشلت". ويضيف لرصيف22 أن "الدعوات والحملات المطالبة بدولة علمانية في اليمن تهدف إلى إرباك المشهد اليمني المعقد وتسهم في زيادة خلط الأوراق والتشويش على الأولويات الملحة والضرورية وهي الحسم العسكري المفضي إلى سلام حقيقي وأمن واستقرار شامل". ويتابع: "في الأصل، الإسلام فيه من المرونة ما يجعله يستوعب أروع ما في الأنظمة والنظريات السياسية المختلفة مثل الانتخابات والتداول السلمي للسلطة"، داعياً إلى إعطاء الدين الإسلامي فرصة "ليحكم ويحقق عدالته ويصل إلى عصره الذهبي الذي وصل إليه في العصور الماضية حين كان يعيش المسيحي واليهودي في ظل دولة الإسلام بحرية كاملة وتحت حمايته". بعكسه، يُبدي الصحافي معين النجري اعتقاده بأن الوقت الآن مناسب جداً للحديث عن الدولة المدنية وتنبيه المجتمع إلى العمل منذ الآن من أجل الوصول إلى تحقيق هذا الهدف. ويقول النجري لرصيف22 إن النقاش حول القضية ليس محصوراً بالمثقفين والإعلاميين، فمعظم الناس ممَّن يمتلكون حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي مهتمون بالقضية وانخرطوا في النقاش. وبرأيه، "يمكن تحقيق العلمانية عبر تشريعات تضمن الوصول إلى دولة مدنية، وفي مقدمتها تعديل النص الدستوري الذي ينص على أن الشريعة الإسلامية مصدر كل التشريعات والقوانين الوحيد لأنه لن يأتي بدولة مستقرة وحديثة". أما الدكتور عبد الكريم غانم، فيرى أن "مَن يرفضون العلمانية هم في الأساس يرفضون الدولة، فالعلمانية ليست شيئاً آخر سوى الدولة بالمعنى الحقيقي، الدولة التي ليس فيها نفوذ سياسي لرجال الدين ولا توظيف سياسي للدين فيها، ولا أسلمة فيها للسياسية بمسمى حزب ديني، ولا تقديس لرئيس أو فقيه، بل الكل بشر غير معصومين عن الخطأ، والقانون فوق الجميع".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...