شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
اللاجئون بكلّ وجوههم.. هكذا تحدّث غوراغوسيان

اللاجئون بكلّ وجوههم.. هكذا تحدّث غوراغوسيان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 15 نوفمبر 201805:07 م
  هناك كتبٌ كثيرة ولوحات وأفلام تتحدث عن اللاجئين، ولكن مؤخرًا حين قرأت رواية "الكذبة الثالثة" لأغوتا كريستوف، شعرتُ بتلك الذّات الممزّقة واللاجئة بين لوكاس وكلاوس، حيث يتبادل التوأمان اسميهما، ويأتي كلاوس ليبحث عن أخيه في مدينته التي غادرها وذهب. وأنا أقرأ لوحة لغوراغوسيان، الفنان الأرمني الفلسطيني، اسمها "المغادرة"، وكانت تلك اللوحة جزءًا من سيناريو كامل لحياة اللجوء، أخذتْني اللوحةُ إلى عوالم الهجرة واللجوء، فطالعتُ عالمَه الكامل ورأيتُ الذّاتَ اللاجئة بكلّ وجوهها . تتحدّثُ الجماعةُ بلغتِها الواحدة في لوحات غوراغوسيان؛ تضيعُ الوجوه كلُّها، وتذوب الملامح. وفي المأساة الجماعية تلك، تختلفُ زاوية النّظر كلّ مرّة، فأحيانًا يكون النظر عن بعد، وهو ما يجعل الصورة أوضح من الكيان المنفيّ أو المقتلع. وأحيانًا يكون الاقتراب أكثر فيسمح بتكوين الصورة؛ حيث تتلوّنُ الأجساد كلّ مرة بألوان جديدة وتتلاصقُ على نسقٍ مغاير كي تتشكّل هويّتها أكثر، وترى روحَها من الداخل. في الضوء، يستمعُ غوراغوسيان إلى همس القامات الطويلة. والأمكنة تعني له الوجود ذاته.
تتحدّثُ الجماعةُ بلغتِها الواحدة في لوحات غوراغوسيان؛ تضيعُ الوجوه كلُّها، وتذوب الملامح. وفي المأساة الجماعية تلك، تختلفُ زاوية النّظر كلّ مرّة، فأحيانًا يكون النظر عن بعد، وهو ما يجعل الصورة أوضح من الكيان المنفيّ أو المقتلع.
يخرج غوراغوسيان من لوحتِه، لكنّ لوحتَه تبقى كما هي، ولا يتغير شيء قبل المغادرة وبعدها، لأنّها بلا شكٍّ، قصتُه الحقيقية التي يتابع سردها في الذاكرة.
الفنان الأرمني الفلسطيني (1925 -1990) المنحدر من أسرة أرمنية نجت من المجزرة، ونزحت إلى فلسطين ثمّ إلى لبنان بعد النكبة، قد حمل هذه الأمكنة أخيرًا إلى الألوان، وإلى كيانٍ أسّسه بتلك الكائنات الممشوقة، ولكنه لم يجعل تلك الألوان تحاصر وجودهم. فقد جعلها مبهجة، تتنقل بين الزوايا المعتمة في حدودها الواضحة بين القامات الطويلة، لكنّها لا تغطي هذا الجرح الداكن، ولا تخفيه؛ إنها فقط مرايا لتلك الأجساد. نتطلّعُ جيّدًا كي نميّز أثر الألم هنا أو هناك، ولكن هذا الحضور المفرط للأجساد الواقفة التي تذكّر بالجثث الحية يكفي وحده. وما الذي جعل هذا الوجود يصمد رغم تغيّر الألوان التي كلّما جعلها غوراغوسيان تعزف أكثر، كلّما صار حضور هذه الأجساد متماسكًا ومتناغمًا؟ هل هو الزّمن؟ أم إرادتُها في المقاومة؟ أو ربّما حريّتها في شربِ الألوان المتسرّبة من الضوء؟ قد يكون كلّ ذلك وأكثر، فاللوحة حين تكرّر أجسادها الواقفة والغائبة، تجدّد نفسها بتلقائية، وتعبث بشخوصِها كي نقرأها كلّ مرة بطريقة أخرى. طغيان لونٍ على حساب لون آخر، ولكن في لوحاتٍ أخرى؛ تتنوّع الألوان في عمق اللوحة لتأخذ تفاصيلُها ملامح وجودٍ جديد في كينونة غير مرئية، تستحقّ أن نقترب منها أكثر وأكثر. كأنّ الفنّان يجعل عدسته أقربَ لكي نرى فسيفساء ذاك الوجود. يأخذ غوراغوسيان صورةً للكائن الجماعي، فينعكسُ الضوءُ لكي يتّضح الانكسار. الانكسار الحقيقي بلونِه الأحمر في الوسط كما في لوحة "الهمس". هنا بالتحديد يصبح للوجود معنى آخر، فيتشكّل كمكانٍ له أبعادُه وزواياه. الهمس رقصةٌ هادئة تبتعدُ عن النّشيد كثيرًا، فلا نشعر بحدّة التّفاصيل، ولا ببلاغةِ الرّموز أو حشوِ الأجساد؛ ينساب حديثُها الخافت حتى يغيب تمامًا مثل ظلالِها المتمايلة. وفي لوحة "المغادرة" (le depart)، جسدٌ واحد يغادرُ اللوحة الجماعية، ويبقى المشهدُ على حاله. الوجودية هنا لا تنسحب من جحيم الآخرين؛ فالحكاية تستمرّ أكثر، رغم غياب الفرد عن الصورة الجماعية، فتتكوّن لوحتان داخل اللوحة الواحدة. يخرج غوراغوسيان من لوحتِه، لكنّ لوحتَه تبقى كما هي، ولا يتغير شيء قبل المغادرة وبعدها، لأنّها بلا شكٍّ قصتُه الحقيقية التي يتابع سردها في الذاكرة. في تلك العزلة، يبقى كلّ شيء على حاله. يقول غوراغوسيان بلغةٍ أخرى بأنه حتى ملامح الأشخاص تبقى، كما وقفة كلّ شخص في زاويته. اللاجئ أو النازح أو المنفي، يقف في زاوية محدّدة، ويصير مكانها فراغًا ما يضيف عليه بعض الألوان. وفي لوحات غوراغوسيان الأخرى أيضًا، قد يصعب جدًّا تحديد أين تتطلع هذه الشخصيات، ولكن هنا بالذات يعطي هذا الشخص المغادر ظهرَه، وتتّضح الوجوه أكثر؛ ربّما يتطلع هذا الشخص في اتّجاه آخر، لكنّه في النهاية يغادر لتبدو اللوحة ناقصة.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image